قصة

رسيني يا ساقية عذاب

خديجة رفيدة

صورة من أعمال المصورة سارا كمال
صورة من أعمال المصورة سارا كمال

أركب سيارة الأجرة والعرق يغطي جبيني وحواجبي، العرق يضبب الرؤية أمام عيني، والسائق يبدو فرحا، أو راضيا، أو ربما منسجما.

يبتسم كثيرا، ويدندن مع الراديو، ويحثنا أنا وبقية الراكبين لنشاركه الدندنة.

الطريق طويل، شمس أغسطس حارقة، والطريق طويل جدا، لم أشأ قطع هذه المسافة بسيارتي لوحدي، من جهة: لا أثق في قدرة سيارتي على السير كل هذه المسافة دون عطل، ومن جهة أخرى: لا أثق في عظامي أعصابي ومشاعري ومعدتي المرتبطة بهما، ولأن المشوار ليس مشوارا عاديا، مشوار يمكن أن يبطل انتظارا مر على بدايته عامان ونصف.

حين قررت الذهاب لذلك المكان الذي اعتدت الذهاب إليه كل فترة – لنفس السبب – ذهبت أول الأمر لشقيقي، أخبرته بما أنا عازم عليه، وأوصيته ببيتي، أمي رحمها الله كانت تردد أن من سافر ميت حتى يرجع، ثم ذهبت لمحطة التاكسيات، أنتظر أن ينادي أحد السائقين على ركاب المدينة التي أنوي الذهاب إليها، لكن لم يناد أحد، وحين جاءني شاب – شعرت حين رأيته أن هذا اللقاء ليس الأول بيننا – يسألني عن وجهتي أجبته، أشار إلى رجل في منتصف الأربعينات، رافقني إليه وأوصاه بي، قال أنه ذاهب إلى مدينة مجاورة لوجهتي، ولا بأس في التعريج عليها، وركبت السيارة بينما كان السائق ينفث دخانه.

مضت نصف ساعة ينتظر فيها السائق ركابا آخرون، قضيتها وأنا أحاول تذكر أين رأيت ذلك الوجه الذي قادني إلى هنا، لم أسأله، قبل عامين ونصف كنت أسأل كل من لاقاني على اسمه واسم أبيه ومعرفة أصوله والبحث عن نقطة وصل بيننا، كنت كما يسميني جيراني “صاحب الناس” إشارة إلى أنني أعرف الكثير من الناس، لكن صاحب الناس قبل ذلك اليوم ليس نفسه صاحب الناس بعده، لم يعد صاحب حتى نفسه.

تذكرت الوجه الذي غاب، تذكرت حين كنت أركب بجانبه في سيارته التي اشتراها من مالٍ جناه بعد تعب، يُشغل أغانٍ تناسب ذوقي، يسير بي في شوارع أحبها، ويذهب معي لمناسبات وزيارات أعرف أنه لا يحبها، لكنه يجاملني، يقف أمام سنفاز ما وينزل مشيرا بابتسامة كانت تدغدغ قلبي ويقول أنه لن يتأخر، يحضر اثنتين، واحدة بالبيض لي، وأخرى بدون بيض له، يمر على المكتبة ويشير لي بأن أنزل معه، يشتري الجرائد لي ويقول أن الذين يقرأون الجرائد باتوا نادرين، يقول بلغة يعرفها ويحاول بجهده أن يعلمني إياها “أنت و10 آخرون”، ويقنعني بخوض غمار مواقع التواصل الاجتماعي لتمضية الوقت بعد تقاعدي، نخرج من المكتبة رأسا إلى سوق اللفة، نسير جنبا إلى جنب، يضع يده على يدي مرة، ويعدل لي الشنة التي على رأسي، ومرة يمسح لي العرق الذي على جبيني، من يمسح لي عرق جبيني الآن وهو غائب؟

ركب البقية، وسرنا، خرجنا من وسط البلاد حتى الطريق الساحلي، الراديو مشغل، تارة برنامج صباحي، وتارة أغنية، والسائق ينفث دخانه، وأنا أشعر بأن النار تأكل قلبي لا سيجارته هو.

الطريق مليء بالحفر، بالنسبة للسيارة هذا الطريق تحدي، وبالنسبة إلى السائق هذا الطريق وسيلة للكسب، أما بالنسبة إليّ؛ هذا الطريق – ربما – طريق أخوضه لمواجهة حقيقة أهرب منها ولا أرغب بمعرفتها، لكنها حقيقة مؤلمة خير من انتظار بائس.

