طيوب عربية

نصر بلحاجِ بالطيب في روايته “تِمْبايين”: يحتفي بالصحراء، ويُتوْنِسها.. ويتأرجح بين الحقيقة والإيهام بها!

عزيز العصا (فلسطين)

رواية تمبايين للروائي التونسي نصْر بالحَاج بالطَّيّب
رواية تمبايين للروائي التونسي نصْر بالحَاج بالطَّيّب

تقديم

نصْر بالحَاج بالطَّيّب؛ طبيب جرّاح تونسيّ قُدِّرَ لي أن تدخَّل جراحيًّا لتخليصي من ألمٍ ألمّ بي عندما كنتُ مستضافًا في مؤتمر مركز الرّواية العربيّة بقابوس في نيسان/2017م. ولد في قرية “دوز” من قرى ولاية قابس، على نحو يزيد عن أربعمائة كيلو متر جنوب تونس العاصمة.

يشغل د. نصر مثلثًا متساوي الأضلاع من حيث التخصصية والدقّة والإبداع؛ فهو طبيب جرّاح يشار له بالبنان، وهو روائيّ لا يشقّ له غبار، وكاتب قصّة يرسم الأحداث بالكلمات وبمهارة فنّان يرسم لوحات ناطقة. وأما العمل الأدبيّ الّذي نحن بصدده لـ “نصْر بالحَاج بالطَّيّب” فهو روايته “تِمْبايين” الّتي تأتي بعد إصداره لرواية الأيّام الحافية في العام (2004) ومجموعته القصصيّة “زعفران” في العام (2004) أيضًا، ورواية “انكسار الظّلّ“، في عام 2012، والقصة القصيرة “منكر يا شجرة” عام 2021.

صدرت روايته “تِمْبايين” عن “دار نقوش عربية” في تونس العاصمة، في مطلع عام 2022. تقع الرّواية في (161) صفحة من القطع المتوسّط، يتوزّع عليها اربع سرديات، تحمل العناوين الآتية: 1) بير السلطان. 2) رْقيّة. 3) عام خلا تِمْبايين. 4) الجّبِيلْ. ولكل عنوان من هذه العناوين ثيمته وشخصياته وتفاصيله.

قدّم لهذه الرواية الباحث في الأدب الشعبي “أ. بلقاسم بن جابر”، بعنوان: “ العوالم الرمزية والمرجعية في رواية تنبايين”. جاءت على شكل دراسة معمقة وتحليلية، استعرض فيها الباحث جابر العوالم المرجعية الآتية لهذه الرواية: 1) المرجع الديني. 2) المرجع المكاني الجغرافي. 3) المرجع التاريخي. 4) المرجع التراثي الشعبي. 5) المرجعية الطبيعية الحيوان والنبات والجماد. 6) المرجعية الصوفية. 7) المرجعية السياسية والأيديولوجية. 8) مرجعية سرد الصحراء أو مرجعية التناص والحوارية. ويرى بلقاسم أن عوالم الرموز الكبرى في هذه الرواة، تتمثل في: 1) ثنائية الحياة والموت. 2) الأساطير والملاحم. 3) الماء والعطش. 4) الجن والأرواح. 5) الحب والجنس.

وقد فاجأني الباحث بلقاسم عندما علمتُ منه أن التقديم المنشور في الرواية لا يزيد عن ثلث حجم الدراسة التحليلية التي كان قد أعدّها قبل نشر الرواية بشكلها النهائيّ، كما هي عليه بين أيدينا.

نظرًا لأن الغلاف جزء من النص، بل هو عتبته، وهو، بسيميائيته ما يشير للقارئ إلى المحتوى الذي هو مقبل عليه. فقد جاء الغلاف من خلال لوحته التي تحمل صحراويًّا ملثَّمًا بلثام لا يفارقه إلا ساعة الأكل([1])؛ ما ينبئ القارئ عن نصّ صحراويّ بامتياز، و”تِمْبايين” هي مركز الأحداث وميدانها.     

