طيوب عربية

عندما تتكلّم الصّخور

بورتريه صخري - من أعمال التشكيلي الليبي محمد بن لامين
بورتريه صخري – من أعمال التشكيلي الليبي محمد بن لامين

ومرّة فكرت أنّك يمكن أن تكون قد ذهبت إلى أعماق البحر؛ نعم فكّرت أنّك يمكن أن تكون قد ذهبت فوق تلك الصّخرة وسط تلك الصّخرة العالية… يستهويك انتظاري؛ كما يستهويك أن تقطفني كأنّك تقطف وردة عالقة بين القبور أو الصّخور؛ وقد انحدرت وردتي أو صخرتي من المحيط شرقا بينما انحدرت دمعتي من أوّل الخدّين غربا وقد أخذت طريقها على مسافة قريبة من منتهى الخدّين شرقا؛ هي ملتقى كلّ العشّاق ومهبط كلّ الطّيور؛ فوق ذلك الشّريط الصّخريّ شاهدت الأرامل والصبايا يقفزن بين الصخور ووسط القبور باكيات نادبات شاكيات؛ شدّني آخر غروب وسط الغروب هديل حمامة تائهة لا ظلّ لها؛ فقدت كلّ أتّجاه؛ لا تعرف منتهى الحبّ جنوبا وقد أضاعت في صلاتها ودعائها تتّجه شمالا ثمّ جنوبا أولى القبلتين؛ بعد الدّعاء ضاعت شرقا؛ بعد الصّلاة عادت غربا؛ قالت: فقدت كلّ حبّ تركته في ذلك العشّ الواقع بين صخرتين كالنّهدين؛ هي دون حبّ تنتظر عودة الحبّ؛ ببطء انحنت كأنّها تصلّي بين فجرين؛ رأيتها تراقب بهدوء حذر ذلك القارب وقد ترك في البحر عدّة بصمات؛ ذاب القارب كما تذوب الدّمعة على مفترق صخريّ بين خدّين؛ ذاب كما تذوب النّجوم في آخر السّماء؛ التصق بالسّحاب كأنّه آخر طير يعود من السّماء؛ هو يزاحم الأمواج؛ هو يصارع الرّياح؛ التحم بعد نظرة أو نظرتين عاشقتين بالنّجوم وقد أدرك منتهى القمر يسقط على صخرتين شاحبتين يلفّهما سواد وسط سواد شديد؛ أخذتني بصمات القارب العالق بين صخرتين على الخدّين السّاحليّين أو بين النّهدين الصّحراويّين إلى تلك الحمامة البحريّة وقد فقدت طريق عودتها بين أمواج تشابكت… ارتفعت كالجبال؛ نعم أخذتني إلى تلك الأرملة وقد فقدت حبيبها وقد ضاع وسط تلك الصّخور يلفّها صمت غريب وعجيب؛ تعرّت ذات النّهدين وسط الأمواج الدّاكنة تبكي ما تبكي وتئنّ ما تئنّ؛ اصطدم القارب الواقع بين النّهدين غربا و قد ارتفع إلى اليدين شرقا بسرطان البحر؛ فقد القارب وقد كتب عليه” سرطان البحر” توازنه وسط توازنه أمام تلك الأرملة؛ غمره صهيل خيول حمراء تعدو نحو الغروب كالأمواج؛ ارتجفت الصّخرة كأنّها سمكة مذعورة؛ ازداد الصّريخ من بعيد؛ أصوات غير مفهومة همهمة وتسبيح قراءة وتلاوة؛ ظهرت أصوات كالأشباح والعفاريت؛ أخذت نظرة أو نظرتين؛ قبلة أو قبلتين؛ تحوّلت دموعي وسط دموعي إلى خيول حمراء تعدو بين الخدّين فوق الخدّين؛ تركت حوافرها أثرا كالجرح في الصّحراء أو كالوشم في السّماء احتلّ كلّ السّماء؛ بمرور الزمن ذاب الرّسم كما تذوب الزهرة أو الدّمعة على القبر؛ ذاب كما يذوب السّيف بين النّهدين فوق الهضبتين العلويّتين أو العموديّتين؛ بدا الأفق غامضا غموض نظراتك في السّحب وسط السّحب؛ أفاقت ذات العينين القمحيّتين مذعورة؛ لم تجد ملابسها وقد تجرّدت من ملابسها؛ لم تجد نشوتها فارقت نشوتها؛ أصابها ما أصابني من حياء و ذعر شديدين؛ قالت: انتظرتك عند صخرتين فاخرتين فاجرتين بمفترقين ساحليّين يفتحان على جبل منقاره طويل؛ تهاوى القارب أسفل الجبل كالنّسر فقد عرشه من نظرتين ثاقبتين سددتهما إليك من طرف كحيل كالرّمحين خاطفين أصابا طيرين في قمّة على جبلين؛ لم يبق من الرّمح وقد اخترق جزيرة واقعة بين العينين إلاّ صخورا وسط صخور تحترق كما تحترق الشّموع وراء الشّموع أو كما تذوب النّهود وراء النّهود.

