خديجة رجب رفيدة
أحب أن أعطي كل شعور حقه، وتعلمت الغوص في المشاعر والأحداث التي تستحوذ عليّ دون أغرق، لم أسمح للبحار أن تقطع أنفاسي.
للفرح أوقات وللحزن أوقات وللفخر أوقات، لكن هذا الشهر – فبراير – على ضيقه وقصره لم يمنحني سوى وقت واحد لكل هذه الأوقات، تداخلت، وتشابكت، حتى بتّ أبكي وأضحك في آن.
الفقد
خديجة، الطفلة المدللة التي تقضي الصباح في حضن والدتها أو في حِجر والدها يلاعبها، وتقضي الضحى في بيت خالتها لمشاهدة الرسوم المتحركة رفقة أطفال ذلك البيت، “ذلك البيت” هو بيتها الثاني، حرفيا لا مجازا، له فضل كبير في تشكيل هذه الشابة اليافعة التي يشهد لها الكثيرون بالرجاحة واللطافة والنجاح، “ذلك البيت” احتواها كثيرا حين كانت طفلة تضطر والدتها الغياب عنها لأجل مناسبة ما، فتصير كنّة خالتها – الأثيرة لديها – أمها لعشية واحدة، تظفر لها شعرها قبل أن تذهب للمدرسة، وتفكّ خالتها – التي دوما ما كانت أما ثانية لها – زيها المدرسي بعد رجوعها، وتُجلسها على طاولة المطبخ لتأكل غذاءها، وتنتظرها حتى تُكمل، لتغسل يديها الصغيرتين وفمها، وتقول لها بوداعة تحفظها جيدا “امشي ألعبي شوية وتعالي أرفعي الشاهي لعمك”.
كبرت الطفلة، وغيّب الموت والدتها، ولم تعُد بحاجة لأحد يفك عنها أزرار ثياب عملها، أصبحت هي من يطبخ الغذاء، وهي التي تمارس دور – الأم المؤقتة – لأطفال العائلة بجدارة، لكنها لم تكبر على الجلوس على كرسيّ طاولة المطبخ في “ذلك البيت”، كانت تتصيد الفرص لذلك، تخرج من عملها متأخرا عن موعدها فتجد – أحيانا – الشارع مزدحم بالسيارات بسبب جنازة ما، تخمن أن بعض السيارات مركونة أمام مدخل البيت، تلف يمينا، تركن السيارة في فناء “ذلك البيت”، وتدخل دون خجل من موعد مفاجئ أو غير مناسب، تنادي “خالتي” بلسانها؛ و”حبيبة قلبي” بقلبها، تخبرها بما حدث، وتقول لها الخالة “خشي كولي”، تجلس على الكرسي كطفلة تجاوزت العشرين، تغرف لها صحنا، زتغمرها بالأحاديث والسكينة، حتى ينتهي وقت الجنازة، تخرج من “ذلك البيت” لبيتها، وجزء من قلبها موجود في أركانه، منذ الولادة.
الطفلة المدللة كثيرة الاشتياق لوالدتها، الصابرة – البشوشة دوما – تملك قلبا يحنّ باستمرار، تُقلب بصرها في منشورات الفيسبوك فترى إعلانا ما من محل مواد منزلية لأوانٍ تشبه أواني “ذلك البيت”؛ تتذكر أن مر أسبوع لم تر فيه حبيبة القلب؛ فتلبس حجابها وتذهب، تضع برّاد الشاي على النار – فتتذكر أن هذا الشيء الذي يُفعل عصر كل يوم في بيتهم يُفعل أيضا في “ذلك البيت”؛ تحنّ للجلوس رفقتها فتجعل الموقد على أقل درجة اتقاد لتذهب لرفقتها، أو تسمع أنها مريضة فتذهب لعيادتها، أو حتى هكذا، دون سبب، حتى أن التعريج عليها من بعض المشاوير بات أمرا معتادا جدا، هذه حبيبة القلب، أنيسة الروح، ومخزن الصبر على الحبيبة الأولى.