كما هو معروف عن نصر بالطيب الروائي، فإنه يكاد يشكّل مدرسة روائية تحتفي بسرد روائيّ سليم اللغة، معمّق المعاني؛ بمفردات قادمة من بطون القواميس، ذات دلالات ومعانٍ تمنح النصّ نكهة مشبعة بالفكر والفلسفة، ويشكل حاضنة وحضنًا دافئيْن للتراث الشعبي التونسي، لا سيما الصحراوي منه، كما يتمتع بوصف مكثّف للأحداث.

تقوم الثيمة “القضية” الروائية الرئيسة، لرواية “تِمْبايين“، كما رأيتها، على وصف دقيق وتفصيلي لصراع الإنسان مع بيئته من أجل البقاء، والصراع بين الصحراويين الذي تحركه المفاهيم البالية وتحركه قوى استعمارية تهدف إلى إضعاف جميع الأطراف للسيطرة على ثروات البلاد، وينتهي الأمر بظهور جيل يسعى إلى الحداثة والتحديث في مختلف مناحي الحياة. وقد جاءت هذه الأحداث بخيط روائي متين، الثابت فيه هو المكان –الصحراء- التي تكاد تأخذ دور البطل؛ فهي المسرح لجميع أحداث الرواية.

هيكل الرّواية

يتألف هيكل رواية “تِمْبايين” من بنيتين، هما:

البنية المكانيّة: تتمثّل، بشكل رئيسٍ بالصحراء الكبرى التي تشترك فيها تونس والجزائر وليبيا، وما فيها من تفاصيل. وقد حظيت الصحراء بوصف دقيق لكثبانها، ونباتاتها، وحيواناتها، وكان للجمل الحظوة الأكبر من قبل السارد؛ إذ أبرز بعضًا سمات الجمل، الذي هو جزء من البيئة الصحراوية وهو “أقرب للصدق والإدراك” في استكشاف المخاطر([2])؛ إذ أنه هو الأكثر خبرة بالصحراء وتفاصيلها الغامضة على بني البشر. وهناك في الصحراء الطيور المهاجرة، والجراد، والجرذان، والضباع. والطائر الخرافيّ. كما كانت الجغرافيا الصحراوية المفتوحة على دول الجوار كافة: تونس، وليبيا، والجزائر، وموريتانيا… الخ.

 البنية الزّمانيّة: يتضح من ثنايا السرد أن أحداث الرواية تدور، في أجزاء منها، أيام الاستعمار الفرنسي، المتحالف مع اليهود في قمع بلدان المغرب العربي، والسيطرة على ثروات المنطقة. وهو زمن سيطر فيه الجهل والتخلف، وعادات الثأر والغزوات المتبادلة بين القبائل، التي شجعها الاستعمار الفرنسي وعززها وجعلها في خدمة أهدافه الشريرة.

سارد مثقّف.. وتفاصيل في خدمة السرد:

لقد تكمن السارد، وهو الكاتب نفسه، المثقف الذي يمتلك وعيًا خلَاقًا يسعى من خلاله إلى التغيير نحو الأفضل. وقد تمكن في هذه الرواية من توظيف ثقافته الواسعة ومعرفته الدقيقة ببيئته الصحراوية، التي نشأ فيها وترعرع، وتوظيف ما يتمتع به من قدرات لغوية قادمة من بطون قواميس اللغة بجمالياتها وروعتها التي لا تضاهى في عصرنا. فاستخدم السارد الأدوات اللغوبة المتعددة؛ من تصوير واستعارات وكنايات وبلاغة، في توفير سرد روائي صوّر، بدقّة، ملامح البيئة وتفاصيلها الدقيقة، كما أنطق شخصيات الرواية بما يجعل القارئ ينعم بمتعة السرد، ويتتبع المعرفة التي يبحث عنها بنهم. وعزّز السارد بتوظيف التخييل الروائي حول المكان؛ مستلهمًا من الأساطير والخرافات التي تناقلتها الأجيال الصحراوية عبر الزمن. وفي هذا الجانب يقول الباحث “بلقاسم بن جابر” في تقديمه للرواية”:

