د. علي برهانه
تقوم رواية (علاقة حرجة) لـ عائشة اﻷصفر على المفارقة irony على كل المستويات، ولما كانت هذه الرواية عملا عميقا يقوم على التداخل بين الواقع المعيش، والمتخيل، بين العجائبي والتاريخ، بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، بين الوهم والحقيقة؛ فإن تقديم قراءة لها في ظل ذلك كله يؤدي إلى الإرباك لا محالة، ومحاولة لتجنب هذا الإرباك فسأقوم بتقسيمها إلى مستويات؛ أي دراسة هذه الظاهرة (المفارقة) على عدة مستويات كل مستوى يحاول استجلاء بناء المفارقة من خلال مكون من مكونات النسيج الروائي(الحبكة)، وبيان ما يحتويه من حس المفارقة ، وستكون هذه المستويات ممثلة في الآتي:
1- العتبات النصية.
2- العجائبي والتاريخي.
3- المكان والزمان.
4- انفتاح النص على المستقبل.
وقبل ذلك كله يجب القيام بخطوتين ضروريتين ليكون ما ستقوم به هذه القراءة جليا وواضحا للقراء؛ أولى هاتين الخطوتين، ملخص للرواية، والثانية تعريف مختصر بالمفارقة…
فعلى مستوى الخطوة الأولى ،فإن هذه الرواية تتعرض لما يسمى بالربيع العربي، وهي معنية بما حدث في ليبيا، ولكنها ككل روايات الكاتبة تعالج ذلك في إطاره العربي، هذا الإطار الذي يبدو متوفرا على جملة من الثوابت تنتظمه وتحدد ملامحه فتبرزه في وحدة تاريخية تعنى بما هو كائن وما سيكون، دون أن تغفل عما قد كان، ومع ذلك تبدو الرواية عملا متماسكا لا يشكو من فرض محمولات أيديولوجية مباشرة عليه رغم نهوضها بهذه الهموم الأيديولوجية، ولذلك فإن تلخيصها يبدو عملا شاقا؛ فهي تناقش ما حدث في ليبيا في 2011م من خلال عائلة ليبية، ومن خلال من لهم علاقة بهذه العائلة، أصدقاء، وجيران، وزملاء عمل ومن خلال فضاء مجتمعي يضيق ويتسع؛ يضيق ليختزل في مدينة القصر، ويزداد ضيقا فيقتصر على الحي رقم2، أو الضاحية، ثم يعنى بما حدث أثناء المواجهات بين النظام والثوار، ثم بعد سقوط النظام ما حدث من خلافات أذكتها التدخلات الأجنبية التي رافقت التغيير الليبي وغيره من التغييرات العربية ويتسع ليشمل الإطار العربي الذي يتوفر على إمكانيات عربية فردية في مقابل قصور رسمي معيب.
تتخذ الرواية من العجائبي وسيلة لطرح كل المتناقضات الواقعية والتاريخية، هذا العجائبي المتمثل في تلبس الشخصيات لذاكرات تاريخية وحديثة لتقول من خلالها ما تشاء قوله، أي أن الشخصية تغيب يوما أو يومين لتأتي متقمصة شخصية أخرى، ناكرة لشخصيتها الحقيقية، سواء كانت هذه الشخصية تاريخية كما حدث للبطل الرئيس (جبر) الذي تقمص شخصية عالمة الذرة المصرية (د. سميرة موسى) المتوفاة سنة 1952م، وغيره من الشخصيات، سيحدث ذلك خللا على المستوى العائلي والمحلي، والإقليمي والعالمي، لينكشف الواقع عن خلل وقصور كبيرين. هذا ملخص معب للرواية.
أما على مستوى الخطوة الثانية، تعريف المفارقة؛ فهذا أمر يمثل في حد ذاته (مفارقة) لأن هذا المصطلح البلاغي قديم حديث، فهو على من جانبه العربي حديث على مستوى (المصطلح) وإن كان حاضرا في الدراسات البلاغية القديمة على مستوى الإنجاز؛ وذلك في صورة مسميات أخرى؛ إنه ينتمي إلى حقل السخرية، فنجده عند البلاغيين القدماء يرد تحت مسميات أخرى مثل التهكم، أو تجاهل العارف، أو المدح بما يشبه الذم، أو التضاد، أو التعريض، ولكن بهذه التسمية (المفارقة) لم يلاحظه أحد من النقاد المحدثين الذين أخذوه من الدراسات النقدية الغربية؛ هذه الراسات التي يتوفر فيها هذا المصطلح على تاريخ طويل يمتد من (سقراط) إلى وقتنا الحاضر، وأول من ترجمه عن الإنجليزية الدكتور (عبد الواحد لؤلؤة) في ترجمته للمصطلح النقدي، ووجدت الآن ببلوغرافيا قليلة قياسا على ما ه منجز في الراسات النقدية الغربية، وقد ترجمه بعض الدارسين العرب بالسخرية ولكنه يكاد يستقر باعتباره أحد مكونات السخرية وليس السخرية في حد ذاتها، وأغلب من تعرض لدراسة هذا المصطلح لاحظ صعوبة تعريفه، ولن ندخل في الجدل القائم حول ذلك وسنكتفي بتعريف موجز له، ومن شاء الاستزادة فليطلع على المؤلفات العربية التي نقدم بها ثبتا في الهامش رقم 3.
