المقالة

الميكيافيللي والأمير

من أعمال التشكيلية نادية العابد

إن الميكيافيلي، ونعني به السياسي إزاء الأمير، لم يكن هدفه كما هو بائن في كتابه ذائع الصيت “الأمير” طرح نظرية في تسييس سلطة الحاكم المستبد الذي تبرر غاياته وسائله، إنما كان البحث كما يظهر جلياً في كتابه “المُطارحات” في ضرورة الوحدة الإيطالية غاية ووسيلة بما سيحققها في أواخر القرن الـ 18 في إيطاليا بمضمون القومية الثنائي السياسي “الكونت كافور” والمُقاتل “جوزيبي غاريبالدي”.

احتلت إيطاليا عام 1911 إيالة طرابلس الغرب العثمانية، وكانت بنغازي ذاك الوقت لفترة استثنائية متصرفية مستقلة إدارياً عن طرابلس وتابعة للباب العالي في إستانبول. انهزمت إيطاليا وسلمت ليبيا لقوات الحلفاء موحدة، لتنقسم من جديد إلى أقاليم ثلاثة برقة وطربلس تحت الانتداب البريطاني وفزان تحت الانتداب الفرنسي.

الثنائية الفيدرالية/الوحدوية ليست هي سياسة الليبيين الدين خرجوا من استعمارهم إلى الانتداب عليهم لا بملكون من أمرهم شيئاً، بل سياسة بريطانيا في ليبيا التي حررت قواتها إقليميها التاريخيين سيرينايكا “برقة” وتريبوليتانيا “طرابلس” من الاستعمار الإيطالي. وهدفها الاحتفاظ بشرق ليبيا المتمثل وقتها في إقليم برقة المحاذي لمصر، البلد الذي تحتله، في الوقت الذي يثار فيه موضوع جلاء القوات البريطانية عنه وأمن قناة السويس معبراً بحرياً حيوياً للتجارة الدولية. ولتحقيق السياستين لجأت بريطانيا بالاتفاق مع إيطاليا إلى: 1 ـ تقديم مشروع بيفن سفورزا إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، بهدف تقسيم ليبيا إلى ثلاثة أقاليم بثلاث وصايات بريطانية على برقة، وإيطالية على طرابلس وفرنسية على فزان، كما سعت في الوقت نفسه بضغط ضمني من الولايات المتحدة الأمريكية إلى: 2 ـ إفشال مشروع بيفن سفورزا وتشجيع الشعب الطرابلسي بالتظاهر ضد المشروع التقسيمي الوصائي ورفض عودة إيطاليا والمطالبة بالاستقلال والوحدة مع برقة وفزان.

في تجربة الاستقلال الليبية 1949 ـ 1951، تحققت سياسة ليبية بتأثير بريطاني /أمريكي موارب بثنائية الأمير والسياسي الميكيافيللي. الأمير توحيدي يُضمّن الوطن بعد إلحاق القبيلة البرقاوية في مفهوم إمارته السنوسية، والسياسي يضمن الإمارة في مفهوم أشمل للوطن بما يعني الأمة الليبية. وهذا ما تُطلعنا عليه محاضر الجمعية الوطنية التأسيسية الليبية في النقاشات الطرابلسية للدستور الذي أنشأ رمزياً دولة ليبيا الحديثة 1951. إذ يلاحظ أن أعضاء حزب المؤتمر الطرابلسي الذين مثلوا ميكيافيلية زعيمه بشير السعداوي، وهم نخبة من المؤهلين بالمعرفة الدستورية كـ: منير بُرشان وعبد العزيز الزقلعي ومحمد الهنقاري ناقشوا النقطة الجوهرية في بداية الجلسات بأن الوحدة هي الأسلم لليبيا المستقلة وليست الفدرالية التي تساهم في تغذية انفصال إقليم برقة لتأكيد هيمنة الإمارة السنوسية واستعماله ورقة مقايضة في يد إدريس السنوسي ومن ورائه بريطانيا إزاء ساسة طرابلس المعارضين للإمارة والمطالبين بالجمهورية، الذين أسقط في يدهم فأضطروا للبيعة. وقد انتهز عبد العزيزالزقلعي انتقال اللجنة بكامل هيئتها إلى بنغازي لمقابلة الأمير إدريس ومبايعته فألقى في تلك المناسبة بياناً أعرب فيه عن رغبة الشعب الطرابلسي في مبايعة الأمير إدريس ملكاً على دولة موحدة لا دولة اتحادية، الأمر الذي قبله الأمير ترضية للمجتمعية السياسية الطرابلسية الواعية ووعد بتنفيذه تدريجياً. وهو ما حققه نتيجة ضغوط أمريكية بتعديل الدستور في عام 1963 ليلغي بذلك النظام الفيدرالي (نظام الولايات) وتتحول ليبيا إلى دولة موحدة ويعدل اسم الدولة من “المملكة الليبية المتحدة” ليصبح “المملكة الليبية”.

