طيوب عربية

قهوة في إسرائيل

قهوة وبحر (الصورة: عن الشبكة)

كنت أجلس في مقهى العروبة اترشف فنجان قهوة؛ وقد نسي النادل الظريف” سي العربي” ان يضع في قهوتي المعتادة الى درجة غير معتادة طابعين من السكر؛ هو يعرف أنى اريد قهوة عربي “اشطار” زائدة سكرا؛ هو يعرف الدرس لكنه يتجاهل قواعد الحب في ذلك الدرس؛ هو ينسى دائما او يتعمد ان ينسى اصول ذلك الدرس الكلاسيكي لعدة اسباب يطول شرحها؛ هو يحاول دائما عندما يقع في نفس الخطأ ان يجد أكثر من مبرر لا يدل على مبرر حقيقي يؤكد بالفعل لماذا أصبح ينسى او يحاول ان ينسى انه قد نسي كل الاشياء الجميلة التي كان يمكن ان يحبها؟ لماذا أصبح يتذكر انه لا يتذكر الا تلك الاشياء التي كانت تزعجه؟ لماذا اصبحت الذاكرة دون ذاكرة؟ هو لا يتذكر أين ولد؟ بل هو لا يتذكر اصلا حتى مكان ولادته؛ هو يحب ان ينسى انه ينسى؛ هو يتذكر انه لا يتذكر؛ هو ينسى انه ينسى؛ هو… ليس… هو… و. انا…لست أنا…و. أنتم…لستم… أنتم…. هو يحب ما بدا له وما لم يبدو له من ذلك الحب؛ هو لا يحب ان ينسى انه قد نسي الا ما لابد ان ينساه الى الابد؛ حتى زبائن المقهى العربي لم يعد يميز بعضهم من بعض؛ صار يستعير لهم اسماء خيالية ترمز الى ابطال لا وجود لهم في  الواقع العربي؛ او لا وجود لهم  الا في الخيال العربي؛ وقد انزعج عدة زبائن من ذلك لان تلك الاسماء لا تدل على مسمياتهم الحقيقية؛ لم يكن القهوجي كبيرا في السن؛ لكنه دائما يقول ضاحكا: تعرضت في حياتي الى عدة ازمات عاطفية خطيرة جعلتني انسى ارضي…اهلي…حبيبتي؛ جعلتني ذروة الازمة وانا افكر في ازمتي لا أتذكر ازمتي؛ لا أتذكر حتى عروبتي…لا أتذكر حتى متى وقعت في ذلك الحب العربي العذري؟ هو يتعمد دائما ان يخفي عليك ازمته الحقيقية؛ ربما لأنه كان يعتقد ان تلك أزمة شخصية؛ اصبحت الازمة سرا من الاسرار الخاصة بحياته الخاصة؛ لم أكن مقتنعا تماما بانه كان ضحية حب من طرف واحد؛ هو يدعي ذلك احيانا….؛ هو يتعمد ان يخفي عليك عدة ادلة قاطعة تثبت ادانته بعدة تهم خطيرة جدا؛ منها رفضه الاعتراف بدولة اسرائيل او التحريض على ضربها بالصواريخ؛ كل اقواله النارية كانت تحريضية ضد دولة الاحتلال؛ كل خطاباته القومية ممتازة الى درجة غير ممتازة؛ هي أقوال لا تدل على افعال؛ كل الأفعال وقعت في الماضي؛ وهي تدل على الزمان الماضي؛ قد تخلق تلك الافعال حسب صيغتها في الماضي  الشك في الماضي نفسه؛ بل قد تخلق تلك الافعال في دلالتها المتوقعة على وقوع الفعل من عدم وقوعه في الحاضر وأنت تبحث عن نفسك في الحاضر الشك الهدام؛ لا هي تدل على اليقين او مطلق اليقين ولا هي تدل على الشك او مطلق الشك؛ لم يعد الشك طريقا الى اليقين؛ فلاهي تمجد الماضي وتتمسك به ولا هي تدافع عن الحاضر وتطالب بتغييره؛ قلت في نفسي: ما احوجنا الى تصريف الفعل في صيغة المستقبل؛ لماذا نستعمل في بعض  الكلام او الكلام على الكلام ما يسمى بالأفعال المبنية الى المجهول؟ لماذا نربط الفعل بالفاعل؟ أين الفعل المبني الى المعلوم؟ أين الفاعل؟ لماذا يرد الفاعل في بعض الجمل ضميرا مستترا تقديره “هو”؟؛ لماذا لا تقبل الأفعال الدالة على المشاعر والأحاسيس البناء الى المجهول؟ نعم هي ترفض ذلك؛ انا لا اريد ان تظل مشاعري مجهولة فوق أرض مجهولة؛ انا صاحب الارض؛ انا صاحب الفعل؛ من حقي ان أدافع عن ارضي؛ ترتبط الأقوال في النص بالأفعال في الخطاب……..