كانت “تِمْبايين” في ذاكرة أهل تخوم الصحراء مكانا عميقا ومهيبا وصعبا (…) قبل أن يصبح مزارا سياحيا ومنتجعا فاتنا لذا انغرست صورته البكر الأولى في ذهن الروائي نصر بلحاج بالطيب تلك الصورة النوستالجية البانورامية التي تحتفظ بالمكان البكر الأول قبل تدنيسه. و“تِمْبايين” هي نسغ التخييل والسرد والتاريخ والشعر والملاحم ومخزن الذاكرة البدوية وموئل العقائد العتيقة([3]).

بذلك تكون قد اجتمعت في هذه الرواية متعة السّرد ومتعة الإيهام بالحقيقة، وقد مرّرها السارد عبر الشخصيات المتخيلة في الرواية التي بناها الكاتب بتؤدة وأناة وصبر، واختار أسماءها بعناية لتحمل سيميائة تخدم السرد، وتبرز جماليته، وتحتل مكانها ومكانتها في الفعل الروائي، وفي تسلسل الأحداث وتتابعها. ولم يتردد الكاتب في جعل اسميْن لنفس الشخصية الروائية، تم الانتقال بينهما برشاقة وخفّة ودون ضجيج الشرح والتبرير والتفسير: “آخيل من بني قومك له أسماء عدة علي، آهار، آخيل. لا تعني الأسماء شيئا ولكن أملهم هو الفعل([4]).

هكذا تتتابع الأسماء والشخصيات الروائية وتتزاحم في السرد الروائي، ولكل منها سيميائيته، لتشكل السيميائيات، في مجموعها، خيطًا روائيًّا متتابعًا، منها:

  • تِمْبايين“، المكان البطل؛ خلاصة المدن وشهقة الندى([5]). وهي، كما يطلق عليها الباحث بلقاسم “تِنبايين“: “مكان في قلب العرق الشرقي الكبير ويسميه بدو نفزاوة (المرازيق والعذارى والصابرية وغريب وأولاد يعقوب)، وكذا قبائل الربائع الجزائرية “قارة تنبايين” تمييزا له عن سائر الاشكال الجيولوجيَّة المكونة للفضاء الصحراوي([6]).
  • العيدي الصابري، بطل الرواية وممثل الجيل التقليدي في تِنبايين“؛ إسم صحراوي نحته السارد لمن أطلق عليه “ذئب الصحراء الخبير في اقتفاء الأثر“، عادة ما يكون مستعدًّا للهروب والقتال، ولا يتصرف العيدي إلا كما تملي عليه الصحراء([7]).
  • –                 رْقيَّة، فتاة جعلت الحب يسمو فوق تقاليد عصرها؛ غادة “تِمْبايين“، وقمر متلألئ في سمائها، عنيدة، تمشي بلا غنبوز –تغطية نصف الوجه عند مقابلة الرجال- والدها موسر يأتيها بلباس حريريّ من نفزاوة ومن قابس ومن تونس المحروسة. وقد كان هذا الاسم لبطلة سردية تحمل اسمها، وكانت رقية وراء خراب “تِمْبايين([8]).
  • المحمودي؛ اسم عائلة طرابلسية، وانتسب لها سرديًّا كل من: الهادي (والد رقيّة) وابنيّ أخيه: “عليّ”؛ البطل الذي دافع عن “تِمْبايين” حتى آخر لحظة من حياته، و”عامر”؛ الفاسد الذي استخدمه الفرنسيون واليهود لقت لقتل أخيه عليّ، ثم قام بقتل العائلة اليهودية التي أغوته لقتل أخيه.
  • جلعاد، وابنه “جدعون”([9]) وابنته “رَاشِيلْ”([10])؛ يهود من يهود نفزاوة، يعملون مع الاستعمار الفرنسي. وقد تمّ قتلهم على يد عامر النمس –بصحوة ضمير- بعد أن أغووه بقتل شقيقه البطل، إذ يقول: هل يخفّف القتل المنصف من حِمل الخيانة والغدر؟ متى أقف قتلٌ القتلَ؟([11]) وأما القائد الفرنسي فقد أصابه الذعر من فداحة الخسارة بتلك العائلة، بقوله: لقد كان جلعاد وجدعون خادمين وفيين لفرنسا ولنشر حضارة الإنسان([12]).     

