النقد

شمس.. والوطن الذي فقد.. (قراءة لقصة “شمس” للكاتب/ محمد المسلاتي)

د. ناهد الطحان | مصر

من أعمال المصور أسامة محمد
من أعمال المصور أسامة محمد

عبر بنية سردية محكمة البناء من شخصيات وأحداث وزمان ومكان ولغة معبرة، استطاع القاص الليبي محمد المسلاتي أن يضعنا في قلب الحدث ويغوص بنا بأسلوب مشهدي درامي في أعماق تجربة حقيقية تحدث كل يوم في مجتمعاتنا الفقيرة التي يعاني أفرادها شظف العيش وثقل الحياة وقسوتها…

وهي مشكلة من المشكلات القائمة ومعروفة اعلاميا ودوليا بقضية الهجرة غير الشرعية، حيث تكره الظروف السيئة ماديا ومعيشيا الكثيرين لمغامرة القيام بالارتحال من بلادهم بحرا وبرا في ظروف غير آمنة وغير شرعية مع ما فيها من مخاطر أكيدة، رغبة في معيشة أفضل لهم ولأولادهم وهروبا من جحيم الفقر والمرض، فالراوي هنا طفل صغير اضطر أبويه للهروب من قسوة الواقع المعيشي هما وأطفالهما، فلديهم طفل مريض بمرض مزمن وهو الأخ الأصغر للراوي مع ظروف معيشية قاسية مما يصعب معها العلاج ومما يشير الي سلبية المجتمع وافتقاد العدالة الاجتماعية والمادية، اذ رغم لجوء الأب للمسؤولين لم يساعده أحد في علاج الابن، اضافة الي ضيق موارد الأسرة ورغبتها الملحة في معيشة انسانية.

القاص محمد المسلاتي
القاص محمد المسلاتي

الراوي هنا هو الطفل وهو البطل/ الصوت الذي يروي مشاعره البريئة وعبثه الطفولي في بداية القصة مع أخته الصغيرة التي تصغره بثلاث سنوات.. (شمس).. مع ما يحمل الاسم من سيميائية ودلالات تشير لبلادنا الدافئة والوطن وأيضا للمشاعر الدافئة التي ينعم بها الطفل وللحلم البعيد والشعور بالأمان، حيث يلعب مع أخته شمس تحت المطر ويختاران ألوانهما المفضلة من ألوان قوس قزح في مواسم الشتاء ويبلان ملابسهما في تصوير غاية في الروعة والبراءة، ثم ينتقل بنا الي المنزل حيث يستمع الطفل الي ابيه ويعلم بعزمه علي السفر لاحدي الجزر الايطالية في الصباح الباكر مع أسرته بعيدا عن حالة الفقر التي تعاني منها الأسرة بعد أن اتفق مع أحدهم ودفع له المقابل، ليدخلنا القاص عبر عين الطفل البريئة في تجربة مريرة عاشها مع أسرته بداية من دفن الأم لملابس أطفالها المهترئة في الشنطة في اشارة قاتمة ومرعبة لحالة الخوف من المجهول من جهة والمصير المفجع من جهة أخري لتبدأ بعدها سلسلة من الصور المرعبة، حيث الشاحنة التي حشرت فيها الأجساد الضامرة والوجوه الشاحبة والتصاق الأسرة بعضها ببعض خوفا، وهي مشاعر مختلفة عانتها الأسرة اضافة الي الوصف المقبض الذي عبر به الكاتب علي لسان الطفل، الذي اختاره ليكون بطله مما زاد من قوة تأثير الحدث، حين وصف القارب المطاطي والرجال الملثمين بأنه مثل فم حوت مفترس يعج بعشرات الأسماك المنتفضة في اشارة لحالة الارهاب الحادة التي يشعر بها الطفل الصغير ازاء الحدث القاسي، لتتوالي سلسلة الأحداث المأساوية التي يعاني منها الجميع حيث تعلو الصياح ويغرق الكثيرون ويغوص الطفل الي القاع في فاجعة مؤلمة ونهاية مريرة، وعندما يفيق الطفل يجد نفسه علي سرير وأمه علي سرير مجاور ويسألها بصوت مبحوح عن أبيه وأخيه وشمس فلا يجد من الأم سوي الدموع التي تخبئها في عينيها، ليعاني الطفل عبر مشاعره الرقيقة حالة استبطان داخلي وانعكاس لثقل الواقع والتجربة تدخلنا فيما يسمي تيار الوعي حيث يصف الطفل أوجاعه من مشاعر وصور وأحاسيس عاناها فيسترجع ذكرياته حلوها ومرها مثل : قوس قزح.. شمس.. القارب الحوت.. ليظل الطفل الذي أودع إحدى دور الرعاية ذات الأسوار العالية يصمم المراكب الورقية في اشارة الي الحلم الذي ينتظر تحقيقه وافتقاد الأسرة والوطن، كما يعلم رفاقه الجدد كيف يصنعونها ويجتر ذكري أبيه وأخيه وشمس بعد أن افتقد اسرته حتى أمه لم تعد تزوره وتنتهي القصة والطفل ناظرا لقوس قزح ربما تأتي شمس عبر أطيافه قائلا: (أتابع الغيمات أفتش السماء لعل أبي يعود برفقة أخي.. أرنو الي أقواس قزح ألاحقها ربما تكون شمس مختبئة خلف أطيافه، تخضب أناملها باللون البرتقالي، تغزل جدائل شعرها بألق الضوء، لعلها تجيء في سفينة من سفائني المبحرة، أو مع الغيم عند تساقط المطر).