قلت: بعد العاصفة البحريّة انطوت الصّخور على نفسها كما تنطوي الورود؛ ذبلت الدّموع كما تذبل الورود وقد أضاعت طريق عودتها إلى الخدّين؛ ضاع القارب وسط الأفلاك والأمواج؛ صارت دموعي صخورا كالطّيور لا تعرف طريق عودتها إليك؛ ماتت ذات الرّمحين بين النّهدين من شدّة البكاء؛ مثلها كمثل أرملة جفّت عينيها من شموع الحزن فقدت الأمل في عودتك مع شموع الفرخ وقد تجمّدت دموعي فوق تلك الصّخرة كما يتجمّد الماء بعد هبوب العواصف البحريّة التي غطّت براءة وسط براءة في تلك الصّخور تعرّت أو تبرّجت تمشي متثاقلة متثائبة؛ بعد طول انتظار جفّت أرضي من الحبّ؛ ذبلت أزهاري بعد غياب المطر؛ حقّا كم بحثت عيني عن ماء عذب في نهر عذب واقع بين الشّفتين؟ مات زرعي و أجدب ضرعي؛ لم تبق إلاّ نظرات وسط نظرات تسقط كما يسقط التّمر اصفّار كالذّهب؛ أو كرذاذ المطر يسقط في الصّحراء لا يسقي الضّرع أو الزّرع وقد أصابني القحط والجفاف؛ قذفني شعور بالفرح يتشابك مع شعور بالحزن فوق تلك الصّخرة النّائية بين جزيرتين؛ أعطتني” نؤوم الضّحى” عطرها الصباحيّ؛ ما فتئت تحتفظ بكسل كالشّهد المذاب؛ حرام مذاقه كالنبيذ في الصّحراء؛ فكّرت أنّ تلك الصّخرة الواقعة بين منتهى الشّفتين الحمراوين هي أرملة تعيش بين سوادين؛ قذف بها الغراب إلى هذا الشّريط السّاحليّ بعد صراع عنيف مع الأمواج؛ صارت ترتدي فستانا أسود اللّون؛ دخلت مع الغراب فوق تلك الصّخرة في حداد طويل؛ هي ترفض النّطق بالحكم حتّى تعود؛ لا تقبل النّطق بالشّهادتين حتّى تضمّك كأنّها تضمّ الحروف؛ هي ترفض الكسرة تحت الحروف؛ تحب السّكون في مخارج الحروف؛ تريد الرّجوع إلى فراشها وقد اختارت فراشها وسط تلك السّكون بين تلك الصّخور؛ تنام كما تنام الأرواح في تلك القبور؛ ما انفكّت تستقبل نوارس الصّباح؛ تتابع باهتمام سرطان البحر يتسلّق تلك الصّخرة بفرح طفوليّ؛ ربّما أخذها إلى مدخلك السّريّ؛ هي تعتقد أنّك بعد طول غياب وسط غياب عنها ربّما تحوّلت إلى طائر يشبه في هيأته