الأبعاد المعرفيّة

لا يمكنني، وأنا من قرأ رواية انكسار الظل للروئي نصر بالحاج بانسيابية ويسر، إلا وأن أعترف بصرف وقت أطول في قراءة هذه الرواية، واتساع مساحة التوقف والتأمل والماجعة. وأما السبب الرئيس فهو انتشار الأشعار والأمثال والمفردات الشعبية، القادمة من عمق البداوة والصحراء التونيسيتين. وأما القراءة الشاملة والتحليلية، لما بين السطور، فتقود القارئ إلى اكتساب معارف ورفع لمستوى ثقافته حول الصحراء؛ من النواحي الطوبوغرافية، والديموغرافية، والتاريخية. وهكذا، أجد أنها متعددة الأبعاد المعرفية، منها:

أولًا: تَوْنسة الصحراء:

وقد عبّر عن هذا البعد الباحث بلقاسم بن جابر، بقوله: “يقدم (نصر بالحاج) مجالًا سرديًّا يتفاعل فيه الترميز والواقعية التخييلية والتاريخ والثقافة الشعبية، ليقدم صحراء تونسية صميمة”([13]).

فقد وصف السارد في سردية “بير سلطان”، وهي التي خصصها لوصف الصحراء بتفاصيلها الدقيقة، العيدي الصابري ابن “تِمْبايين” بأنه “يعلن حضوره كما يعلن رحيله بالشعر والغناء”: “لا بان فيها مزن// اللي تاقْزَتْها طالعه بالزُّزُنْ// لا فرح جِى منها ولا جِى حُزنْ…”([14]). ويترنّم أحدهم بالقول: “يا لِندرى بعد حرّ الشّهيلي يَهْنى مِقِيلي”([15]).

استعدّ الولدان –أي الجيل الشاب- لرحلة (في عمق الصحراء) لا يعرفان مسالكها ولا مستقرّها([16])، فكان العيدي الصابري هو الدليل في وصف الصحراء؛ بأسرارها، ومفاتنها، وجماليتها، ووحشتها وعدوانيتها. وهو الذي استعاد ذاكرة الصحراء، وما فيها من تضحيات الآباء والأجداد، وكأني به أعاد وضعها أمانة في أعناق الأجيال التونسية القادمة.        

ثانيًا: فلسفة السارد:

تمكّن السارد من تمرير عديد من الأفكار والرؤى والفلسفات ذات الأبعاد والمرامي التثقيفية والمعرفية. فقد أنطق شخصياته بهذا كله من خلال الحوارات فيما بينها، في الرخاء وحين يشتد الخطب. وفي جانب من هذا كله، نجد أن السارد يؤنسن الصحراء ويجعل منها مصدر إلهام لأبنائها والمتعاملين معها، ويتعمّد بثّ ثقافة مختصة بسماتها وخصوصياتها، بصيغ تتداخل فيها الفنتازيا مع الواقعية والأساطير التي نسجها خيال الصحراويين عبر الزمن، ومن ذلك:

  • يتأقلم الحيوان مع محيطه مستعملا لحمه أما الإنسان فيتأقلم بالفكر. يدافع الحيوان بالبيولوجيا أما الإنسان فبالعقل. استسلم الحيوان مُرغما لناموس الكون أما الإنسان فعقل خالق ل حدود له (…) لا تتوه الإبل. لا يتوه إلا ابن آدم. للجل بوصلة تشير إلى الماء والكلأ([17]). والجمل يقتل إذا أحسّ بالظلم([18]).إذا ضاقت بكم السبل وضللتم الطريق حيث لا طريق اتبعوا الجمل فهو قادر على حلّ طلاسم الرمل. لا تظلموه ولا تعبثوا به فصدره مخزن بارود([19])!
  • من المفيد أن تداهمنا الأمكنة وأن تمتاز عنّا الإبل؛ فصناديق التاريخ أوزار مرهقة لا نتحملها([20]). والموروث الخرافي يحيي قيم البطولة والشجاعة لدى الأمم الكسيحة العاجزة. الخرافة فتح وهمي للأقفال المستحيلة([21]).
  • لا تنصت الصحراء لصراخ الندم والتوسل([22]). ولا يموت في الصحراء إلا من كان عبئا على الحياة أو دفاعا عن استمرارها. الحياة في الصحراء يحرسها العدل.
  • لا تهاجم الصحراء المؤخرة، أترك وزر ماضيك للريح والرمال الطوامس؛ لأنه لم يعد ملكًا لك وحدك([23]).
  • ولعل ذروة القول في هذه الرواية، فيما يتعلق بالعلاقة مع الصحراء، قول السارد على لسان إحدى شخصياته: لا نقدر على مجابهة الصحراء والفضاء والصمت والعدم إلا بالكرامات والشعر والتسليم والحكي([24]).
  • العُرف، هذا العمود الفقري الرخو قرره السلف منذ القديم يمتد الى ما لا نهاية([25]).
  • ثم يتجه السارد بنا نحو الصوفية والتصوف، فيشير إلى دور شيوخ القادرية والتيجانية في واد سوف في الصراع مع الاستعمار الفرنسي([26]). ثم يحدثنا العيدي صابر عن رؤيته في المنام أنه يصعد درجات مقام سيدي حمد الغوث، فجاءه “سيده عبد النور” يطوف بالمقام… الخ.   
  • تقوم الاستراتيجية الاستعمارية على المثل (التونسي): “حُط في الكرش تستحي العين، حُط في الجيب يستحي النيف، الباقي يتكفل بيه السوط والبارود”([27]).

ثالثًا: صراع الأجيال:

فقد كان واضحًا أن ما حدث مع رقيّة شكَّل مفصلًا مهمًّا ونقطة تحوّل في مستقبل “تِمْبايين” ومصيرها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ولعل الحوار بين “محمود وطارق” رفيقيّ العيدي الصابري في الصحراء بحثًا عن الجمل، حسما أمرهما بالانفصال عن زمنٍ لا يُراعى فيه الفهم الدقيق للحب والوفاء، ويظهر ذلك من الحوار الآتي([28]):

تساءل محمود: لماذا لم يترك الرجال رْقيَّة تمارس حبها كما أرادت؟

قال العيدي واثقا: لكن الشرف أغلى من الحياة على مر العصور.

قال طارق ضاحكا: خرَّفْ…

وفي السردية الأخيرة “الجّبِيلْ” –إسم مكان جنوب مدينة دوز كثير الرمال، يتجدد دور البطل “العيدي الصابري”، ويحتدم النقاش بينه وبين محمود وطارق، نقاش يحمل ملامح صراع الأجيال، بل الصراع بين القديم الرافض للعلم والتطور، والجيل الشاب المقبل على الحياة وعلى الحداثة؛ إذ (ينصح!) العيدي في حواره مع محمود قائلًا: لا تصدق الكتب؛ فهي أمّارة بالسوء([29]).

وتنتهي الرواية بأن “يثور” محمود –جيل الشباب- في وجه دليله الصحراوي العيدي الصابري، وفق الحوار الآتي([30]):

محمود: أين تمبايين التي حدثتنا عنها يا عم العيدي؟ لا شيء غير التهاويل والترهات والبهتان والرمال الطوامس.

العيدي: هكذا تحدث الأسلاف، لم أُضِف شيئا.