    كم مرة حين عاد ” سي العربي” الى نفس الحب او  الى نفس الهفوة يؤجل التصريح بما يخفي في صدره من تلك الحقائق او الوقائع؛ وقد كرهت تلك الحقائق لا تدل على حقائق بعينها؛ نعم لقد كرهت احراجه في تحديد طبيعة الازمة التي يعيشها او تحديد الاسباب الحقيقية الكامنة وراء ذلك الخطاب التحريضي او الناري؛ كم مازحته على وجه الجد قائلا: انت رغم صغر سنك معرض للإصابة بمرض الزهايمر… الخطاب الحماسي لا ينفعنا في قضيتنا؛ ذهب ذلك الخطاب مع القرن الماضي؛ الخطاب الناري لا ينسجم مع الوضع الراهن؛ انت في عرف القانون الدولي شخص ارهابي لأنك تحرض على العنف؛ توجد عدة حلقات مفقودة في خطابك الناري؛ انا لا افهمك…. انت تقفز بين الازمنة؛ انت تعيش خارج كل الازمنة؛ انت مهدد بالانتحار على طريقة الفلاسفة؛ الم يقل سارتر بان” الانتحار حفل بهيج يكتشفه الانسان من اجل ان يقول وداعا يا حياتي”.

      حسب ثقافتي الشعبية سمعت بأن هذا المرض العصري وهو من افرازات الحداثة او ما بعد الحداثة صار ينتشر بكثرة عند كبار السن من الشيوخ والعجائز و قد عاشوا على وقع عدة احداث مؤلمة لا يحتملها العقل البشري؛ الغريب في الامر أن هذا المرض الحداثوي أصبح ينتشر عند الشباب وحتى عند الصغار؛ شد انتباهي وانا اجلس  في مقهى العروبة دون تحقيق العروبة عدة أشخاص لا يوجد ترابط زمني في كلامهم؛ لا يوجد منطق يدل على تسلسل منطقي في افكارهم؛ هم بلا منطق يدل على منطق؛ سالت احدهم مستغربا من تأملاته الفلسفية: هل تحمل في قلبك وانت تجلس في مقهى العروبة كل أزمات العروبة؟ دعك من احلام العروبة؛ دعك من منطق يدل على أكثر من منطق؛ مات الزعماء؛ لم يعد هناك ابطال؛ ماتت القصص؛ مات الكاتب كما مات الراوي؛ بصعوبة حددت المروي والمروي له؛ لم يبق من تلك العروبة الا مقهى يحمل اسم تلك العروبة؛ دعك من تبني افكار القومية العربية؛ دعك من التدخين اثناء تناول القهوة؛ لا تحرق قلبك كثيرا؛ اشرب قهوتك بهدوء؛ تخلى العرب عن قضيتهم؛ انظر الى يمينك الا ترى تلك اللافتة الزرقاء وقد كتب عليها “شارع فلسطين”؟ اليس ذلك اهم انجاز عظيم حققه العرب على مدى قرن من الزمن؟ هل يمكن ان نختزل القضية الفلسطينية في حجمها العربي الكبير في مجرد شارع مهمل وضيق مزدحم بالناس او مزدحم بالأفكار التي لا معنى لها…. انا الان في شارع فلسطين؛ حيث مقهى العروبة؛ لكن مشكلتي لا أستطيع ان ادخل الى فلسطين لأنها أرض محتلة باعتراف الأمم المتحدة.