نورسا من نوارس البحر؛ له أجنحة تنتفض كالأغصان ومنقار طويل كالنّبال و مخالب حادة كالسّيف القاطع يشقّ هدير البحر؛ كلّ العشّاق بعد الفراق أو بعد الحبّ يتحوّلون إلى ما يشبه طيورا من فئة النّوارس؛ هم يحلّقون في السّماء دون سبب واضح؛ هم في غياب السّبب يبحثون  عن سبب وراء سبب يدفعهم إلى التّحليق باستمرار فوق تلك الصّخور كأنّهم يزورون حبّا فقدوه في تلك القبور؛ لهم تقاليد خاصّة لا نعرفها؛ يرتّلون فوق تلك القبور النّائمة أدعية خاصّة بهم لا يفهمها إلاّ العشّاق ناموا في قبورهم؛ تتسلّل الدّموع إلى تلك الصّخور بين تلك القبور؛ تصعد الأرواح إلى السّماء؛ تذوب الأجساد؛ تتصارع الأمواج ترفض فراق الأجساد؛ تبحث النّوارس عن قوتها على مدار اليّوم في البحر وسط البحر؛ كم استسلمت من سمكة إلى منقارك؟ كم باغتها النّوم في فراشها؟ كم تركتها في الشّتاء دون نشوة وسط نشوة؟ كم حقّق النّورس الفرح أوّل الفرح وهو يحتضن تلك السّمكة كأنّه يحتضن الحبّ أوّل الحبّ لك أو آخر حبّ لك؟ هي تعتقد أن كلّ صخرة إنّما هي عاشقة فقدت في ليلها الطّويل حبّا صخريّا؛ فوق تلك الصّخرة العالية يصعد كلّ العشّاق؛ فوق تلك الشّجرة العالية؛ أكثر من عشّ؛ أكثر من عاشق يبني عشّا وراء عشّ؛ يبني حزنا وراء حزن؛ يبني فرحا وراء فرح؛ رأيتهم بخشية يهدمون ما يبنون؛ يراقبون بحذر دوران الأرض حول الشمس؛ دوران العشّاق حول الأرض. حول السّماء؛ رأيتهم يراقبون بوجل حركة البشر العاديّين؛ هم لا يفهمون تصرّفاتنا؛ لا يشربون إلاّ من ماء الأنهار؛ لا يأكلون إلا من أعشاب البحر؛ لا يفهمون حبّنا للأشياء ولا معنى لتلك الأشياء؛ لا يفهمون لماذا نحبّ ونكره ما نحبّ؟ لماذا نستيقظ بعد الفجر؛ بعد الحبّ؛ بعد الفرح بقليل؟ كم يستغرقني صمتك أيّتها الصّخرة؟؛ لماذا تجلسين هنا؟ لماذا خلعت ملابسك؟ لماذا ارتديت هذا الثّوب الأسود؟ هل أنت على موعد مع شخص وسط شخص يخفي شخصا غامض الملامح هجرك إلى الأبد؟ لماذا تعبدين الأصنام؟ نحن لا نعبد إلاّ الله.