مضت ساعة، لا زال أمامنا ساعتين، أقلب في ذاكرتي ما يطفئ ناري، يوم تخرجه، بدلته باللون الأزرق الكحلي التي أصر أن أصحبه وهو يختارها، وربطة العنق التي أخذها من دولابي “تبركا” كما قال، كلام أساتذته الطيب في حقه وكل من عرفه، الجملة التي سمعتها في ذلك اليوم كثيرا: “عرفت تربي يا حاج”، صورنا الكثيرة وهو يرتدي روب التخرج الأسود والطاقية، يحيطني بيديه الحنونتين في صورة، يقبل جبيني في ثانية، يحضنني في ثالثة، ويقف بجانبي في أخرى.

كان حصيلة أيامي، دفعتُ لأجله عمري، كان هو ثروتي وتحويشة عمري، اشتقت له كثيرا، يذبحني الشوق، ويقتلني هذا الانتظار، فهل أراه مرة أخرى يا تُرى؟

رُزقت به بعد واحد وعشرين سنة من الزواج، كان عمري خمسة وأربعون عاما، وعمر أمه أربعون، أصيبت بالزُلال، وفقدت حياتها من مضاعفات الزلال والضغط وغيرها من الأمراض بعد سبعة أشهر من ولادته، تزوجت امرأة أخرى، لكنه بقي ابني الوحيد، ذخيرتي للأيام، وحبيب قلبي، أنيس عمر، قضيت واحد وعشرين سنة وأنا أنتظر مجيئه للدنيا، وثلاثا وعشرين سنة سعيدا بوجوده في حضني وبين يدي.

يغير السائق محطة الراديو، يمل، يُشغل جهازا صغيرا يمكن أن يسمع منه ما شاء من هاتفه عن طريق البلوتوث، يقول لنا بما يشبه التبرير أن ما سيشغله الآن ليس إلا اختيارات عشوائية من الانترنت، يوجه لي حديثا دون غيري “قريب نوصلوا لترهونة”، أشعر أن العرق خالط الدمع على خدي، أخرج المنديل من جيبي لئلا يروني، أخاف أن أبدو مثيرا للشفقة، أنا الرجل السبعيني، الذي يقطع الأميال راكبا في سيارة أجرة من مدينة إلى أخرى ليبحث عن ابنه.

يصدح صوت امرأة مليء بالشجن والحزن “ليه يا ابني تسيب حضني ليه” وأسأل لماذا قرر الخروج في مهمة ذلك اليوم؟ “في أدفى من حضني إيه؟” تذكرته يبتسم لي ويقول أنني دنياه كلها، أبوه وأمه، ثم تقول والدمع يغلبني: “وفردت بعادك شراع، من غير ولا كلمة وداع” لم يودعني ذلك الصباح، قبل يدي، وطلب مني الدعاء بالتوفيق، وردد أنها رحلة عمل يرجع منها صباحا، لم يودعني.

لكن اتصالا من رقم هاتف غريب أخبرني، ابنك خُطف، لا نريد فدية، ولا يوجد شيء شخصي لنا مع ابنك، فقط نريد أن نبث الذعر في قلوبكم.

ثم تقول: “خذ كل العمر معاه، وما فاتش غير الآه” عمري، عمري المقسوم، ثلث أنتظره فيه، وثلث أعيشه لأجله، وثلث أبكي غيابه.

تنخفض سرعة السيارة، يسألني عن وجهتي ليوصلني إليها كما أوصاه ذلك الشاب، تذكرت ذلك الوجه أخيرا، صديق ابني، أتلقى المساعدات منه ولأجله حتى في غيابه، أجيبه بأن يوصلني لإدارة البحث عن المفقودين في ترهونة، بالأمس قرأت خبرا أن مقبرة جماعية أخرى اكتشفت، وجئت لأبحث عن جثة ابني، لعل انتظاري ينتهي، ولعلي أراه مرة أخرى “يا ريتني أعرف بس كنت فين، كنت أمشيلك كل خطوة برمش عين”.

أترجل من السيارة، وتردد جمالات شيحة مرة أخيرة: “رسيني يا ساقية عذاب”، أضع يدي على قلبي وأقول العذاب هنا، والساقية هذه المقابر.

مقالات ذات علاقة

الْـعَـاقُـول يَـبْـذُر هُـوَ الآخَـر

المشرف العام

امْرَأتان…

أحمد يوسف عقيلة

قناص

خيرية فتحي عبدالجليل

اترك تعليق