قصة

شجرة الزمن الغائم ..

من أعمال التشكيلي عمر جهان
من أعمال التشكيلي عمر جهان

الزمن طرابيش في الأسواق وعربات تجرها الخيول.. والقلعة لازالت قائمة عند الشاطئ.. رغم أنني قرأت في كتب التاريخ أنها أزيلت بعد دخول العسكر الإيطالي.. ها هي الآن ماثلة أمامي.. حراسها بزي عسكري وطربوش.. والوالي بداخلها يمارس جمع الضرائب.. ويحتكر تجارة الملح.. والدفتردار يعد العملات.. المجيدي والقرش.. ليس بإمكان أحد أن يوقف الزمن.. القدماء جعلوا منه سيفا يقطع.. ونحن لا نشك مطلقا في حكمتهم.. نصفهم بالقدماء وكأننا ننتقص من حقهم.. أو نعتبرهم متخلفين عن عصرنا.. لأنهم لم يعرفوا الفيس بوك.. ولم يأكلوا سندوتشات (البانيه).. و(التوست).. ما ذنبهم حتى نصفهم بالتخلف وهم يجلسون بالمقاهي مثلنا.. ويأكلون في بيوتهم خبز القمح والتمر.. ويمازحون بعضهم في أوقات الفراغ مثلنا.. ويحزنون لحظات الوداع مثلنا.. ويحتفون بالحياة مثلنا لكن على طريقتهم فهم يفرحون بمواسم الأمطار وأيام الحصاد.. وحياتهم قرب البحر تمنحهم الوقت للجلوس عند الشاطئ وتأمل الأمواج..

أجدادنا امتداد طويل لحيوات مختلفة.. دفاتر للأرواح يسمونها شجرة العائلة.. لماذا يطلقون عليها هذا الاسم؟ ما لون أوراقها.. سنتخيلها مثل الأشجار التي نراها في الواقع.. بأوراق خضراء.. وربما نتخيلها شجرة مسنة.. تشبه زيتونة عجوز عاشت قرنا من الزمان.. في أغصان هذه الشجرة تتعلق الأجيال.. يبدأ الغصن صغيرا عندما يولد أطفال الجيل.. ثم يكبر ويمتد فتتغير أشكالهم بلون الشعر الأبيض والأفواه الفارغة من الأسنان..

أجدادنا الأولين جذور في باطن الأرض …. كانوا يعتزون بأنسابهم.. أحيانا نتمنى أن نتعرف على وجوههم وأشكالهم.. ونتساءل في داخلنا هل يشبهوننا؟

 ما طعم الحياة عندما كان جدي الأول يحمل الملح فوق ظهر بعير.. يملأ الأكياس من ملاحة سيدي حسين أو سيدي يونس أو الصابري.. وينقلها إلى ميدان الملح.. حيث كوم كبير أبيض مثل الجبل.. يفرغ الحمولة مقابل مبنى هوتيل برقة.. ويتقاضى ثمن الملح من الآغا.. أتخيله عائدا إلى البيت الطيني خائر القوى.. وفي لقطة سينمائية أراه يأكل الحساء مع (عصبان الشمس).. بجانبه امرأة بوشم في ذقنها هي جدتي.. تلف العبروق حول رأسها.. تفوح منها رائحة القرنفل.. وتعد له الشاي..

لابد أنها مثل نساء ذلك الوقت.. تعد الطعام على نار الحطب.. وتعجن الخبز كل يوم.. تلتقط الحصى من الأرز.. وتغسل الثياب على يديها..  المسكينة لم تعرف الغسالة الأوتوماتيك.. لكن ما علاقة جدتي ذات الوشم بشجرة العائلة؟ في خيالنا دائما نربط الخيوط ببعضها.. ونضع الصور الفوتوغرافية في إطار الزمن.. نستغرق في علاقة زمنية.. تشبه حلما يشدنا إليه.. ولا نرغب في الخروج منه.. أجواؤه غائمة ومريحة.. تأخذنا من وسط هذا العالم المليء بالموت.. والأوبئة.. والأخبار المزعجة.. خيالنا دائما يعرض الصور غائمة.. وأحلامنا تشبه الأفلام القديمة بدون ألوان.. 

 جدي الأول يمسكني من يدي.. أنا الصغير المشاكس.. يمضي بي إلى الجامع العتيق.. أسير إلى جانبه وأنا أتأمل طربوشه.. في الجامع يتحلق أناس حول رجل بلباس أبيض.. يضع فوق رأسه شنة حمراء.. يصغي الحاضرون لحديثه.. ثم يرفعون أكفهم.. ويؤمنون مع دعائه.. يدعو الرجل لوالي البلاد بطول العمر.. وبأشياء أخرى لم أفهمها.. وأنا أقلد حركاتهم.. وأردد مثلهم آمين..

عندما عاد جدي الأول إلى البيت.. تسلق شجرة كبيرة.. وتمسك بأحد فروعها وأغمض عينيه نائما.. لم يعد يكلم أحدا.. فيما كان جدي الثاني يأكل من صحن أمامه.. ناداني.. تعال يا ولد..  وكان الصحن مليء بالقطامة.. وبطني تؤلمني من الجوع.. قال جدي الثاني.. إن لم تأكل ستموت من الجوع يا ولد.. ليس عندنا ما نأكله إلا (القطامة).. لماذا جاع جدي في عام (القطامة) والبحر أمامه مليء بالأسماك؟

تسلقت الشجرة الكبيرة.. كنت أتعثر بأجساد رجال نائمين فوق الجذوع.. خفت أن أوقظهم.. تراجعت وعدت إلى الأسفل.. كانت جدتي تراقبني.. صاحت: لا تقلق أجدادك يا ولد.. خرجت من عندها.. واتجهت ناحية المرسى.. حيث القوارب الصغيرة التي تنقل الراكبين من الصقالة إلى المراكب الراسية على بعد مسافة من الشاطئ..

مقالات ذات علاقة

الـشـــيء

عائشة المغربي

الهلال…

أحمد يوسف عقيلة

شاهد عيان

علي الجعكي

اترك تعليق