المفارقة تعني قول عكس المقصود من ظاهر اللفظ بقصد التهكم، وهذا اللفظ (التهكم) بالذات يعده الكثيرون بديلا عن لفظ المفارقة أو مرادفا له، وأوضح مثال على مضمون المفارقة قول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: “ذق إنك أنت العزيز الكريم” قاصدا: ذق العذاب إنك أنت الحقير الذليل، لمن زعم أنه لم يوجد في مكة من هو أعز منه، فبين كيف سيعذب يوم القيامة وما سيلحقه من هوان وذل ثم يقال له ذلك على سبيل التهكم.
ولكن المفارقة الأدبية لها أساليب كثيرة وطرق أخرى تندرج فيكلها في الخفاء والتجلي، والإضمار والإظهار، وفي التضاد، إنها سخرية بطريقة مواربة، والسخرية في اللغة العربية لها محمول سلبي، وهذا أمر أشار إليه أغلب من تعرض بالدراسة للسخرية في القرآن الكريم، وخاصة الآية الكريمة: {ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون} أي أن من يسخر يمارس الاستهزاء والاستهزاء اعتداء بشكل ما وسيعاقب بالطريقة نفسها، ولقد نظر النقاد إلى المفارقة على أنها قام الأدب الراقي فقال عنها قوته ما يعني أن المفارقة هي الملح الذي يضاف إلى الأدب فجعل طعمه مستساغا ومقبولا، وقال عنها أناتول فرانس “أدب من غير مفارقة مثل غابة بلا طيور” وغير ذلك كثير، وعليه فالمفارقة أسلوب أدبي راق ولا يستطيع ممارستها أي كان، فهي تتطلب حسا أدبيا متقدما وعلما بمكونات الأدب، وثقافة واسعة، ومهارة في الكتابة، وهي توجد في الشر والنثر وخاصة في المسرحية (المفارقة الدرامية) وفي الرواية، ومن أشهر الكتاب الليبيين الذين عنوا بالمفارقة في كتاباتهم (الصادق النيهوم).
ندخل بعد ذلك عالم الرواية (علاقة حرجة) لنرى كيف تحققت أو بنيت المفارقة على المستويات التي ارتضيناها للدراسة.
1- على مستوى العتبات النصية:
العتبات النصية جمع (عتبة) والعتبة معروفة في المباني فهي تعني المدخل لكل مبنى، فقبل الدخول لأي مكان مسقوف أو غير مسقوف لابد أن نتجاوز العتبة أي نمر بها، أما في النص الأدبي فالعتبة تعني الاستهلال الذي يستخدمه الكاتب ليمهد للموضوع الذي يريد أن يطرحه، وهذا الاستهلال قد يكون مباشرا وقد يتعلق بالموضوع بطريقة التناص، وبذلك فإنه يوجد فرق بين مداخل النص المعتادة كالعنوان والتمهيد أو المقدمة أو التقديم، وبين الاستهلالات التي يدخل مع النص في علاقات غير مباشرة، تعد هذه الاستهلالات نصوصا موازية تدخل في علاقات مع نص الرواية قد تكون قريبة جدا وقد تتباعد شيئا ما، ولكن في جميع الأحوال تبدو العتبات ذات وظائف معينة تساهم في تركيب النص، وفي قصديته، وفي جماليته، وأول هذه العتبات العنوان الذي يختزل الرواية في بعض الحالات أو على الأقل يطمح لذلك، ومن الوظائف التي ينهض بها العنوان الإعلان عن الرواية وتحديدها، فهو إذا ليس نصا موازيا ولكنه ملخص لها، وهي متبلورة فيه.
عنوان الرواية (علاقة حرجة) فعلى المستوى التركيبي هو جملة اسمية شأن معظم العناوين في الرواية بصفة عامة، وفي عناوين روايات الكاتبة على وجه الخصوص، أي (هذه علاقة حرجة) فالمبتدأ مضمر، وهو بهذه الكيفية يلخص النص أو يختزله في جملة واحدة فالتركيب مختصر ومكثف، يحصر الحالة في جملة واحدة؛ أي ليس ثمة داع إلى التطويل، إنه أي الحال بهذه الصفة المختصرة.
غير أن ما يعنينا من هذا العنوان المكتنز هو بناء المفارقة فهو يتلخص في لفظين، (علاقة) و(حرجة) وإذا نظرنا إلى هذين اللفظين من جهة الدلالة برزت لنا المفارقة في أجلى صوره، فالعلاقة من الناحية الدلالية تعني التمسك بالشيء والاستحكام منه، وتعني من بين ما تعنيه الحب الشديد .فإذا وصلنا الشق الثاني من جملة العنوان (حرجة) وجدناها تعني الضيق الشديد، وتعني الإثم وتعني الحنث في اليمين كلها محمولات سلبية، تفرغ الشق الأول من الجملة من محمولاته الإيجابية ، وتنتقل به إلى دلالة مضادة، تفيد الكرب والضيق، وهنا تتكرس المفارقة، فالعلاقة بين شقي العنوان علاقة مفارقة بكسر الراء، تؤدي إلى الإرباك، والتشتت النفسي، والقنوط، أي تتحول الدلالة إلى الضد؛ الحب في مقابل الحرج الذي يعني الضيق الشديد، (يجعل صدره ضيقا حرجا) وهذا طبعا يلخص الرواية كلها.
