سلسلة روّاد الإصلاح في ليبيا – 3
أسامة علي بن هامل
عاش الليبيون في عهد حكم الأسرة القرمانلية فترات من الجور والظلم والاضطرابات، أنتجتها العلاقة المتوترة بين الأسرة القرمانلية والزعامات المحلية التي عارضت سياساتها وطريقة فرض حكمها، ففُرضت عليهم الضرائب المجحفة بالقوة ونُفذت فيهم عقوبات القتل للجماعي وأُحرقت أرزاقهم، ما حتم على السادة الصوفية الاضطلاع بمهامهم وأدوارهم الوطنية التي تقتضيها أسباب وظروف كل مرحلة، وفي هذه المرحلة برز سيدي إبراهيم بن ناصر ليؤدي دوراً وطنياً يناسب متطلباتها.
وسيدي إبراهيم بن ناصر ولد بمدينة زليتن وبها توفي عام 1761م، وأوّل من ترجم له هو شيخنا د. أحمد القطعاني في موسوعته، وحلاّه بــ “صاحب التصريف المأخوذ بالاصطلام عن الحال والمقام”، ولقّبه بــ “ابن يعزى ليبيا”، وفي ثنايا ترجمته نقل الكثير من الوقائع التي تشير الى صلته بالسلطة القرمانلية، منها رسالة كتبها يوسف باشا القرمانلي بعد وفاة سيدي إبراهيم، ووجهها إلى مسؤولي مدينة زليتن في 27 شوال 1221هــ بــ “وجوب احترام قرابة سيدي إبراهيم بن ناصر وحرم زاويته وعدم التعرض لمن يلتجئ إليها” أ. هـــ (موسوعة القطعاني ج 2 ص 316).
ويُمكننا رسم صورة واضحة للدور الرّيادي الذي قام به سيدي إبراهيم استناداً لما كتبه الشيخ القطعاني في المقام الأوّل، وكذلك على مخزون الذاكرة المحلّية الليبية التي احتوت كما كبيرا من المرويات لم تتبدّل وبقيت ثابتة بالتواتر ما يزيد من قيمتها ودرجة الوثاقة في صحّتها، لنكتشف أنّه نجح في تحقيق تنمية شاملة بكل مستوياتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ووفر لها مختلف العناصر اللازمة لإرسائها، وأوّلها إرساء الأمن والعمل على ابتكار طرق سلميّة لمقاومة تعدّي السلطة الحاكمة، بل وامتدّ سعيّه وجهده الى طرابلس عاصمة الحكم القرمانلي لإصلاح المنظومة السياسيّة من داخلها.
واللاّفت في مجمل تلك المرويات أنّها تتّخذ من زاوية سيدي إبراهيم مركزا تدور حوله تفاصيلها، سواء تلك التي تتحدّث عن قيامه بتوزيع مهام بشكل متوازن بين أطياف المجتمع ومكوّناته السُكانيّة، أو عمله على احلال أنماط من التقاليد الجديدة لبثّ سلوكيات ذات أثر إيجابي بما فيها السلوكيات المتعلّقة بالاقتصاد والرّوادع الاجتماعية، وأيضا تتمحور حول الزاوية كل الوقائع والأحداث التي أظهرت الصّلة بينه وبين سلطة القرمانليين.
ومن الواضح أن سيدي إبراهيم بن ناصر حول زاويته من مجرد مكان للقاء والتعليم الى مؤسسة قوية وصل أثرها على خارج المدينة واعترفت بسلطتها الأسرة القرمانلية، ففي ثنايا المراسلة التي أشار إليها شيخنا القطعاني، نجد يوسف باشا يأمر قادة المدينة بوجوب حفظ قدر واحترام أسرة سيدي إبراهيم بن ناصر “وهناهم وقدرهم ورعايتهم وحفظ جنابهم وعدم المجاسرة عليهم وفي حرمهم بقي حرم الشيخ سيدي إبراهيم”.