محمود: تلك مأساتنا، هي أننا لم نكن قادرين على إضافة شيء. يخنقنا حصار ِتمبايين الوهمي الذي هو في حقيقة الأمر حصار مضروب على العقل وعلى الاختيار والحرية. كبلتنا تعاويذ التوارق وبحيرات الملح الغارقة في الوهم والوهن. كبلنا التاريخ الملوث الكاذب.

أيقن العيدي أنه لا مكان له في العالم الجديد المتعدد الأبعاد.

رابعًا: اليهود ليس لهم وطن؛ فهم يدورون مع المال حيث دار: فقداجتمع عند العائلة اليهودية، التونسية الأصل والفصل من نفزاوة، المال –بالمراباة بأموال أهل البلاد- والسلاح، والرجال من أهل المنطقة الذين تم شراؤهم بالمال وتسليحهم. وقد وظّفوا هذه القوة في شراء ضعاف النفوس، منهم: عامر “النمس” المذكور أعلاه، وسيدي الخليفة، والحاج توهامي. فكانوا عونًا للاستعمار، بل العقل المدبر لخراب “تِمْبايين” وتشتيت أهلها.

خامسًا: الاستعمار الفرنسي يطالب بإطار يبنون سلطتهم عليه؛ ففي حوار بين القائد الفرنسي واليهوديين جلعاد وجدعون يطالبهما القائد بـ: عدم التنكيل بالخليفة والأعيان، ويطالب بالذهب، تاركًا لعملائه الإبل والأغنام وشفاء الغليل([31]).

سادسًا: انتهى الأمر بأن:

  • اجتمع على “تِمْبايين” الرّوامة والتوارق و”المزاريع” فمكروا فيها ودمروها تدميرا. كان أشدهم بأسا ذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب وأشد منهم أعراب الردة. لم يبق لديها إلا الكبرياء العمياء وبعض براعم البعث والتجدد([32]).
  • أصبحت “تِمْبايين“، لؤلؤة الصحراء، أثرا بعد عين. وأما المستعمر الفرنسي فكان همّه أكبر وأبعد من “تِمْبايين” وأهلها الذين وهبهم للتوارق. وأوغل جيش المستعمر الفرنسي، يتبعه “القوم” في الصحراء مشيّدين الأبراج وثكنات المراقبة حتى آخر نقطة في صحراء الإيالة التونسية. ثم رفرف علم فرنسا في سماء ليست له وفوق أرض ترابها رمضاء لا يطيب فيها المقام للغرباء([33]).
  • وأما المتعاونون مع المستعمر من أبناء “تِمْبايين“، فذاقوا ويلات عمالتهم؛ إذ كان أول بيت نُهب بيت الحاج التوهامي، وتناوب على اغتصاب ابنته العارم جنود الطوارق، ولم تسلم أمها العجوز من التنكيل والترويع وسلب الحلي([34]).    

الجانب المستتر في السرد

لا يمكننا مغادرة هذه القراءة التحليلية لرواية “تِمْبايين” قبل أن نرى الجانب المستتر في السرد، وفق الأحداث والنهايات الموصوفة أعلاه؛ فكما تم حصار “تِمْبايين“، و”تخريب مبرمج” لها من قبل الفرنسيين، وبتآمر الجوار، تم غزو العراق وتدميره من قبل الأمريكان وبتآمر الجوار. كما أطلق الأمريكان على ما جرى في بلانا “الفوضى الخلّاقة” ثم استقر مصطلح “الربيع العربي”، الذي أودى بعدد من دولنا: ليبيا (جارة تِمْبايين) وسوريا واليمن، وألقى بها نحو التهلكة والخراب والانقسام، بل التشرذم والتفتت، والحروب الأهلية طويلة الأمد. في حين أن صحاري الأمة وجبالها ووديانها وبحارها ومياهها الإقليمية وثرواتها في يد الغرب الاستعماري، بشكل مباشر أو غير مباشر.