وسنجد هذا العنوان حاضرا في النص، على كل المستويات؛ في بناء الشخصيات، والأحداث، وعلى مستوى الزمان، والمكان، ثم بعد ذلك على مستوى أطروحتها. نلتفت بعد ذلك للاستهلالات التي تقدمت على معظم فصول الرواية، كان عددها ثمانية…
1- الاستهلال الأول: لجلال الدين الرومي، “أنا لك فلا ترجعني إلي“…
ينتمي هذا الاستهلال إلى الخطاب الصوفي، فهو أساسا يقوم على الخفاء، فيحاول الصوفية أن يجعلوا اهتمامهم بالنفس، ولذلك لا يولون المظاهر اهتماما كبيرا، أي إنه يعمد إلى الإغراق في الغموض، ومن هنا تبدو (مفارقته) إذ يتجاور فيه التبسيط والتعمق، فعبارة (انا لك) تتركب من مبتدأ وخبر؛ (أنا) الضمير المنفصل مبتدأ و(لك) جار ومجرور متعلق (بكائن) خبر المبتدأ فالمتكلم يقصر كينونته ووجوده على المخاطب الذي هو الإله (الله سبحانه) فالتركيب يفيد الفناء؛ فناء المبتدأ في الخبر، فناء المتكلم في المخاطب، فإذا جئنا للشق الثاني من العنوان (ترجعني إلي) من شأن هذا الرجوع أن يلغي تحقق الفناء ولذلك يقدم قبله حرف النهي (لا) الناهية لكن هذا النهي يأتي من الأدنى(العبد) إلى الأعلى (الخالق) وهو لذلك صورة من صور الدعاء، فليس في مقدور الأدنى فرض شيء على الأعلى إلا بالطلب أو الرجاء، وعليه تكون الذات معلقة بين السلب والإيجاب على مستوى الدلالة؛ إنه طموح المحدود أو المتناهي كما تقول الفلسفة في الاتحاد بغير المحدود أو غير المتناهي، وهو أمر تحول دونه كيانات مادية تعيق الروحي من التسامي إلى غير المحدود أو غير المتناهي، فتظل الذات معلقة بين الرجاء وعدم الإمكان، فيمثل الاستهلال إذا صرخة لتلبية رغبة تبدو صعبة المنال إن لم تكن مستحيلة، وهنا المفارقة في تجاور المحدود بغير المحدود، مما يجعل الاستهلال نداء للبعيد القريب، وهو لذلك يتفاعل مع النص الروائي على مستوى الأطروحة؛ سمو الطموح في مقابل تخلف الواقع وانتكاسه وترديه، ولكنه تخلف وإن بدا مشوها فإن ما دعا إليه هو الرغبة في تغييره.
2- الاستهلال الثاني: (اخلع نعليك واقترب)…
يمثل هذا الاستهلال الولوج إلى المستوى الما وراء الطبيعي (الميتافيزيقي) إنه ينهل من المقدس (القرآن الكريم) فهو تركيب يتكون من أسلوب طلبي، جملتين طلبيتين (اخلع نعليك) ثم التابع (اقترب) المخاطب حاضر على مستوى الضمير المستتر (أنت) فمن هذا المخاطب الذي؟ ولاذا لكي يتحقق له الاقتراب عليه أن يتخلى عن نعليه؟ طبعا يحيلنا هذا على (موسى عليه السلام) لكي يتصل بالوحي وبخطاب الله له طلب إليه أن يخلع نعليه، فالعبادة تقتضي خلع النعلين، يحدث هذا في الصلاة، وفي الحج، وإذا كانت العبادة كما يفترض فيها قربى؛ فهي تتطلب التخلي عن شيء ما، إنه النعلان، أي لابد من الفقد ليتم الاقتراب بغض النظر عن المفقود، وعن المكتسب ، يبدو هذا الاستهلال في تناص مع النص (استبدال الذاكرة) فالمطلوب التخلي عن ذاكرة أو عين أو قلب، للحصول على غيرها؛ وكما أن موسى لم يكن بعرف لماذا عليه أن يخلع نعليه فإن الشخصية الروائية لا تدري عن مصيرها بعد الاستبدال شيئا ، التخلي عن المعلوم واستبداله بالمجهول، وهنا مناط المفارقة، فلا مجال لمعرفة النتيجة إلا بعد الولوج إلى التجربة، إن الاستهلال على ذلك يمثل قدرا لابد منه، لا اقتراب إلا بعد خلع العلين ولا معرفة قبل الممارسة، فهو يمثل الدخول إلى عالم المجهول بسبب ثقل الواقع الذي تعيشه الشخصية، وهو ما سيتحقق بعد ذلك على مستوى الموضوع الأساس للرواية.
3- الاستهلال الثالث: “حتى يولد منك ذلك النجم الساطع لابد أن تمتلي روحك بالفوضى” (نيتشه)…
يحيلنا هذا الاستهلال على فلسفة نيتشه فلسفة القوة كما يسميها، بنيت العبارة على أسلوب الشرط، في هيئة معادلة بين موضوعين (حتى يولد منك ذلك النجم الساطع) ليس الشرط هنا بأدواته المعروفة، (حتى) حرف الغاية يساق بديلا لأداة الشرط؛ أي أنه توجد غاية يراد الوصول إليها، وهي، الولادة التي يعقبها السطوع، فيقابل ذلك الامتلاء، وهو مالم يتم، ولكن أي ولادة؟ وأي امتلاء؟ هنا نستعين بالدلالة إن ما سيولد هو النجم الساطع السطوع تفيد الانتشار والارتفاع، والنجم معروف في دلالته على السطوع والارتفاع، فالغاية المنشودة أو المطلوبة تتمثل في الوضوح والقوة والشهرة، والعلو، والارتفاع، والانتشار، أي (ألنجاح) هذا يتطلب مطلبا قبله هو الامتلاء، ولكن بماذا؟ بالفوضى فإذا كانت الغاية إيجابية فإن طريق تحققها سلبي، لك أن تتصور كل شيء في طرح الرواية؛ إن الغاية نبيلة؛ الثورة للوصول إلى السعادة، لكن هذه الغاية دونها الفوضى، وما ينتج عنها من تشويه، ومسخ، تتفاعل هذه العتبة بشكل جلي، فالمفارقة تكمن في أنه دون الغايات النبيلة دائما عقبات تهدد هذه الغايات بالفشل، وتتجاوز ذلك لتحل محلها بكل سلبياتها، غير أن السعي لبلوغ الغاية يظل قائما.