وفي وضوح أكبر يؤكد مكانة الزاوية كمؤسسة حفظت الأمن واعترفت بها الأسرة القرمانلية، يُحدّد يوسف باشا حدود الزاوية وحرمها بشكل دقيق ثم يطلب من قادة المدينة أن “لا يُخرج منه (يقصد حرم الزاوية) مخوف ولا مستجير ملهوف”، بل حتى الفارّ من سلطة القرمانليين يمكنه اللجوء للزاوية ويُمنع الدخول إليها للقبّض عليه فــ”من دخله كان آمنا مطمئنا على نفسه وماله”، ويجوز لقادة المدينة الدخول للزاوية وحرمها بقصد الزيارة فقط “لا يدخل أحد حرمه من كان من خدامنا وعامة رجالنا إلا بقصد الزيارة”.
وفي آخر الوثيقة نفهم من قوله “ونحن الآن جددنا لهم” أن اعتراف الأسرة القرمانلية بسلطة سيدي إبراهيم كان منذ عهد علي باشا إذ يقول أيضا عن سيدي ابراهيم “بيده أوامرنا وأوامر والدنا”.
كما يشير وصف يوسف باشا لسيدي إبراهيم وأسرته بــ”الأمراء”، الى قوّة مؤسسة الزاوية التي ارساها سيدي إبراهيم حتى استطاعت الاستمرار من بعده.
ووفقا للنّظرة الاستراتيجية بعيدة المدى فقط عرفت المنطقة ازدهارا في وقته وبعده، وتحوّل ضريح وزاوية سيدي إبراهيم إلى منطقة جذب سُكّانيّ، وهو ما لاحظه صديقنا البحّاثة الأستاذ الزروق اشناق من حديث هنريكودي أغسطيني، خلال كتابه سكان ليبيا، إذ أشار الى تجمّع سُكّانيّ حول الضريح والزاوية.
كما أنّ جون فرانسيس ليون والأخوان بيتشي الذين زاروا زليتن بعد وفاة سيدي إبراهيم تحدثوا عن ازدهار كبير للزارعة ومنتجاتها، يقول الأخوان بيتشي “ظهر جليا عند وصولنا لزليتن توفر الشعير وزيت الزيتون ورخص ثمنها بمنطقة طرابلس”، ويبدو ان تلك البيئة الجديدة شجّعت الكثير من رؤوس الأموال الى الانتقال إليها وأضافت روافد جديدة لاقتصاد المنطقة منها التوريد للخارج.
ويفيدنا في رصد ملامح مشروع سيدي إبراهيم ودور زاويته الإصلاحي نصّ نقله الشيخ أحمد بن حمادي في كتابه ( منح رب العالمين ) عن سيدي إبراهيم بن ناصر يوجّه فيه تلميذه سيدي إبراهيم بن عبد النور لسكنى طرابلس، ومٌلخصه ان سيدي إبراهيم بن عبد النور استقرّ في الساحل الشرقي من مدينة طرابلس بالإذن الصريح التام من الشيخ إبراهيم بن ناصر اليزليتني بقوله : ( يا إبراهيم أوليتك ساحل مدينة طرابلس غرب شندق وبندق فيه أنت ونسلك ولك فيه الراحة والهناء نسلا من بعد نسل )” ( انظر منح رب العالمين في مناقب شيخنا الأمين تحقيق شيخنا الفقيه الأصولي المشارك العلامة أ.د بشير القلعي ص 75 )
ولا بد ان تخرج رجل في وزن الشيخ إبراهيم بن عبد النور بمكانته العلمية حتى لقب بــ”العالم” من زاوية سيدي إبراهيم بن ناصر قبل ذهابه الى الأزهر دلاّلة كافية على المستوى العلمي المتقدّم للزاوية، وقد يحفزنا هذا للبحث أكثر عن منهج الزاوية ومشروع مؤسسها، خصوصا أدوراها الأخرى، فلو كان هدفها تعليمي فقط لاكتفى الشيخ بن عبد النور بما تلقّاه عن علماء الأزهر وما رجع إليها ليأخذ أوامره من أستاذه بن ناصر عن مكان استقراره.