ختامًا،

ها نحن نغادر رواية “تِمْبايين” لتبقى “تِمْبايين” السردية والواقعية في اذهاننا وعقولنا، ومنذ اللحظة هي جزء من ثقافتنا. وإن ذروة الفعل الثقافي والمعرفي فقد تجلت في أن بالطيب امسك بيد القارئ، ليعرفه على ثقافة التونسيين وقيمهم ومثلهم العليا، وحتى لهجاتهم المختلفة وأشعارهم وأمثالهم الشعبية. وإن كان هناك صعوبة في اللفظ، إلا أن ما جعلنا نتعلم اللهجة المصرية ونعشق تفاصيلها ونقلدها بتباهٍ من خلالِ الدراما المصرية، يجعلنا، وبتكرار الاعمال الروائية التونسية انتشارها وتحويلها إلى دراما، نفعل نفس الشيء مع اللهجة التونسية التي هي خلاصة تفاعل بين أهل تونس وبيئتهم الممتدة بين عمق الصحراء حتى الجبال الشاهقة.

ويبقى الحديث عن النمو السردي الذي أمتعنا به نصر بالطيب وما فيه من مفاجآت للقارئ؛ فما فعلته رْقيَّة لم يتوقعه قارئ يسير تفكيره نحو قيام المهاجمين بسبيها والهرب بها، إلَّا ان الحب كان سيد الموقف؛ فقررت هي ان (تسبيه!) ويذهبان بعيدا عن قيود المجتمع وتعقيداته. والمفاجأة الأخرى في التحول المفاجئ في شخصية عامر النمس الذي اغتال بطل “تِمْبايين” بإغواءٍ واغراءٍ وتهديد من الاستعمار القادم لاحتلال وطنه والتنكيل به، ثم انقلب على مشغِّليه وقضى عليهم في لحظة صحوة ضمير.

هذه هي رواية “تِمْبايين” التي أرى فيها نموذج للأعمال الروائية التي تزاوج بين الواقعية والتخييل، بكثير من التوازن بما يحترم عقل القارئ ووقته واحتياجاته الثقافية والمعرفية.

 فلسطين، بيت لحم، العبيديّة، 02-04/03/2021م


http://alassaaziz.blogspot.com/

aziz.alassa@yahoo.com

([1]) الرواية، ص: 30.

([2]) الرواية، ص: 34.

([3]) الرواية، ص: 9.

([4]) الرواية، ص: 77.

([5]) الرواية، ص: 71.

([6]) الرواية، ص: 9.

([7]) الرواية، ص: 28-30.

([8]) الرواية، ص: 71-72.

([9]) الرواية، ص: 112.

([10]) الرواية، ص: 128.

([11]) الرواية، ص: 143.

([12]) الرواية، ص: 142.

([13]) الرواية، ص: 13.

([14]) الرواية، ص: 28.

([15]) الرواية، ص: 45.

([16]) الرواية، ص: 33.

([17]) الرواية، ص: 30.

([18]) الرواية، ص: 32.

([19]) الرواية، ص: 42.

([20]) الرواية، ص: 36.

([21]) الرواية، ص: 68.

([22]) الرواية، ص: 47.

([23]) الرواية، ص: 48.

([24]) الرواية، ص: 45.

([25]) الرواية، ص: 89.

([26]) الرواية، ص: 98.

([27]) الرواية، ص: 97.

([28]) الرواية، ص: 85-85.

([29]) الرواية، ص: 149.

([30]) الرواية، ص: 160-161.

([31]) الرواية، ص: 133.

([32]) الرواية، ص: 98.

([33]) الرواية، ص: 139.

([34]) الرواية، ص: 137.

مقالات ذات علاقة

جلال الدين الرومي.. لماذا كل هذه المكانة؟

المشرف العام

طقوسٌ للقُبلةِ المُحْتدمة

فراس حج محمد (فلسطين)

نصوص خاصة بمناسبة يوم المرأة العالمي

المشرف العام

2 تعليقات

عزيز العصا 6 مارس, 2022 at 08:01

يسعدني التواصل مع هذا الموقع

رد
المشرف العام 6 مارس, 2022 at 14:44

نحن أكثر سعادة بحضورك ومشاركتك لنا..

رد

اترك رداً على المشرف العام