إلى هنا نحن نتعامل مع اقتباسات من حقول معرفية مختلفة، تجمع بين المقدس والإنساني تكرس مبدأ المفارقة دائما، ثم ننتقل إلى استهلالات جديدة مقتبسة من النص نفسه لا ندري كيف تحققت، فالمفترض فيها إنها عتبات، مداخل، قبل تحقق النص، تبدو هذه المسألة في حد ذاتها مفارقة، فلما كانت الاستهلالات فقرات من النص فإن حضورها سابقة عليه يدخلنا في المفارقة، هل كتبت أولا؟ وإذا كانت كذلك فكيف؟ هل هي عناوين؟ وحتى لو اعتبرناها عناوين يبقى سؤال عن دخولها للنص قائما، كيف دخلت الجوار؟ مثل هذه العتبة الرابعة التي ترد على لسان إحدى الشخصيات.
4- الاستهلال الرابع: “الأقدام المشلولة لا تصنع الزلازل ولو أشعلت تحتها براكين الأرض“…
لقد ورد هذا الاستهلال بوصفه عبارة مستقلة في هيئة مقولة أو حكمة نجده بعد ذلك في هيئة حوار بين شخصيتين: “تساءلت: لم لا يتظاهرون بدل وقوفهم في طوابير؟ إن أعدادهم مهولة، تستطيع أقدامهم صنع زلازل لو حرك كل واحد منهم فقط قدميه؟“. من المعلوم أن المقدمات تكتب آخر شيء في البحوث، فهل الأمر كذلك هنا؟ هذه مسألة لا يمكننا التأكد منها ولكنها تعطينا فكرة عن حضور الرواية في وجدان الكاتبة حتى تستطيع تقديم استهلال تعلم أنه يكون له حضور في المتن بعد ذلك، أو لعلها تقنية تلجأ إليها الرواية بعد الفراغ من كتابتها فتقدم الاستهلالات بأثر رجعي.
على مستوى الدلالة تبدو المفارقة ماثلة بين الغاية والوسيلة، فالتغيير الكبير بمثابة الزلزال ضعف الأدوات ولكنه يحتاج إلى أداة متمكنة، غير أن المتوفر منها يتمثل في أقدام مشلولة أي جموع مستلبة مقموعة خائفة فلا يمكنها أن تحدث أي تغيير فغياب التغيير سببه ضعف الأدوات التي يجب أن تصنعه ومن هنا تبنى المفارقة الاعتماد على أقدام مشلولة لصناعة الزلازل (التغيير الكبير) وهذا في حكم المستحيل.
5- الاستهلال الخامس: “من سنلاقي أمامنا في لجنة؟ وجه الرسول؟ أم الحور العين، أم أبناءنا المغتالين؟“…
بني هذا الاستهلال على أسلوب إنشائي(استفهام) وهذا الاستفهام يكرس غياب اليقين في ما هو يقيني؛ فمن أدبيات المسلمين أن الأبرياء الذين يقتلون من غير جريرة شهداء، وخاصة الأطفال وعليه هم في الجنة، التي من نعمها الحور العين، كما أن لقاء الرسول مما يرجوه المسلمون لكنه هنا أمر مختلط وهنا مكمن المفارقة، أي أن الطرفين اللذين يتحاربان يدعيان الحق، وكلاهما يكبر الله، ويلعن الطرف الآخر، ويزعم أن قتلاه شهداء، رغم الممارسات غير الإنسانية التي يمارسها، والتي لا تنتمي إلى الدين في شيء إلا أن ذلك لا يغير من الأمر شيئا، ثم تأتي هذه العبارة على لسان إحدى الشخصيات في الفصل الذي يلي الاستهلال،(صالح) الذي اتهم من النظام واعتقل وعذب، وعندما خرج اعتقله الثوار وعذبوه لينقذه الدواعش ويستخدموه، ولما هرب منهم وجد بيته أنقاضا وزوجته وطفله كانوا قد ماتوا فيه، ثم أصبح مطاردا من الجميع بالإضافة إلى موت أبويه كمدا، ونزوح عائلته واختلال أخيه، فليس ثمة مفارقة أغرب من ذلك وأشد درامية، ولذا يقولها بتهكم: “هه! من سنلاقي في هذه الجنة الموعودة… الخ“.. إنه موقف شديد الخلل مغرق في الغرابة، وهنا المفارقة. ليس في جنون.
6- الاستهلال السادس: “إن القهر الحقيقي ليس في جنون العقل، إنما في استعباد الإنسان واستباحته، والعبث به“…
إن المفارقة التي يكرسها هذا الاستهلال تتمثل في تفاوت المصائب؛ أن يعاني الإنسان حتى يفقد عقله يبدو هذا خللا في الواقع المعيش، ونقصا في شروط الحياة، ولكنه يظل هينا إلى جانب استباحة الإنسان لدرجة الاستعباد، والعبث، تبدو هذه المقولة موازنة بين فقدان الذاكرة والتلبس بذاكرة أخرى أي الضياع؛ وبين فقدان القيمة الإنسانية للإنسان، واستباحته وضياع كل حقوقه، ومن ثم فهو يتناص مع ما في الفصل الذي يليه من الرواية الذي تتجاور فيه المتناقضات مما لا يستوعه العقل، “ذلك الداعشي السوداني يلوك عود السواك، تدق قبضته مقدمة سيارة رجل قافلا إلى بيته.. طالبا هويته“.