يستغرقني حبّك؛ أودّ أن أفهم  تصرّفاتك؛ أودّ أن أتسلّل إلى هدير الأمواج في شفتيك؛ أودّ أن أشرب كلّ سجائرك؛ أريد جناحين؛ أبحث عن دمعتين اثنتين؛ أريد أن أفضح غرورك السّماويّ؛ قالت: هؤلاء البشر لا يفكّرون إلاّ في طلب الرّزق؛ يتصارعون من أجل الرّزق؛ من أجل الحياة؛ يكدحون من أجل تحقيق الرّبح؛ في الحبّ تتكرّر الخسائر؛ تتكرّر الهزائم؛ كم وقعت في هزيمة؛ في الحبّ لا يوجد إلاّ الهزيمة؛ نحن لا نفكّر مثلكم؛ هزائمنا أهمّ من انتصاراتنا؛ أرواحنا أهمّ من أجسادنا؛ لا يهمّنا تحقيق الأحلام؛ نحن لا نعيش إلاّ وسط الصّخور؛ نتفتّح كما تتفتّح الأزهار؛ نكبر كما تكبر أزهار الصبّار؛ نموت كما تموت أزهار الأقحوان؛ نتنفّس كما تتنفّس الأشجار؛ نعطي الثّمار؛ لا نحجب الأزهار وقد تركنا في الهواء شميما حلوا يتنفّس منه العشّاق؛ لا يهمّنا تحقيق الرّزق؛ يهمّنا تحقيق الحبّ؛ نحن فوق البشر لا نفكّر في الوقت؛ لا معنى للمكان والزّمان؛ المكان فوق الزّمان والزّمان وسط الزّمان لا يدلّ على أزمان؛ نحن فوق تلك الصّخرة راهبات متحجّبات صائمات مدى الدّهر مثل هؤلاء الأنبياء؛ لاتهمّنا حركة الكواكب؛ نحن ارتفعنا؛ نحن تعلّقنا كالنّجوم في أقصى السّماء؛ نحبّ نداء العيون تراقب العيون؛ نخرج مع الطّيور وقد نعود مع تلك الطّيور؛ فوق تلك الصّخرة المتنقّبة التقينا؛ لم يسأل أحدنا الآخر أين حبيبتك؟ أخفى النّقاب البنفسجيّ وقد عبث به هواء رقيق تفاصيل مهمّة من حياتي معك؛ لاحت لي أسرار غريبة؛ لم أقترح عليها أن ترفع عن وجهها النّقاب لأنّ الهواء كان باردا جدا ولكن أخذني فضولي أن أراقب خطواتها على ذلك الشّاطئ الرّمليّ؛ تمنّيت في تلك اللّحظة حدوث معجزة تأخذ ذلك النّقاب وقد حجب عنّي السّماء والنّجوم والقمر؛ فجأة هبّت ريح عاصفة حجبت عن ناظري كلّ شيء؛ أخذت كلّ شيء؛ لم تبق إلاّ تلك الصّخور تخترقها كهوف وسط كهوف يسكنها الجنّ وقد حذّرني أحد العشّاق من دخول تلك الكهوف لأنّ العشّاق يموتون إذا رفع عنهم النّقاب؛ يؤمنون بالقضاء خيره وشرّه؛ يرفضون الدّنيا؛ يكرهون الفجور؛ يؤمنون بالحساب؛ وقد همس أحدهم كما تهمس العفاريت همسا رقيقا كالنّداء وقد غابت حروف النّداء؛ قال: احذري كلّ من دخل إلى الكهف ولم يكن عاشقا يحمل في عينيه أو بين يديه حبيبة رفضوه ونبذوه..