يرن هاتف خديجة، الطفلة الكبيرة، الكبيرة بما يكفي لامتلاك رخصة قيادة وسيارة ومشاوير تخص واجبات اجتماعية، رقم حبيبة القلب، وسؤال “مشيتي عزيتي؟” “مشيتي نشدتي على فلان؟” أو ينعكس الإتصال: “ما نبيش نمشي بروحي، لما بتمشي كلميني نرفعك ونمشوا مع بعضنا”، عادة ما تكون المشاوير قريبة، وتأنس الطفلة الكبيرة بخالتها كثيرا لدرجة تُشعرها بشديد الامتنان، لكن ما إن تُركن السيارة أمام مدخل “ذلك البيت” حتى تنهال الدعوات والشكر من حبيبة القلب، فتنزل كالماء البارد على قلبٍ يحترق دوما بنار الدنيا، هذه الملاذ، وهذه الدنيا في صورتها العطوفة.
كانت جنازة أمي قبل قرابة الإثني عشر سنة، لا أتذكر وجه المرأة التي نفضت يديها عن كتفي، كانت تحاوطني – وأعتقد أنها كانت تقول كلاما يعزّيني – لكنني نفضت يديها، وذهبت لخالتي، ذهبت لأسألها كيف تموت أمي؟ وما الذي ينبغي عليّ فعله؟ كانت تبكي، بها من الحزن ما يُغطي مدينة بحالها، لكنها احتضنتني، ربتت على رأسي، وصبّت في أذني إجابة لكل أسئلتي دون أنطق بها، وصرت بعد ذلك – في كل جنائز الأحبة أهرع إليها، ملاذي.
سألتها ذات يوم عن حالة امرأة نعرفها بعد وفاة زوجها، أجابتني “شن بتدير يا حنّة، بتطير بتطير وبتبكي وبعدين بتصبر، الواحد لازم يصبّر روحه ويصبر”، وحين جاءني خبر وفاتها كالصاعقة، كالماء الساخن على قلب يحترق دوما بنار الدنيا، كالجليد الذي يجمّد الأطراف كلها، ككل شيء يقلب موازين الإنسان في صور عديدة: الطفلة المدللة، الفتاة اليافعة، الطفلة الصغيرة، الفتاة الكبيرة، كل صور خديجة، خديجة بجميع حالاتها، لم أعرف كيف أتصرف، حين خرج جثمانها من “ذلك البيت” في طريقه للمقبرة كنت أود الذهاب إليها، أن أسألها كيف تموت خالتي؟ وما الذي يتعين عليّ فعله؟ لكنها هي، الحبيبة التي غابت، من تُصبّرني بات عليّ أن أصبر عليها، فمن يصبرني؟
فرحة العمر
أحب بيتنا، أحب الدفء المحيط به، والمودة المنتشرة في زواياه رغم كل ظرف يمكن أن يزعزعها، أحب فكرة العائلة الكبيرة، أحب إخوتي الصغار، ولا أتخيل شكل حياتي بدونهم، وأعتقد أني عرفت عاطفة الأمومة معهم، هؤلاء أحبابي، قرة عيني، فلذات أكبادي.
لم يشغل الزواج يوما ما خانة أولوياتي، كانت الأولوية لكل شيء هي الرضا، وكان الاستمتاع بما لديّ صفة من صفاتي، كنت أعرف أن الخيرة فيما يختاره الله دوما، لذلك عشتُ والقطار حولي يتحرك دون أن أغير مكاني من مقعد غير المكترثين إلى مقاعد الانتظار. إن جاء خير، وإن لم يأت خير.
لكنه القدر، ساقَ إليّ رجلا ودودا ومسؤولا، على قدر من التقبّل، يعرف كيف يدعم أحبابه، وبقلب يعرف كيف يحن، يحب عائلته ويقدسها، وهذا ما جعل صلوات استخارتي تبعث في قلبي الطمأنينة أكثر، نزعت عنّي شعاراتي ومخططاتي وكل خطبي العصماء، وقلت نعم، يوما عن يوم تتأكد النعم في داخلي، عاطفة ومنطقا، وصرت أعرف أن فرحة العمر ليست بالعرس في أيامه، بل بالاطمئنان إلى من ستعيش معه سنوات عمرك القادمة.