ثم يتحول الوضع إلى أقصى درجات الفانتازيا حين يأتي المسلحون ليقبضوا على من فقد ذاكرته وتقمص ذاكرة امرأة، بتهمة أنه داعشي، وذهبوا به ليعذبوه ويحققوا معه، فالعلاقة بين الاستهلال وكل المادة الموجودة في الفصل بصورة خاصة وفي الرواية بصورة عامة علاقة تفاعل (تناص) الشعارات الكبيرة التي تتخذ غطاء للانتهاكات الكبيرة.
8- الاستهلال الثامن: “هل تفيد العلوم في استعادة ذاكرة محتلة؟“…
أمر هذا الاستهلال يختلف عن البقية، إنه يرد في الرواية قبل استعماله استهلالا، وهو كما هو واضح خبر في صورة إنشاء، والسؤال عن جدوى العلوم، وهذا أمر ليس محل تساؤل فالجميع يتفق على فائدة العلوم، والحضارة هي نتيجة العلوم، لكن العلوم تبدو غير مفيدة في هذه الحال، إن الذاكرة التي تتعامل مع العلوم غير سوية (محتلة) تبدوا هذه العبارة اعتراضا على فائدة العلوم، لكن ما يجعل هذا الاستهلال يمثل حالة غير عادية مجيئه على لسان شخصية عادية. تقوله (غزالة) امرأة عادية جدا وهي تناقش (د. سميرة) التي هي عالمة كبيرة ما يجعلها تفكر فيه وتتساءل بشأنه وتصف قائلته بأنها (امرأة بسيطة) تقول: “تسألني كحكيمة وهل تفيد العلوم… الخ ” أي أن الإنشاء يتحول إلى خبر؛ فالاستفهام إنكاري (لا تفيد العلوم في استعادة ذاكرة محتلة) والمرأة البسيطة تتحدث عن زوجها الذي احتلت ذاكرنه (د.سميرة موسى) عالمة الذرة، فماذا تعنيها ذاكرة عالمة إذا كانت تحول رجلها إلى امرأة؟ فهذا مستوى أولي من المفارقة، غير أن ما بعد الاستهلال يمثل تطورا في الرواية تتقاطع فيه المتناقضات السياسية والإدارية المحلية والعالمية؛ (جبر) متحول إلى امرأة من نوع خاص، وهو لدى المسلحين داعشي ومجرم خطير يقبضون عليه ويعذبونه، وهو لدى المصريين ذاكرة مصرية يجب الاستفادة منها دون أن يفكروا كيف سبقهم في مجال الذرة من بدأ بعدهم، وهو لدى الحكومات الليبية الثلاث مواطن ليبي له حقوقه وهي تريد أن تستغله سياسيا، لكنها لا تعلم عنه شيئا ولا تدري شيئا عمن يقبض عليه ولا سلطة لها عليه.
إذن احتلال الذاكرة يتحقق على كل المستويات، والفصل الذي يأتي بعد العبارة يجعل منه مفارقة بكل المقاييس، فالمواقف والحوارات وكل النسيج الروائي يمثل متناقضات يضرب بعضها بعضا.
9- الاستهلال التاسع: “إن الإنسان لا يصدمه ما قد يتخيله، الصدمة الحقيقة تلك التي لم يتخيلها أبدا“…
البنية هنا خبرية تقدم خطابا مفروغا من حقيقته، فهو مؤكد (إن) أي أنه متحقق ما في ذلك شك هذا التأكيد يتعزز بأدوات أخرى الحرف (قد) ثم الصفة (الحقيقة) ثم الظرف (أبدا)إلى جانب اسم الإشارة (تلك) فتحقق البنية واقع لا ريب فيه أي أن ما سيأتي بعد هذا الاستهلال من الأمور لا يتخيلها العقل ولا يتوقعها، وهذا ما تشير إليه العبارة على مستوى الدلالة، فالصدمة قائمة في جميع الأحوال غير أنها تنقسم بين ما هو متوقع وما ليس كذلك، والمستوى الثاني غير المتوقع هو ما يمثل الصدمة الحقيقة، أي أنه يتجاوز المعقول، بمعنى إنه غير إنساني، وهذا سيشكل تناصا مع الممارسات العنيفة التي تتعرض لها الشخصية الرئيسة، ومع المواقف السياسية المضحكة المبكية، ثم مع الفانتازيا التي تختتم بها الرواية. فالاستهلال يمثل مناصة تتفاعل مع ذلك كله. وهذا التفاعل يبني مفارقة غرائبية على مستوى الخطاب الروائي كله.