  فكرت ان الزخارف المنقوشة على فنجان القهوة هي التي أوحت الى “سي العربي” بأمجاد العروبة؛ يظهر على الفنجان جنود يحملون السلاح ويخترقون اسوارا عالية؛ حقا لقد كانت اختياراته الفنية رائعة؛ هو صاحب ذوق فني؛ هو لا يختار الا نقوشا تدل على أمجاد عربية سابقة؛ اعطتني الفسيفساء مشاعر متداخلة؛ خفت ان يتسلل احد الجنود الى فنجان قهوتي فيسرق متعتي قبل ان احقق متعتي؛ خفت ان يرفع احد الجنود السلاح في وجهي؛ خفت ان يسرق احدهم افكاري؛ أعطاني فنجان القهوة وقد أحاط به الجنود من كل جانب وهم في وضع هجومي؛ شجاعة لم اعرفها من قبل؛ أردت ان أشارك هؤلاء الجنود معركتهم الاخيرة؛ أردت ان اصعد معهم تلك الاسوار العالية؛ حرضني الفنجان على ذلك الحوار العسير مع ذلك النادل الثوري الظريف؛ هو يحب ان يتفلسف على طريقة سقراط؛ هو يحب القصص الذهنية؛ كم قلت الى ذلك القهوجي انت اخر فيلسوف عربي؟ انت اخر طبيب عربي؛ انت اخر زعيم عربي؛ انت اول قائد عربي؛ هو من أنصار الزعيم العربي الراحل عبد الناصر؛ يعجبني حماسه؛ تعجبني اختياراته الغنائية؛ كم رايته يترنم على اغنية” وين الملايين…وين الشعب العربي وين”؟ هو صاحب ذوق فني رفيع؛ حتى في الغناء هو فيلسوف؛ حركتني الاغنية العربية؛ تحركت مع الجنود؛ حملت معهم السلاح حاصرنا العدو من كل جانب؛ بدأت دون ان اشعر اردد تلك القصيدة المشهورة” اذا الشعب يوما اراد الحياة….” ؛ بدأت احفظ تلك الكلمات؛ خاصة بعد ان تلاحقت الهزائم في حرب الخليج العربي؛ وقد حز في نفسي ان بعض المقاهي الاخرى بعد ذلك الغزو اصبحت تفرض على هؤلاء الزبائن سماع الاغاني الغربية المنحطة؛ هي تفرض ذلك بالقوة؛ نعم بالقوة فرضوا على الزبائن ان يتناولون فناجين من القهوة المستوردة من بلاد بعيدة؛ الجميع صاروا يدمنون على تناول ” الكابوتشينو” مع سجائر المارلبورو…

   وقد تألمت لذلك؛  نصحت ” سي العربي” بعد انتهاء الاغنية؛ بعد انتهاء الثورة؛ قلت له: انت مناضل قديم؛ حافظ على صحتك؛ دعك من الفلسفة؛ لا تكن فيلسوف زمانك؛ دعك من الغناء لا تكن مغنيا؛ دعك من التهريج لا تكن مهرجا؛ كن واقعيا لن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم…لم يعترف بكلامي؛ واصل الغناء بحرقة؛ واصل الدخول في اضراب جوع مفتوح؛ لم يعترف بأن ماضينا انتهى؛ لم يعترف بأن على الجيل القادم ان يصنع امجادا اخرى؛ هو لا يعترف بأن الوقوف على اطلال الديار لن يعطيه حبيبة اخرى؛ هو يعرف انه لا يعرف ان الرحلة الى الماضي لا معنى لها؛ هو يعرف ذلك لكنه يتجاهل ذلك. الم تتجاهل اسرائيل كل قرارات الأمم المتحدة؟