كما الخلدونية، فان الميكيافيلية خضعت للحتمية التاريخية التي تحكم النظم من حيث ميلادها ونموها وأفولها. ففي كتابه الأمير كان تنظير ميكيافيلي لاستبداد الإمارة مشروطاً ومؤقتاً حتى تتحقق الدولة القومية. أما في كتابه “المُطارحات” فكان تنظيره للدولة لتصبح جمهورية تمتثل لقيم الحرية ولا تخضع لدواعي الاستبداد. ينتهي التنظير الميكيافيلي إلى خلاصة تفيد بوجود ثلاث قوى تتبادل المراقبة وبإمكان النظام الاستمرار بفعل توازن هذه القوى. هذه الفكرة غير السائدة عن الفكر الميكيافيلي تجعلنا كما فعل “برجيس” نصف السياسي الإيطالي بالمفكر المقنع الذي مهدت ثنائيته للمشروع القومي الذي تبدت معالمه في تطور ثالوث الدولة الأوروبية المعاصرة : 1- الدولة -الإكراه. 2- الدولة – القانون. 3- الدولة – المؤسسات.

يذكر بشير السُني المنتصر الذي تبوأ وظائف في العهد الملكي أنه في عام 1965 التقى في جنيف مبعوث الأمم المتحدة إدريان بلت فسأله لماذا اُضطر لتحقيق استقلال ليبيا 1949 ـ 1951بنموذج التقسيم الفيدرالي، فكان رده صريحا وهو أن التوفيق كان مستحيلًا بين الدعوة إلى وحدة البلاد التي تؤيدها أغلبية الشعب الليبي وخاصة في طرابلس، ورغبة أعيان ومشائخ ولاية برقة في المحافظة على هويتهم المجتمعية ومصالحهم القبائلية تحت الإمارة السنوسية ممثلة لاحقاً في الملك إدريس بدعم بريطانيا وفقا لوعودها له أثناء الحرب العالمية الثانية. ورغم أن الأمير إدريس بويع من طرف زعماء طرابلس دون قيد أو شرط قبل وضع الدستور، إلا أنه استمر في مساندة برقة كهوية قبائلية مكملة لإمارته في كل طلباتها أثناء الإعداد للاستقلال، وهذا شيء موافق للتقاليد الدعوية السنوسية.

لقد تيسر للملك إدريس السنوسي إلغاء النظام الفيدرالي لهشاشته بجرة قلم، دون أن يسجل التاريخ أي معارضة من أي انفصالي يتستر بالفيدرالية لتغذية مطامعه في سلطة وثروة غيرِ جدير بهما. وأتم هذا التعديل في الدستور وحدة الأقاليم الليبية الثلاثة. بعد أن استتب للسنوسي المُلك بإلغاء الأحزاب الطرابلسية، وهيمنة الحكومات المتوالية على مجلس النواب، بالتزييف المتكرر للانتخابات البرلمانية، وجعل البرلمان الليبي بتعبير المنطق مفهوماً لا ما صدق له. وبهذا توقفت إلى اليوم الدولة الليبية الحديثة في مبتدئها كما وردت في المشروع الميكيافيلي عند الدولة ـ الإكراه دون أن تتجاوزها إلى الدولة – القانون. وبعدها الدولة – المؤسسات.

في مقتطف لميكيافيلي من كتابه “الأمير” يقول: “هناك بعد شاسع بين ما يعيشه المرء وما ينبغي أن يعيشه” ومنه يستشف أستاذ الفلسفة أ. أبوعزة من النص، وكذا من نصوص أخرى مشابهة وردت في المطارحات، توكيد السياسي الميكيافلي على التباعد بين الواقع المعيش واليوتوبيا. لقد كان المفكر الإيطالي الذي كان يُبهظ مشاعره الحزينة تشرذم بلاده إيطاليا على وعي بوجوب تغيير نمط قراءة الفعل السياسي؛ فبدل القراءة اليوتوبية التي تبحث فيه من منظور ما يجب أن يكون عليه، حاول فيلسوف فلورنسا التنظير لطريقة مغايرة، تقرأ الواقعة السياسية في مستواها الفعلي. وبهذا فصل بين الكائن وما ينبغي أن يكون عليه، فبلور حسب بعض القراءات الفلسفية رؤية موضوعية لواقع الاجتماع السياسي، جعلته أول مؤسس لعلم السياسة بمفهومه الحديث.

مقالات ذات علاقة

الفزاني… هذا النسيم الذي يبعث الانتعاش

محمد الزنتاني

العمل الارتجالي لا يفيد

المشرف العام

تهريب الضو.. من الفاعل؟

عبدالحفيظ العابد

اترك تعليق