كانت هي أول من سمع الخبر من خارج أسوار المنزل، الأنيسة والونيسة، ولم تصبر حتى الصباح، لم يُثنها حتى البرد عن المجيء إلينا، فتحت الباب، ودخلت كالنور على قلبي، نهضت إليها لأسلم فاحتضنتني، باركت خطبتي، وابتسمت في وجهي.
شاركتنا أفكارنا عن العرس، وتحدثت عن ما يجب فعله وما لا يجب، وحين جاء موعد رجوعها إلى “ذلك البيت” خرجتُ معها، أغرقتني بالوصايا كما تفعل الأم مع ابنتها، وأغدقت عليّ بالحب والدعوات، وكانت هذه آخر مرة تحضنني، وتحدثني، وأقبل رأسها.
حلاوة الإنجاز
الكتابة، الهواية التي أحب، والفعل الذي أمتهنه كلما شعرتُ برغبة في الحديث أو الغناء أو البكاء، أو كل شيء، النجاح الذي حققته بمحض الصدفة أولا، ثم بحبه والإيمان به – وبي – ثانيا.
“ليش ما تفكريش تنشري كتاب؟” كان السؤال مكررا من شخصين أعتز بهما، أستاذ في النقد الأدبي، وكاتب كبير أحب قراءة ما يكتب، بات الأمر جديا، وكل شيء سار بعد ذلك بوتيرة بطيئة؛ لكنه سار، خرج الكتاب للنور في أواخر أيام معرض القاهرة للكتاب في شهر فبراير، مسكته بين يدي في السادس من نفس الشهر، ثالث أيام فقدي لحبيبة القلب، سادس أيام خطبتي، فكان الخليط، مرارة الفقد، حلاوة الإنجاز، فرحة العمر.
كيف لهذه الروح أن تحتمل؟
كان الفقد على غفلة من أمري، كنتُ أجهز نفسي كي أمسك كتابي، أول ثماري، إنجاز مشترك بيني وبين أصدقائي وشقيقي، وكل الدعم الذي غمرني به أهلي وأصدقائي الآخرون، من جهة أخرى نفضتُ عني رهاب الخوف من الزواج والوقوع في أشد فخاخ الحياة متانة، واطمأن قلبي لشخص بعد أن وكلت أمري لله، كانت هي نفسها سعيدة جدا، تغمرها الفرحة وتُشع من عينيها، حدثتها على انفراد أنني تمنيت لو أن أمي معي، قالت لي “كلنا معك وهذا حكم ربي”، لكنها الآن ليست معي، ليست معنا، وهذا حكم ربي،
في السابع من فبراير، كنت أحمل كتابي بين يديّ، وروحي مُفتتة من الفقد، وكنتُ أيضا مطمئنة إلى العائلة التي سأذهب لأعيش في وسطها ومواساتهم الرقيقة لي، ذرعتُ “ذلك البيت”، وانتهى بي المطاف إلى غرفتها، جلستُ على سريرها وبكيت، رددت كيف لهذه الروح أن تحتمل، وكيف لي أن أحتمل كل هذا؟
هذا الفقد موجع
تختبر الحياة الواحد فينا مرة بعد مرة، بموت عزيز أو جرح غائر، وحين يروض الواحد فينا قلبه على الصبر والتجلّد تختبره الحياة مرة أخرى.
موتها فتّت روحي، وجدد جرحا غائرا في قلبي، لكنني أتذكر كلماتها لي حين قلت لها أنني أتمنى لو أن أمي هنا، قالت لي: “كلنا معاك، وهذا حكم ربي، وهي فرحانة بيك في قبرها، وانتي لازم تفرحي وتقولي الحمدلله، لو كان أشبح شن يصير، لازم تفرحي”، وكأنها كانت تمهد لي وترشدني ماذا أفعل كما كانت تفعل كل مرة.
رحم الله الحبيبة القريبة دوما حتى وإن ماتت، وجعل القادم في أيامي كما كانت هي تحب وتدعو لي.