   عليك ايها القهوجي؛ نعم عليك أيها الضمير العربي ان تفكر في حلول جذرية لازمتك القومية؛ ضع افكارك وسط افكارك بين الذاتية المفرطة والموضوعية المجحفة؛ ضع احلامك بين قوسين؛ يجب ان تتخلى عن امجادك العربية؛ يجب ان تتخلى عن أهدافك من المشروع القومي العربي؛ الم تجد في إحدى العيادات الطبية المشهورة حلولا ناجعة لازمتك؟ عليك ان تحدد من وراء ذلك الإضراب عن الكلام لساعات محددة من اليوم او كامل اليوم الاهداف الفنية والمضمونية؛ هو لا يتكلم معك؛ لكني كنت واثقا انه كان يتكلم بينه وبين نفسه؛ هو على طريقة الأدباء يستعمل المونولوغ؛ هو يعيش في حوار باطني عميق. كم سألته من مرة قائلا: ما هو مشروعك النموذجي؟؛ هل وجدت مكتب دراسات لوجستية يتكفل بمشروعك القومي؟ فكر ان تجد حلا عقليا؟ دعك من الحلول السحرية؛ دعك من أزمة العروبة؛ فكر في حل ازمتك الخطيرة؛ كم نصحت ذلك القهوجي بان يذهب الى طبيب مختص في الامراض الباطنية حتى يعالج ذلك الاحساس الباطني بالمرض؟ اخر ما نشر من دراسات يشير الى ارتفاع نسبة الإصابة بفقدان الذاكرة في الاوطان العربية؛ هو مرض العصر؛ كل الأمراض في هذا العصر اصبحت باطنية؛ الجميع مهددون بفقدان الذاكرة؛ الجميع مهددون بالانتحار؛ لم تعد الذاكرة العربية تتحمل قرارات اممية تنحاز الى طرف على حساب طرف اخر؛ لم نعد نتحمل ما يصدره مجلس الامن من قرارات ضدنا؛ لم نعد نتحمل قرار وقف اطلاق النار من جانب واحد؛ لم نعد نتحمل عقوبات اقتصادية اخرى؛ لا تفكر انك وحدك تعاني وحدك من تلك الازمة؛ كلنا مهددون بنفس المرض الباطني؛ كلنا مهددون بنفس الازمة الباطنية؛ كلنا منعنا من الحوار الحر المباشر؛ كلنا نعيش في حوار باطني لا جدوى منه؛ كم حدد نادل مقهى العروبة في غياب الوعي بالعروبة من موعد خلال موعد يتخلله اخر موعد وهمي مع طبيب وهمي؛ قبل ان يستسلم نهائيا الى المرض الوهمي الذي بدا ينخر عقله؟؛ بدأت بوادر الازمة من العقل وقد تتسرب الى القلب؛ تفشي المرض الذهني؛ كم دعوته لزيارة عيادة ذلك الطبيب الرعواني المشهور في الاوساط الشعبية لكنه لم يذهب؟ هو صاحب القرار لكنه لا يملك تنفيذ القرار؛ وقد فقد كما تفقد كل دولة عربية حقها الشرعي في تقرير المصير في غياب المصير المشترك؛ هو صاحب قرار دون قرار؛ هو يكره ان يقيد نفسه بمواعيد وهمية؛ كل المواعيد حسب اعتقاده فارغة من الحب او فارغة من المعنى الذي يبحث عنه باستمرار؛ كم ألغي ” سي العربي” من زيارة وراء زيارة الى الطبيب الرعواني المختص في العلاج الرعواني؟ هو يتعلل بأن هذا المرض الغريب عن الطب الحديث؛ لا دواء له؛ كل الادوية لم تعالج احساسه بالأزمة؛ كل الجرائد رفضت ان تعترف بأزمته الفكرية؛ هل هي أزمة وجود؟ كل الاقلام وهي تكتب تزوّر الحقائق؛ كل الجرائد التي قرأتها تتمادى في ارتكاب الاخطاء؛ بعض الأخطاء لغوية؛ والبعض الاخر من تلك الاخطاء معرفية بالأساس؛ وقد كرهت تلك الجرائد والمجلات لأنها متناقضة؛ هي في الظاهر ناطقة بالعربية ولكنها في الباطن لا تعبر عن مشاغل المواطن العربي؛ صرت اختار أن اقرا  بعض الجرائد الناطقة بلغات اخرى تعبر عن اهتمامات اخرى؛ وهي في اعتقادي محايدة الى حد كبير في نقل الاخبار؛ اصبحت وسائل الإعلام في غياب الاعلام لا تشغل فؤاد المواطن العربي؛ لم يعد المواطن يقرأها؛ لم يعد يصدقها؛ لم يعد يثق في اخبارها؛ لقد فقدت كل مصداقية؛ صحيفة الوطن العربي لا تدافع عن الوطن العربي في محنته؛ لماذا أقرأ اخبارا مزيفة؟؛ صديقي بائع الفواكه الجافة؛ لا يبيع تلك الجرائد؛ لا يبيع تلك المجلات؛ اصبح لا يستعمل تلك الجرائد الا لقضاء حاجات ” الكليونات” والكلمة له حتى يلفّ فيها ما يقتنيه العشاق من فواكه جافة في اول السهرة؛ غير بعيد لفت انتباهي رجل مثقف يتفحص احدى الجرائد دون انتباه او تركيز؛ لم تعجبه العناوين؛ تفحصها بسرعة وتركها بسرعة.