> ثانيا العجائبي والتاريخي:
إن ثقل الواقع يدفع إلى بناء واقع عجائبي بغية الخلاص عن طريقه من انفلات الواقع المعيش، وهنا تدخل المفارقة أعلى مستوياتها؛ لأنها تتحقق عن طريق وعي الشخصيات، فتبني الرواية واقعين يتعايشان معا، أحدهما متردي إلى أدنى درجات التردي، والثاني متسامي إلى درجة عالية؛ فالشخصية الرئيسة (جبر) تمثل مواطنا طبيعيا من الطبقة المتوسطة، (موظف بسيط) محدود الثقافة، لكن ما تعرض له نتيجة الأحداث السياسية، والممارسات اليومية بعد ذلك يدفع به إلى فقدان التوازن، فيفقد ذاكرته ويتقمص شخصية أخرى، شخصية امرأة، ولكنها امرأة تتجاوز مستواه العلمي والثقافي، ولا يعرف عنها شيئا، وهنا المفارقة، لقد أخذ يتحدث ويتصرف باسم سيدة عالمة في علوم الذرة ومتوفاة، ويرفض الاعتراف بأنه الشخصية الواقعية ولا يتعرف على أفراد عائلته، ولا أصدقائه، هل نستطيع أن نقول إنه هروب إلى التاريخ؟ وإذا كان كذلك فلماذا هذا الاختيار؟ إنه وعي متقدم جدا، يحاكم الواقع الحالي، ويدينه، ويكشفه، ويظهر ما فيه من عيوب، لقد تم اقتناص شخصية من النصف الأول للقرن العشرين أي غداة استقلال المنطقة العربية عن النفوذ الأجنبي وبداية بناء المجتمع العربي الحديث، فكانت انموذجا ناجحا، ليدفع به في مواجهة المتأخرة عنه زمنيا (المعاصرة للربيع العربي) لينكشف الخلل.
الفرق في حدود الستين سنة، لكن النموذج الأول يمثل الطموح والتألق ومن ثم النجاح، في حين يبدو النموذج المعيش مفرغا من الوعي، أجوف، مستلبا، يرفع شعارات لا يقصر عنها فحسب؛ بل يسيء إليها، وهذه مفارقة مأساوية، إن التقاط شخصيات نسوية من التاريخ القديم (ذات الهمة)أو من السيرة الشعبية، ومن التاريخ الحديث (سميرة موسى) و(هدى عماش) و(رحاي طه)، لوضعها في مقابل النموذج المعيش (لمياء) أو (غزالة)يمثل مفارقة مخيبة للآمال؛ لمياء التي تسافر إلى تونس في برنامج تمكين المرأة، وهي بعقلية تقليدية لا تستطيع أن تقوم بأي مبادرة، يدفع إلى التساؤل من مكن ذات الهمة أو العالمات الثلاث؟ سميرة وهدى ورحاب؟ فالمفارقة مضحكة مبكية إن التغيير ينقلب رأسا على عقب.
لقد اختزل خطاب التحرير في إباحة الزواج من أكثر من واحدة، وخطاب رئيس الدولة بصدد (جبر) في الأمم المتحدة في توجيه الشكر لكل الدول، واستغل اجتماع الأمم المتحدة بسبب جبر في موضوع عام يعنى بالإنسانية كلها (الإنسان والسلام (للجميع) في حين يقبع هو (جبر) مغيبا لدى ميليشيا تعذبه ولا يعرف أحد أين مكانه، وغاب اسمه على كل المستويات أي حضور الشعارات في مقابل حالة جبر المأساوية، فإذا انتقلنا إلى الشعارات على الحيطان نجدها تقدم في خطاب أو تساؤل على لسان د. سميرة / جبر هكذا:
طحالب وجرذان = مشكلة بيئية.؟
الكرامة / فجر ليبيا = نوادي رياضية.؟
داعش = إعصار؟
هذه البنية المحايدة تستبطن مفارقة ساخرة، وكما هو معروف هكذا يجب أن تكون المفارقة؛ أي تقديم السخرية بطريقة تبدو غير مقصودة، فمن سيمكن المرأة غير متمكن؛ لمياء التي تنخرط في برنامج التمكين وتسافر على حساب المنظمات الغربية إلى تونس لا تنفع أخاها المريض بشيء، وتعتمد في ذلك على (فضل)، صالح المنكوب والمطارد أنفع لأخيه من الأخ الأكبر(نصر) الطبيب.
إن المفارقة تتبلور بعد ذلك في الصراع بين الرمز (النسيج الأبيض أي الجرد) الذي يتجلى (لجبر/ سميرة) وبين الذبذبات المستبيحة للفضاء الوطني أي أن هناك صراعا بين الرموز الوطنية التي تستند إليها الذات لحماية نفسها ضد كل انتهاك واستلاب (جبر/ سميرة) وهو تحت التعذيب، وبين ما يأتي به من الخارج تقول الدكتورة سميرة (لفضل): “أنتم لوحة استقبال لمصادر مهولة العدد، وأكثرها لا ترونه، تمطركم بمخدرات تستحث النوم، تصور نواياكم، تعيد تأهيلكم، وترتيبكم من جديد، أنتم وزوائدكم وألسنتكم وفضاؤكم محتلون، لا أعرف ماذا حل بالفضاء في أمريكا لم يصلنا هذا“.