أخيرا حفرت فوق الصّخرة كلّ ذكرياتي معك؛ كنت أزورها كما أزور القبور في الظّلام أطلب منها حبّك؛ كنت أطلب منها حبّا مستحيلا؛ صرت أحبّها حبّ الملائكة للخير؛ صرت أفهم ما تخفي عنّي من مشاعر تركتها هنا أو ربّما هناك؛ صرت أفهم لماذا ظلّت الصّخرة صامتة حتى هذا الوقت المتأخّر من الحبّ؛ حتّى هذا الوقت المتأخّر من الذكرى؛ الصّخرة عاشقة مجنونة؛ ترفض الكلام؛ ترفض الحوار؛ هي لا تعترف إلاّ بحروف النّداء؛ هي تكره حروف النّصب؛ تحبّ الحروف التي تجعلها تضمّك كأنّها تضمّ وردة؛ تكره تصريف الفعل في الماضي؛ ترفض كل غريب يجلس فوقها؛ لا تحبّك إلاّ في الزّمان الحاضر؛ تكره ضمائر الغيبة هو، هي، هما، هما، هم، هن؛ تحبّ ضمائر المتكلّم أنا؛ نحن؛ تبحث في ضمائر المخاطب أنت، أنت، أنتما، أنتم، أنتنّ؛ عن مخاطب ؛ هي صخرة مباركة مثل شجرة مباركة أصلها ثابت وفرعها في السّماء؛ لا يقترب منها الطّيور؛ هم يطوفون حولها كما يطوف الحجّاج في الحرمين الشّريفين؛ يطلبون منها الرّحمة والمغفرة؛ الجميع أعلنوا أمامها التّوبة؛ هي شجرة مقدّسة حرام لمسها؛ لا يعرفها إلاّ العشّاق؛ لا أعرفها إلاّ أنا وأنت؛ كلّ العشّاق يختارون الجلوس فوق تلك الصّخرة قرب تلك الشّجرة يطلبون الحبّ؛ فوق كلّ صخرة ماتت عاشقة انتظرت حبيبها حتّى أصابها من الحبّ كالموت الكثير والكثير؛ هي انتظرت على طهارة وسط طهارة أن يعود حبيبها حتّى آخر الزّمان ولم يعد هناك زمان؛ بحثت عنه حتّى آخر المكان ولم يعد هناك مكان؛ كلّ العشّاق صاروا كالأشباح ماتوا كالطيّور فوق تلك الصّخور؛ صارت أجسادهم الطّينيّة على هيأة تشبه تلك الصّخور؛ كلّ العشّاق ماتوا ثمّ رجعوا بعد موتهم؛ بعد حبّهم جاؤوا إلى نفس المكان إلى نفس الزّمان؛ إلى نفس الصّخرة؛ كم قبّلتك هنا؟ كم ودّعتك هناك؟ حتّى الصّخرة تعرف ذلك؛ حتّى أنت لا تعرف ذلك؛ أعرف أنّك لا تعرف أنّ الحبّ مخلوق لا يشبه كلّ المخلوقات؛ هو مخلوق صخريّ طينيّ حجريّ قذف به البحر إلى هذا الشّاطئ الصّخريّ؛ تجلس الذكرى كلّ صباح فوق تلك الصّخرة العالية؛ وقد تصلّي فوق تلك الصّخرة المقدّسة؛ وقد تختفي فوق تلك النّجوم البعيدة؛ كم ترك العشّاق من قصص هنا؟ كم تركوا من دموع وراء دموع؟ صارت الدّموع مثل أسراب النّورس؛ هجم سرطان البحر على الصّخرة؛ تفتّتت أجزاء كبيرة منها؛ جاء النّورس منشرحا وقد قاوم هجوم الدّيدان تتلذّذ بتفاصيل كبيرة من أنحاء في جسدي؛ سرق النّورس كلّ نشوتي؛ لم أستسلم له؛ بحثت عن نشوتي لم أجد نشوتي؛ ربّاه أين خيولي؟ أين حبيبي؟ كم من قبلة وراء قبلة ودمعة وراء دمعة سقطت هنا؟ كم سقطت وأنا أتسلّق ذلك الجبل الخرافيّ؟ كم تنمّرت تلك الصّخور؟ كم سقطت تحت المطر؟ كم سقطت من فوق الجواد دون حبّ أبحث عن حبّ؟ نعم يسقط الحبّ أحيانا مثل المطر؛ سقطت عدّة مرّات وأنا اتسلّق ذكرياتك معي؛ كلّ الذّكريات غرقت كما غرق ذلك القارب الذي كتب عليه بخطّ غليظ” مجنون ليلى”  لم تبق من القارب إلا خشبة صغيرة تحمل اسم المجنون وقد عبثت بها الرّياح ذات اليمين وذات الشّمال؛ عاد المجنون إلى الشّاطئ؛ دفن “ليلى” فوق تلك الصّخرة؛ فكّرت أنّ كلّ صخرة إنّما هي في أصل الخلق وقبل الخلق كانت نطفة عاشقة في الأرحام؛ صارت بعد الولادة أنثى كالرّاهبة داهمها اللّيل فانتحرت؛ أطلت التّفكير في تلك الصّخور النّائمة على طول الشّاطئ كأنّها دموع سقطت من شدّة الحزن؛ هي بالتّأكيد دموع تتخلّلها دموع انهمرت بعد تلك العاصفة؛ تعلّقت الدّموع بالخدين كأنّها طيور مهاجرة بين تلك الصّخور وقد صارت على هيأة أعشاب صخريّة تنبت على مدار السّنة؛ سمعت أنّ العشّاق يأكلون من تلك الأعشاب البحريّة لأنهم في أصل الخلق والوجود والموجود هم من سلالة بحريّة؛ فكّرت أنّه بعدد الأعشاب وسط تلك الصّخور؛ أو بعدد العيون الغارقة في الدّموع؛ أو بعدد الطّيور الرّاقصة في السّماء؛ أو بعدد النّجوم وقد تفتّحت كالأزهار في السّماء؛ يمكن أن أحبّك؛ فكّرت أنّ الصّخرة كالعذراء تشتهي ولا تحبّ أن ترى ما تشتهي؛ هي على حياء إلى درجة فقدت فيها الحياء حين تعرّت من ملابسها وبقيت تكشف عن نهديها؛ وقد عاقبتها الآلهة على فجورها؛ هي في أقصى الحالات تشبه تلك العاهرة خرجت إلى هواء الطّلق تريد تحقيق نشوتها وسط نشوتها؛ تخلّت عن مبادئها؛ خرجت عن ديننا الذي حرّم تبرّج النّساء يخرجن عاريات؛ خرجت الصّخرة كالنّطفة من الأرحام وقد أغواها سرطان البحر بتحقيق نشوتها تخلّت عن مبادئها ألقت الحجاب؛ رفضت النّقاب استسلمت إلى حرف النّداء؛ تخلّى عنها سرطان البحر؛ حرمها من صعود النّشوة قبل الفجر وحين أرادت أن تبكي تحوّلت دموعها إلى صخور؛ تجمّدت النّشوة؛ صارت على شكل صخرة تحمل في داخلها سرّا من أسرار الطّبيعة؛ انتظرتك حتّى تجمّد الدّم في عروقها؛ حتّى صارت تحسّ كأنّها لا تحسّ؛ حتّى صارت تحبّ كأنّها لا تحبّ؛ صارت هكذا بعد فراقك؛ صرت اراك تمثالا يجلس فوق كلّ صخرة؛ صرت اراك طائر” منيرفا” يجلس كالحكيم أو الفيلسوف فوق كلّ ذكرى؛ كم من صخرة هنا؟ كم من ذكرى هناك؟ بعد غياب طويل؛ انشقّت الصّخرة إلى نصفين؛ أنت جرحتها؛ أنت حطّمتها أو اغتصبتها؛ أنت جعلتها تسكت عن حبّنا إلى الأبد؛ أنت خنقت انفاسها؛ أنت جعلتها على هيئة ذلك التّمثال؛ صرت أعبد التّماثيل؛ صرت بين حبّ وحبّ وتمثال وتمثال قصّة من القصص؛ صرت نجمة في السّماء؛ صرت دمعة على الخدّين؛ لم أستطع البكاء؛ لم أستطع ان أرفع الصّخرة إلى الوادي؛ لم أستطع فراقك؛ حطّت النّوارس فوق الصّخور؛ فكّرت أنّها تحمل رسائلك من السّماء؛ فكّرت ان اطير معها؛ فكّرت أنا المجنون؛ لماذا تطير النّوارس في الصّباح ثمّ تعود في المساء؟ فكّرت لماذا لم تعد معها؟ فكّرت لماذا رحلت معها؟؛ ألا يعود الطّائر مهما ابتعد إلى عشّه؟ ألا يعود العاشق مهما ابتعد إلى صخرته… عفوا الى حبيبته؟

مقالات ذات علاقة

حول التجربة الأولى للكاتب أحمد مسلم: شعرية الهامش وسرد الريف المهمش

فراس حج محمد (فلسطين)

الدكتور صلاح فضل في ذمة الله

مهند سليمان

روحك رُقيًا

المشرف العام

اترك تعليق