السابعة صباحا.. هو الوقت المخصص لتناول القهوة.. خلع عنه معطفه الصوفي.. وارخى رباط عنقه راميا بهيكله على الكراسي الموازي للنافذة.
يتصاعد دخان سيجارته ويختلط مع أبخرة الفنجان ليتكثف على زجاج النافذة الذي تنقره حبيبات المطر.
افكار متضاربة تغزو رأسه المصدع بفعل السهر الدائم رفض الانسياق ورائها فوقف وفتح النافذة متأملا من خلالها تساقط المطر على شوارع المدينة.
المطر رخاء.. عطاء وسخاء.. أنه يغسل الأرض والمارة بالشوارع، لكنه قاصر عن غسل اللا ملموس فينا.
ترى لو باستطاعة المرء قلب نفسه ليجعل منها الداخل خارجا.. هل يغسله المطر..
هو مركون هنا بجانب النافذة.. وهو على كل حال مركون في هذه الدائرة الضيقة، وبإمكانه هذا الصباح تأمل المارة وهم يسيرون بمظلاتهم التي تقيهم حبات المطر.
ترى ما ضرهم لو ألقوا هذه المظلات وتركوا للمطر حرية غسلهم.. ما الضير لو غسل المطر وجوههم وعانق ببرودته المنعشة احداقهم وعيونهم..
يخف المطر وتنقشع الغيوم الملبدة في كبد السماء.. وتأبى غيوم روحه الانقشاع.
يكره أفقه المحدود.. أربعة جدران.. وأوراق على منضدة ومعطف صوفي مستند على كرسي.. أنه السأم المؤدي الغثيان.
يتدارك حالته تلك ويغادر تاركا خلفه جوا مليئا بالكآبة والسأم واشياء تثير الشفقة.
يعانقه النسيم البارد بمجرد خروجه، السماء في الخارج رائعة، وحركة المارة اروع عند هطول الغيث. محلات الباعة والمقاهي والأحاديث العابرة والارداف المتراصة والعيون الراصدة ترسم كلها حركة متداخلة كالمتاهة احيانا وأحيانا متمازجة تمازج النسيم البارد مع ورود الليل النائمة. حركة الصباح مبهرة في المدينة، ربما لأنها تمثل الانطلاق أو الإقبال، أو هي مرحلة من مراحل كشف القادم وتعرية الآتي، أو هي تفاعل بين الزمن واللحظة التي تحبو ببطء نحو المجهول القادم.
لقد خالف قوانين دائرته الوظيفية والتي لا تسمح بهدر الوقت، غير أن اكتساح صيرورة الصباح كان لديه أهم من جميع الأوقات.
تتشبع السماء بالغيوم من جديد.. وبهدوء تام يتساقط الغيث. كهمس العشاق ونفحات المتعانقين.
يجلس في إحدى المقاهي ليشاهد قصة العشق الابدي بين الأرض والسماء، ودوما بطلها الغيث مع كأس من الشاي.. والظهور الشمس عند انقشاع الغيوم ينتهي فصل من فصول مسرحية الحب.. يتولد بداخله مهرجان من التصفيق متبوع بإنسام البهجة.
ويأتي مجددا ومن بعيد الصمت القاتل ليطبق على أعماق الروح ويقضى على أمل تولد للتو.
يستلقي على الكرسي.. يرحل عبر السماء. يغيب بعيدا.. شعر بخفته ولامس في هذه الخفة شعورا نبيلا، شعورا يعيد جل الراحات المسروقة ولحظات الهدوء المفقودة ويبدد بتسامح كما من الآهات المكبوتة.
أنهى رحلة التأمل تلك.. تفاجأ بطفل صغير يتشبث بقدميه.. وقف فرفع الصغير بصره لأعلى، وبحماس الطفولة وتوسلهم الجميل يرفع الصغير يديه طالبا رفعه لأعلى.
انحنى أمام توسل الطفل فغمره ورفعه بين ذراعيه.. أخذ الصغير يصفعه صفعات متتالية، فارتسمت على شفتيه ابتسامة غائبة منذ زمن.
لكن صوتا في الاتجاه الآخر بدد كل ذلك … صوت كان ينادي الطفل الصغير. استدار ليرى مصدر الصوت، كانت فتاة في الاتجاه الآخر على الرصيف تنادي الطفل والطفل يرفض الذهاب. كانت تغريه بقطع الحلوى لكن الصغير أبى
أدخل يده بجيبه عله يجد شيئا يعطيه للصغير فلم يجد سوى نظارة شمسية..
أخذ الصغير الأعطية وانطلق، تشبث بقدم الفتاة فانحنت لترفعه لأعلى، فكان سباقا إلى وجهها والبسها النظارة وعلت ضحكاتهم الطفولية ذلك الصباح الماطر.
بدأ المطر يهطل بغزارة.. أخرجت الفتاة مظلتها لتقيها المطر والصغير.. سارت بتباطؤ نحوه وأعادت له النظارة قائلة.
.. ألا تحمل مظلة تقيك المطر
لا
كانت إجابة متكاملة.. لم تعط اي معنى.
نظرت إليه بعمق واردفت قائلة
.. اعذرني.. تحمل نظارة شمسية ولا تحمل معك مظلة تقيك البرد في يوم ماطر.
.. نعم ربما هو تناقض ولكني تعودت أن اقابل المطر بحرية
هل استخدام المظلة يقيد حريتك؟
لا أدري … بطبيعتي أحب ملاقاة المطر دون عوائق.
إن امتزاج قطرات المطر وحبات التراب يشعرني بالخفة ويعاودني احساس بالمرونة. ربما هو أقرب للروح من سماع سيمفونية.
لحظتها كان الطفل يركل الماء بقدمه المتدفق على الرصيف فيرتفع الرذاذ لأعلى متناثرا على فستانها وساقيها المنحسر عنهما الفستان.
شعرت ببرودة القطيرات.. تولد لديها احساس جميل تلك اللحظة.. طوت مظلتها تاركة للمطر حرية التمازج مع خصلات شعرها المنهمر على أكتافها.
نظرت إليه بابتسامة خفيفة. وهي ترقب وجهه المبلل بالمطر.
تلاقت النظرات.. دام التلاقي برهة ثم سألته
. هل يمكن أن نلتقي مرة أخرى؟
لم يجب.. فأخذت الطفل وهمت بالذهاب.. لحظتها همس لها
ربما نلتقي في يوم ماطر آخر.
تأملها وهي تختفي بين المارة وأزقة المدينة والمطر ينهمر بغزارة، تأملها وهي تحضن الطفل الصغير وتقبله.. ولم ترفع ابد مظلتها.
قرر العودة إلى الدائرة.. ليجد أن مدير الدائرة خصم منه ذلك اليوم.