3- المكان والزمان:
وهذا مستوى من مستويات المفارقة، لقد تضمنت الرواية المكان المتعدد : المرجعي، والتاريخي، والعجائبي، والواقعي، وهذه الأماكن معروفة على مستوى المصطلح، فالمكان المرجعي هو المكان المعروف للقراء كأن يكون اسم مدينة معينة، أو مدرسة، أو جامعة، فنقول/ جامعة طرابلس، أو حيا من الأحياء العروفة (أبو سليم) أو مقهى أو مطعم مشهور وهكذا، ولقد احتوت الرواية على مجموعة غير قليلة من الأماكن المرجعية بعضها في ليبيا وبعضها خارج ليبيا، وكان حضورها متماشيا مع بقية النسيج الروائي؛ كالشخصيات، والأحداث، وغيرها، فلأن الشخصية التي تصدرت الرواية هي شخصية العالمة المصرية(سميرة موسى) فقد وردت أسماء أماكن مصرية كانت لها علاقة بحياة هذه العالمة؛ لقد قام (فضل) بتجهيز الحاسوب، وربطه بالأنترنيت ليري العالمة الأماكن التي تعرفها وما طرأ عليها من تغير بعد اثنتين وستين سنة من وفاتها (سنبو، القاهرة، زفتى، الجيزة.) ثم في الولايات المتحدة كاليفورنيا، ولاية تنسي) ثم لندن، وجامعة أكردج، بغية إقناعها بأنها غريبة عن المكان، وأنها اقتحمت ذاكرة جبر. ولقد أراها صور هذه الأماكن في 1952 سنة وفاتها، وصورها في الحين الذي هي فيه 1917م وشاهدت ما طرأ عليها من تغيير، وهو تغيير إلى الأفضل، في حين تبدو الأماكن الليبية ليست كذلك ورغم أننا نجد أسماء روائية مثل مدينة (القصر) و(الضاحية) إلا أننا نجد فيها ملامح لأسماء مرجعية مثل (الحي رقم 2) و(جزيرة الزعفران) و(مصنع الأعلاف) وغير ذلك وكذلك نجد أسماء في تونس مثل (حلق الوادي) و(شارع روزفلت) و(حي المنار).
تكرس هذه الأمكنة المفارقة، لماذا تحضر أماكن مرجعية عربية وأجنبية في سياق قضية تتعلق بفرد ليبي مهجر وعائلة ليبية من الطبقة الوسطى؟ ما علاقة (جبر) الموظف البسيط بكاليفورنيا، ولندن والقاهرة؟ إن حضور هذه الأماكن يستمد مشروعيته من العجائبي (ذاكرة سميرة موسى) ومن ثم فوجوده مبررا ولا يمثل نشازا أو شططا فالمفارقة تكشف الفشل في مقابل النجاح، فالعلم يتغير إلى الأفضل؛ شوارع مرصوفة، ومباني نظيفة وأنيقة، وناطحات سحاب، في مقابل مطبات وأخاديد وانقطاع كهرباء، وغياب لكل الخدمات الضرورية، بما فيها حليب الأطفال، ومستشفيات خاوية من التجهيزات والمرافق. والأمر نفسه قياسا على الأماكن التاريخية، فقرزة وصبراتة، وأويا، ولبدة في مقابل المدن التي غادرها أهلها مهجرين أو حل فيها مهجرون.
أما المكان العجائبي فنلاحظه في النهر الخالد حيث توجد السلال التي فيها القلوب، والمقل، والذواكر، حتى يتم التحول من الإنسان النمطي للمواطن البسيط إلى الإنسان المتميز وعن طريق هذا المكان يتم استبدال الذاكرات والتحول من زمن إلى زمن، كل هذه الأمكنة مشدودة إلى المكان الواقعي (الروائي) أي (الضاحية) حيث تتعايش المتناقضات على مستوى الخطاب وعلى مستوى الواقع؛ فالخطاب يتمثل في الشعارات القوية المتعددة، والمتسامية، في مقابل الحياة المعيشة، أي في مقابل المتحقق الذي يمثل غياب أبسط شروط الحياة الإنسانية، إن المكان الواقعي يمثل الحقيقة المرة التي تفض حكل ما هو مرفوع فيه من شعارات.
> الزمان:
هذا يتبادل طبعا التأثير مع المكان، إن الشخصية الرئيسة في الرواية وكذلك بقية الشخصيات التي مثل حالتها تعيش زمنين مختلفين الزمن المضارع الحالي، والزمن الذي عاشت فيه الذاكرة، إنه يتشظى بين المعيش والماضي القريب والسحيق؛ لا تريد الشخصية أن تعترف بأنها في الزمن الحالي، بل تعتقد انها تنتمي إلى زمان يسبقه باثنتين وستين سنة، وبقية الشخصيات في صراع معها سواء من له علاقة معها أو من يتعامل معها عن بعد، مما يعني أن الرواية تسجل نزوعا إلى أزمنة مشرقة من التاريخ(زمن ذات الهمة) وزمن (سميرة موسى)وأساتذتها واقتناص أزمنة حققت فيها الذات نجاحات حقيقية، (بدايات المرأة الليبية) زمن المرأة العربية العالمة(في العراق)، ثم تستدعي شخصيات من التاريخ ؛ ابن خلدون، عمر المختار، عبد القادر الجزائري، عليسة، مبروكة العلاقية، إلى جانب شخصيات من أزمنة متفاوتة.
كما أن هناك زمن عجائبي يفرض نفسه على الرواية في هيئة كابوس، تتحول فيه الشخصية الإنسانية إلى شخصية حيوانية، تقدم الرواية عن طريقه هجاء للذات الإنسانية، ولكنه يظل مقحما على الرواية، وخارجا عنها، وتأثيره في بقية نسيجها ضعيف.
في جميع الأحوال نلمس المفارقة بين الأزمنة المشرقة التي حققت الذات فيها النجاح وسجلت الطموح إلى الأفضل والزمن الحالي الذي تبدو فيه عاجزة عن الفعل.