   اشترى النادل القومي كل المنشطات؛ لكنه لم يشعر بالنشاط؛ اشترى كل الشعارات لكنه لم يحقق اي شعار؛ اشترى كل الادوية لكنه لم يشعر بالتحسن؛ التزم القهوجي بعد استشارة طبيب مختص في التغذية بنظام غذائي منصوح به لكنه لم يشعر بالتحسن؛ نصحه طبيب اخر مختص في الأعصاب الدماغية بتوخي نظام فكري لا يدافع فيه عن افكار العروبة؛ ولكنه رفض التخلي عن افكاره القومية؛ لم يأخذ بتلك النصيحة؛ هو ضحية افكار قومية متشددة يصعب تصنيفها او تحقيقها مع تفاقم عدد الاوطان العربية؛ مع تفاقم عدد اللغات العربية؛ مع تفاقم عدد الاعلام العربية؛ لم نعد نملك ثقافة واحدة؛ لم نعد نملك سيادة واحدة على أرض عربية واحدة؛ لم نعد نملك مصيرا واحدا على أرض واحدة؛ تناحر الاخوة؛ انتشرت بينهم الفتنة؛ ازداد الدم العربي؛ حتى شاشات التلفزيون اصبحت مسرحا دمويا يعرض معاركنا الفارغة من كل محتوى قومي؛ وقد كرهت تلك الشاشات التي تعرض في كل نشرة اخبارية على مدار الساعة و اليوم جثث القتلى ولا تتحرى في  الحقائق؛ لم اجد اي شاشة عربية تنقل الوقائع بصدق ونزاهة؛ لم اجد من يندد بالقاتل او بضرورة فتح تحقيق فوري يكشف ملابسات تلك الجرائم البشعة في حق أمة كان يفترض بها ان تكون خير أمة أخرجت الى الناس. حتى منابر الحوار مخزية لأنها خالية من كل حوار عربي عربي.

   مرة شدني فيديو مؤثر في مواقع “اليوتيوب” يعرض معاناة امرأة صومالية تستنجد طالبة يد المساعدة؛ وجهت أكثر من نداء استغاثة الى أصحاب القلوب الرحيمة من اهل البر والاحسان؛ لقد أطلقت عدة صيحات فزع الى كافة الدول العربية والاسلامية شرقا وغربا ولكن هيهات… ثم…  هيهات…. لم  تجد من يسمع صريخها؛ لم تجد دولة عربية مسلمة تتعاطف مع شكواها من اجل صغارها يموتون جوعا؛ الطريف والعجيب والغريب ان تلك الصومالية بعد مدة جاءتها مساعدات كبيرة جدا من شخص لم يكتب اسمه او عنوانه لكنه وضع على كل مساعدة شعارا ازعجني كثيرا “هذا من عند الشيطان” لقد ساعدها الشيطان في حل الازمة؛ لقد تعاطف معها شيطان مارد؛ استغل ازمتها المادية رفض المارد قصة خلقه؛ رفض ان يسجد بأمر الله الى سيدنا ادم؛ هو يفتخر انه مخلوق من نار وهو ارفع من التراب؛ هو يفتخر انه اغوى ادم و حواء كي يقطفا من الشجرة تفاحا؛ لن يجد صعوبة تذكر في اغواء تلك الصومالية بمساعدتها؛ هي في أسوأ الحالات؛ بعد ان مات أهل البر والاحسان؛ يمكن أن تقبل المساعدات حتى من الشيطان نفسه؛ اختلط الحابل بالنابل؛ لم ترفض مساعدات جاءت على متن البحر في تلك السفينة؛ لم تفعل كما فعلت امرأة نوح حين رفضت امر ربها على لسان سيدنا نوح ان تركب على متن السفينة؛ فغرقت ومن معها وضلت من الغابرين؛  تذكرت قصة سيدنا نوح وكيف سخر منه قومه وحتى زوجه ثم ولده؛ لم  يصدقوا ان هذا الطوفان من عند الله.