ولقد استطاع القاص محمد المسلاتي تقديم معالجته التي تعد مأساة انسانية حقيقية عبر سلسلة من المفردات الموحية بقتامة المشهد بداية من مواسم الشتاء بما تحمله من مشاعر البرودة والظلمة، والمرض المزمن، دفن الملابس، الأجساد الضامرة، الوجوه الشاحبة، رجال ملثمون، فم حوت مفترس، أسماك منتفضة، الصياح، الاختناق، شمس غائبة، الحوت يشق أحلامي، بحر عميق يتعقبني، الأسوار العالية والتي تشير الي حالة الكبت وسجن النفس، عبر أفعال كلها تتسم بالحركة والمشاعر المتقلبة وبراءة الطفولة والتي تنامت مع الحدث من خلال ايقاع حيوي متصاعد (كريشندو) مثل: نلون، نمد أيدينا، نتسلق، تصطبغ، نركض، نفتح أكفنا، بللت ملابسنا، روت أجسادنا، تهتف، نتذوق، تحفر، أصنع سفينة، تغترف بكفيها، سمعت، عجز، يتمزق، طرق ـ سارقت، ابصرت، ظلت واجمة، وعندما تنقلب الأحداث الي مصير مظلم تتغير الأفعال أيضا للتعبير عن حالة الخوف والحذر والمصير المجهول في تصوير سردي مكثف للفاجعة منذ اللحظة الأولي مثل : دفنت، تقافزنا، نتأت منها رؤوس، شعرت بخوف، علقت بصري، احتضنت أخي، التصقت بها أختي، جلس صامتا، ادخلتني الي عتمة الليل، ليتلقفنا قارب مطاطي، طوقنا أبي، تمايل القارب، تقيأت شمس، شعرت بدوار، الموج يهدر، اعقبه عويل، يتناثرون، وأتابع الغيمات وغيرها من التعبيرات التي أحيي القاص علي انتقائها، اضافة الي الحوار المكثف جدا الذي يتناسب مع جلال الموقف والفاجعة والتي استشعرنا من خلالها قسوة التجربة ومرارتها في التحام بين الواقع بما يحمله من بؤس والظروف القاسية غير الآدمية التي استغلها البعض للمزيد من الثراء علي حساب البسطاء والأبرياء والمهمشين وهمومهم وأحلامهم في مستقبل أكثر رحمة وانسانية، وهو ما يضع الحكومات والدول في مسؤولية معالجة مشاكلهم وأوجاعهم حتي لا يصبحون فريسة سهلة لمصير موجع ومستقبل مجهول ويفقدون أرواحهم وأوطانهم، اذ عندما يتخلى الوطن عن أبنائه يصبحون بلا جدران ولا هوية.

مقالات ذات علاقة

استراتيجيةُ العتباتِ ودلالاتُها في (عندما تتداعى الأشياء)

يونس شعبان الفنادي

هل لدينا نقاد؟

أحمد الفيتوري

الخسارات التي لا تنتهي في ‘فرسان الأحلام القتيلة’ لإبراهيم الكوني

المشرف العام

اترك تعليق