وفي توجيه سيدي إبراهيم لتلميذه بن عبد النور للسكن والاستقرار في طرابلس رصد آخر لملامح مشروعه الإصلاحي ووصوله الى عاصمة الحكم، فقوله “أوليتك ساحل مدينة طرابلس غرب” يدل بشكل جلي على نفاذ أوامره وسلطته لدى القرمانليين بل وضمانه لتلميذه بن نور الهناء والراحة فيها.
ويبدو أن توجيه بن عبد النور للاستقرار في العاصمة كان وفقا لتخطيط مسبق يدل على معرفة سيدي إبراهيم بن ناصر بما يدور في بلاط السلطة وقراراتها وتوجّهاتها وبالتالي سعيه لإصلاح النظام الحاكم من الداخل، فبعد سنوات من استقرار الشيخ بن عبد النور في طرابلس نجده قد تولّى مراكز هامة في السلطة منها كاتب السلطان قبل أن يصبح من وزراء الدولة ما مكنّه بكل تأكيد من بذل جهود لإصلاح منظومة الحكم، كما تولّى رئاسة مؤسسة الإفتاء بطرابلس لمدة ثلاثين عاما وأصبح قبلة لعلماء الدنيا ومنهم الصادق بن ريسون العلمي أحد أبرز علماء المغرب في عصره.
صحيح أنّنا لا نعرف من تلاميذ سيدي إبراهيم بن ناصر إلا الشيخ بن عبد النور والشيخ محمد شكاب الفيتوري، إلا ان اختلاف دوريهما، إذ أولى تلميذه شكاب مكانة اجتماعية هامة في زليتن، قد يضاف الى جهود رصد ملامح المشروع الذي قاده سيدي إبراهيم للإصلاح في كل المستويات، حتى المستوى السياسي الذي نهج فيه أسلوبا خاصّا للمقاومة يختلف عن أساليب مقاومة الزعامات الأخرى الذين حدثتنا كتب التاريخ عن قيادتهم معارك ضد القرمانليين أتت على الأخضر واليابس وخلّفت الدمار، فنجد اعتراف القرمانليين بسلطة الشيخ بن ناصر امتدّ لما بعد حياته حيث أشرفوا على إعادة بناء مؤسسات الزاوية، ومنها ضريح سيدي إبراهيم الفريد بقبّته التي تعتبر أكبر قبّة في كل المنطقة، واستقدمت له أمهر المهندسين والبنّائين من الآستانة لتصميمه وبناءه، وبقي الضريح بقبّته وثيقة تاريخيّة أثريّة هامة حتى عدا عليه الوهّابية عام 2012م وسوّوه بالأرض، وفقدنا بذلك أثرا ليبيا كان حتى ذلك الوقت شاهدا على دور الليبيين في فرض وجودهم الحقيقي على أيّ سلطة وافدة تسعى لحكمهم بالقوة.
ويحتاج بحث الدور الصوفي في الإصلاح السياسي جهودا مضاعفة لتقصّيه، فربما نتوسع أكثر في المقالة القادمة، والتي سأخصّصها للحديث عن سيدي “علي البكو”، عن هذا الجانب بشكل أكثر تفصيلا عن انتقال الإصلاح الصوفي في ليبيا، في فترات تاريخية مضت، من مستوى الخطاب الى مستوى الفعل من خلال بناء عدد من المؤسسات السياسية التي وجدت في البلاد.
* رئيس مركز العلامة الليبي أحمد القطعاني للثقافة والدراسات الصوفية
طرابلس – ليبيا / الأحد 26 سبتمبر 2021م.