بعد ان ضاع الوقت ولم يبق الا قليل من الوقت لا يدل على الوقت المخصص للمساعدات التي تأتي من وراء البحر؛ وقعت المرأة في تناقض داخل تناقض؛ لم افهم كيف تسلل الحب الى قلبها من ذلك المارد او الماكر؟ لم اعرف لماذا تعاطف الشيطان الذي يحب الشر مع تلك المرأة التي تحب الخير؟ لم اعرف متى يلتقي الخير بالشر او متى يفترق الشر عن الخير؟ هل قرر الشيطان بعد ان تمادى في العصيان ان يعلن عن توبته؛ هل تاب عن فعل الشر؟ هل في الشر ما يدل على الخير وهل في الخير ما يدل على الشر؟ هذا التحول في تفكير الشيطان من حب الشر الى حب الخير؛ أذهلني؛ حارت نفسي؛ حتى الشيطان تغير؛ لماذا لم نتغير نحن؟ لا أتذكر اننا تغيرنا…هل تغيرنا؟ هل نحن من طالب بالتغيير؟ نحن طالبنا…نحن لم نطالب…؟  ما دلالة ضمير المتكلم الجمع؟ الا يسطر ضمير المتكلم المفرد على دواليب الحكم في كل أنظمة الحكم العربية؟ متى التقى ضمير المتكلم مع ضمير المخاطب؟ عندما نتورط لماذا نسند كل افعالنا الى ضمائر الغيبة؟ حتى الشيطان تعاطف مع نداء تلك الامومة الضائعة؛ حتى الشر تضامن مع الخير؛ حتى الخير تحالف مع الشر؛ ما الذي جعل ابليس يستجيب الى نداء تلك المرأة الصومالية؟ ما الذي يجعلنا نقبل تلك المساعدات؟ هل نحن دائما بحاجة الى تدخل أجنبي عاجل حتى نكسب قضيتنا؟ هل نحن بحاجة الى تدخل عاجل من الدول العظمى حتى نستعيد حريتنا؟ الم تستعمل تلك الدول او أشباه الدول ذريعة غياب حقوق الانسان حتى تتكالب على اسقاط رموز الامة؟ هم دخلوا ارضنا؟ هم صنعوا الارهاب فوق ارضنا؛ دخلوا على هيئة عشاق ينشرون الحرية؛ خطفوا قلوبنا؛ نهبوا ثرواتنا؛ فتحوا قاعات السينما؛ شجعوا على انتشار افلام الرعب؛ شجعوا على انتشار افلام الدعارة؛ واخيرا وعدونا بالأمن مقابل الغذاء؛ بعد ان تمكن العاشق من احتلال أرض المعشوقة؛ بعد ان أغرق اهلها في الديون؛ ضحك أحدهم في وجهي وقال ساخرا: العشق ورقة تصفر ثم تموت. لم افهم نوع هذا العشق الخرافي؛ كم صدق أهل الارض او أهل العروس ان ذلك العاشق دخل خاطبا راغبا في الزواج؟ أحدهم علق: هذا زواج المتعة؛ هذا الزواج من اجل المصالح؛ هل نحن بحاجة الى حقوق الانسان في ظل غياب حق الانسان في مساعدة أخيه الانسان؟ نحن بحاجة الى ان نستعيد ارضنا او عرضنا؟ وقد كرهت قصة العاشق كما كرهت المعشوقة؛ حتى الشيطان تغير الا نحن لم نتغير؛ حتى الشيطان استجاب متعاطفا مع حق تلك البراءة المظلومة في الحياة؛ نحن فقط لم نعترف بتلك البراءة وهي تبحث عن البراءة؛ ضحكت من البراءة في قلب ذلك الشيطان.

    استوعب الشيطان الدرس؛ الا نحن لم نستوعب الدرس؛ اصبحت القضية أخلاقية انسانية؛ هو يندد…نعم ندد ابليس بأن الوضع خطير جدا في بلاد الاسلام لان المسلم لا يساعد المسلم؛ حزّ ذلك في نفسي؛ شعرت بالإهانة؛ شعرت بأن الوضع لا يحتمل مزيدا من الانتظار؛ شعرت بأن الإسلام اسم دون مسمى؛ ماذا ستقول تلك الصومالية الى صغارها حين تسأل عن مصدر الطعام؟ ماذا ستقول تلك الموءودة إذا سئلت باي ذنب قتلت؟ هل ستقول لهم: هذا الخير جاءني من قلب الشيطان؟ ولكنها إذا قالت ذلك هي ستناقض نفسها بنفسها؛ أليس الاعتراف بالحب او بالخير في قلب شيطان هو اعتراف بالكفر؛ وهي تكره ان تكون كافرة؟؛ أليست هي من علمت أطفالها ان الشيطان لا يفعل الا الشر؟ كيف ستقنعهم بأن الشيطان تخلى عن الشر وعاد الى نداء الخير؟ اعتقد انها وقعت في ورطة كبيرة؛ حقا لقد تغير بمرور الزمن مفهوم الخير كما تغير مفهوم الشر؛ كل الاشياء تغيرت؛ ما حز في نفسي ان تلك الصومالية إذا اعطت أطفالها من ذلك الطعام وهو من طعام حرام او مكروه او منبوذ فأنها تكون قد وقعت في الغواية على طريقة سيدنا ادم وهو عاشق امام شجرة معشوقة تغريه بالتفاح؛ اغواها نداء العشق في قلب ذلك الشيطان؛ اغواها بالخير؛ اعطاها الخير؛ اغواها بالشر؛ اعطاها الشر؛ اغواها بالحب دون ان يعطيها الحب؛ وقعت في الحب دون ان تحقق ذلك الحب….