> انفتاح النص الروائي:
تختتم الرواية بخاتمة فنطازية، ولكنها تشير إلى التحول الذي يبدو في الإمكان؛ فإذا ربطنا الخاتمة بالبداية نجد أن التحول يلوح في الأفق وإن لم يتحقق بالفعل. فقد قال الشيخ لجبر عندما جاء ليستبدل ذاكرته “ستعيش بغيرها عاما”، ثم في الخاتمة “في مثل هذا اليوم جاءنا د. سميرة وها هي د. سميرة في عامها تقود حالاتها للخروج.”، قبلها يعود جبر لذاكرته الطبيعية لحظة سريعة “ظهر علينا يبحث عن أدوات الحلاقة … القهوة يا غزالة، الم يرن هاتفي؟ ألم يتصل نصر؟… ياه يا لمياء كأني في حلم جميل، وذلك الشيخ بخصلة الحناء عند النهر الساحر يناديني، وجرد عمي الغناي يلوح إلي…“ “نسيت يا لمياء وعاد د. سميرة” ثم “ها هو اليوم يكمل عامه مشطورا بين د. سميرة وبين جبر وبين زياد أيهم سيكون جبر؟ وهل سيكون؟“.
تختتم إذا الرواية بتظاهرة تدعو إليها د. سميرة التي سبق لها أن لاحظت الطوابير قائلة “لم لا يتظاهرون بدل وقوفهم في طوابير؟ أعدادهم مهولة تستطيع أقدامهم صنع زلازل، لو حرك كل واحد منهم فقط قدميه“.
هذه التظاهرة تتجاور فيها الشخصيات التاريخية كل يحمل لافتة تعلن عن الشخصية التاريخية التي تتقمصه، وهي شخصيات متميزة؛ (زعماء علماء وأدباء) والشخصيات الطبيعية التي جاءت لرعايتهم بوصفهم مرضى إلى جانب السحب المتولدة من الصندوق الكبير الذي ظهر فجأة بدلا عن صندوق (بوشنوارة)، كل ذلك تحت غطاء النسيج الأبيض التقليدي (ربما جرد عمي الغناي) الذي برز فجأة هو الآخر، وجبر ملقى في وضع أفقي يسبح متدثرا بالبياض لا يظهر إلا وجهه “خمنت إنه رأى جرد عمي الغناي“ ثم “فهل تذكره أم قاده إليه الذوق والإحساس؟ “سبق لجبر أن قال متحدثا عن معذبيه: “كادو يقتلونني لولا جرد عمي الغناي كان يلتف على رؤوسهم فيعميهم عني“.
إذن الجرد رمز للثابت الوطني الذي تلجأ إليه الذات في أشد المحن والذي يمثل المنقذ من هذه المحن، فالمفارقة إذا بين هذه المتناقضات، شخصيات طبيعية بسيطة، تتقمص شخصيات تاريخية عظيمة، لم تكن تعلم عنها شيئا في الواقع، ولكنها استدعتها عن طريق الوجدان الجمعي لتجمع بينها وبين الرموز المبشرة بالانعتاق؛ السحب التي ترمز للخصب والنماء، والنسيج الأبيض (الجرد) الذي يرمز للثوابت الوطنية التي تركن إليها الذات في محنها، فالنص مفتوح على إمكان التغير الذي سيكون واعدا.
_________________________________________
الهوامش
* (مشاركة في المؤتمر الدولي للنقد والأدب الذي أقامته جامعة طبرق 2020م، بإشراف د. سليمان زيدان، وقد نشرت في كتاب باسم الجامعة مع مجموعة بحوث اخرى)…
1- عائشة الأصفر علاقة حرجة. (رواية) نشر البيان للنشر بنغازي، نوفمبر 2019م.
2- د. عبد الواحد لؤلؤة .ت. موسوعة المصطلح النقدي، دي سي ميويك، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط، 1 1995م، ج، 4 عن المفارقة.
3- سيزا قاسم/ المفارقة في النص العربي المعاصر، 1982م، ب- د. نبيلة إبراهيم، المفارقة. فصول 1987م ج- د. محمد العبد، المفارقة القرآنية، دار الفكر 1994م، د. خالد سليمان المفارقة في الأدب، مكتبة الآداب. 1999م هـ- سعيد شوقي، بناء المفارقة في المسرحية، إيتراك للطباعة والنشر2001م و- ناصر شبانة، المفارقة في الشعر العربي الحديث، المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2002م ز-حسن حماد، المفارقة في النص الوائي، المجلس الأعلى للثقافة 2005م ح- نجلاء علي حسين، بناء المفارقة في المقامات، مكتبة الآداب 2006م ط- رصا كامل، بناء المفارقة، مكتبة الآداب 2010م ي- نوال بن صالح خطاب، المفارقة في الأمثال أطروحة دكتوراة ، جامعة بسكرة 2012م ك- بناء المفارقة في أدب الصادق النيهوم القصصي، طبع الثقافة 2018م.
4- علي البوجديدي، السخرية في أدب علي الدوعاجي الأطلسية للنشر والتوزيع وكذلك زهير مبارك ، السخرية في الرواية العربية، مركز الرواية العربية للنشر والتوزيع قابس 2011م.
5- سورة الدخان الآية 46.
6- انظر تفسير الطبري (جامع البيان عن تـأويل القرآن) محمد بن جرير مصطفى البابي الحلبي ط2 1954م ص132 وكذلك الزمخشري .محمود بن عمر (الكشاف) تح: مصطفى حسين أحمد دار الكتاب العربي ط 3 ج 1 ص 66.
7- سورة الأنعام الآية 11.
8- يوهان جوته أديب الماني 1749-1832ممن أشهر اعماله الأدبية (رواية ألام الشاب فارتر والملحمة الشعرية فاوست.
9- أناتول فرانس 1844-1924ممن أشهر أعماله الأدبية رواية تاييس ورواية الزنبقة الحمراء
10-انظر اغلب أعماله الأدبية وخاصة رواية القرود.