يسري عبدالعزيز
هذا ما كان منذ نصف قرن:
اعتقد أنني كنت من الجيل المحظوظ…
في الستينيات من القرن الماضي كانت طرابلس تعج بحركة ثقافية كبيرة… أنشطة متعددة وكثيرة متاحة لكل راغب في المشاركة… النوادي الرياضية كانت تقوم بدور كبير في ذلك من خلال مسابقة “النشاط المتكامل”… جمعية الفكر الليبية تنظم العديد من المحاضرات والندوات لمفكرين وأدباء من ليبيا والدول العربية والعالم… اللجنة العليا لرعاية الفنون والآداب تقيم مسابقات للأدباء الشباب وتنشر كتب الفائزين منهم… محلات بيع الكتب كالفرجاني ودار الفكر ومكتبة النجاح وغيرهم تمتلئ أرففها بالعناوين المتنوعة لكتب من كافة الاتجاهات الفكرية… أكشاك بيع المجلات والصحف تنتشر في ميادين وشوارع المدينة وتحتار عندما تتوقف أمامها فيما تشتري منها لكثرة وتنوع المعروض… صحف ومجلات عربية من القاهرة وبيروت وغيرهما من العواصم العربية… مجلات وصحف أجنبية مختلفة كانت ضمن المعروض أيضا… كان بإمكانك شراء مجلة “لايف” الأمريكية أو صحيفة “لا ريبوبليكا” الإيطالية أو مجلة “باري ماتش” الفرنسية وحتى “دير شبيقيل” الألمانية كانت تباع في طرابلس ذلك الوقت… إضافة إلي المجلات الليبية مثل “الجيل الصاعد” و”ليبيا الحديثة” و”المرأة”… والصحف الليبية اليومية أو الأسبوعية مثل: طرابلس الغرب / الحقيقة/ البلاغ/ الرائد/ الزمان/ الميدان / اليوم/ الشعب/ الفجر… إلى أخر القائمة… وكان هناك أيضا صحف ليبية أخري تصدر باللغتين الإنجليزية والإيطالية.
كان في طرابلس أيضا أكثر من عشرة قاعات للعرض السينمائي تعرض الأفلام الحديثة الأمريكية والإيطالية والمصرية…. البعض من دور العرض تلك كان يستغل كمسرح في بعض المواسم لعرض المسرحيات الوطنية والعربية وكذلك المترجمة لعمالقة كتاب المسرح العالمي مثل شكسبير…. كما شهدت طرابلس في تلك الفترة العديد من الحفلات الغنائية لمطربين ليبين وعرب لعل أشهرها حفلي عبد الحليم حافظ وأم كلثوم.
أتيح لي في ذلك العمر رغم أنني كنت تلميذا في المرحلة الابتدائية ثم الإعدادية الحضور أو المشاركة مع أبناء جيلي في العديد من الأنشطة التي أقيمت في تلك الفترة… واحدا من هذه الأنشطة كان ترددي على المراكز الثقافية الموجودة بالمدينة للاطلاع على الكتب في مكتباتها واستعارتها منها وحضور العروض السينمائية والفنية التي تقيمها… من هذه المراكز… المركز الثقافي الليبي بميدان الشهداء… الأمريكي بميدان الجزائر… البريطاني بشارع غرناطة… والمركز الثقافي العربي (المصري) بشارع عمر المختار.
كانت طرابلس في تلك الحقبة من الزمن خلية نحل لا تهدأ في الثقافة والأدب والفن والرياضة والأنشطة الاجتماعية المختلفة مما ساهم في تكويننا الفكري وفي بناء شخصيتنا أنا ومعظم من عايش تلك الفترة علي حب هذا الوطن… لقد كنا محظوظين فعلا بأن نجونا من سياسة التجهيل والتعليم السيئ التي اتبعها حكم العسكر والتي أثرت سلبا في الكثير من شبابنا ممن عايشوا مرحلته إلا من رحم ربي منهم باجتهاده الشخصي أو لكونه تربي في عائلة أحسنت تربيته وتثقيفه.
أعتقد أنني فعلا كنت من الجيل المحظوظ.