    صاح الأطفال؛ اماه ما شكل الطعام وما لون السماء؛ رباه لا نريد العشق؛ نريد الحب؛ هي تعرف انها وقعت في حب مكروه؛ هي لا تعرف ان الخير قد ينقلب الى شر…وقد ينقلب الشر الى خير؛ هي تخشى الخير كما تخشى الشر إذا وقعت فيه؛ قد ينقلب عليها الشيطان في اي لحظة؛ قد يطالبها بالدخول الى جهنم؛ هل ستعترف بان الشيطان اعطاها الحب؟ هل ستقع في حب الشيطان؟ كيف سترد ذلك المعروف؟ الم يساعدها من خيره؟ الم يطعمها في ايام جوعها؟ قد يتخلى الأطفال عن مبادئهم او عن دينهم….

     أحد ” الكومنترات” قال واثقا من نفسه: بالتأكيد وقعت الصومالية في ازمة بين الكفر والايمان؛ او بين الخير والشر؛ هل اعترافها بالمساعدات هو اعتراف بالشيطان؟ قد يقع الاطفال من صلبها في حب الشيطان لأنه ساعدهم في ايام الجوع؛ تذكرت قصة سيدنا نوح وسفينة نوح؛ رفضت المرأة ركوب السفينة؛ نعم رفضت نداء نوح وقد قال لها: ” هذا من عند الله” اغواها الشيطان؛ علقت قائلا: لكنها لم ترفض المساعدة؛ لم ترفض الغواية وقد وقعت في الغواية؛ لم يسمعها الانس والجان؛ وسمعها الشيطان فقط؛ اعتقد انها لن ترفض ركوب السفينة للنجاة من الغرق؛ لن تقول دعني أغرق…. أنى أغرق؛ ما حكم ذلك الكذب إذا ارادت الكذب على اطفالها جوابا عن سؤال: من أين لك هذا؟ لماذا نبحث عن ادانتها ولا نبحث عن مساعدتها؟ ما هو الحكم الشرعي المناسب؟ وماهي مقاصد ذلك الحكم الشرعي؟ اعتقد ان الصومالية مضطرة الى تحريف المصدر الحقيقي لتلك المساعدات الموثقة بذلك الختم” هو من عند الشيطان” هل هي مضطرة ان تقول” هذا من عند الله” السنا نحن من يتحمل تبعات الكذب او الكفر إذا وقعت فيه؟؛ هي لا يمكن ان تكذب لان ديننا يحرم الكذب كما وعد الكذاب بدخول نار جهنم؟ هي لن تكذب؛ لا تستطيع ان تحرف الحقيقة لا تستطيع ان تخرج الى وسائل الإعلام كي تشكر الدول العربية الاسلامية على كرم مساعداتهم؛ ولكنها لا تستطيع ايضا ان تشكر الشيطان على حسن معروفه لأنهم سيقولون عنها: كافرة ومرتدة. كما انها لا تستطيع ان تنفي ان الشيطان اعطاها من خيره.

     فهمت الصومالية الدرس؛ هو ” مما سددت به كل خلل وحصنت به كل عورة” هي امرأة حصان اي عفيفة؛ الم يستغل الشيطان جوعها وسط جوعها حتى يدعوها الى الكفر او حتى يدعوها الى الشرك بالله؟ انتهى الفيديو دون ان يحقق نسبة إعجاب كبيرة؛ لم يعد هناك عشاق؛ مات كل العشاق.

    لم افهم لماذا كانت  ابتسامة ” سي العربي” شاحبة كالأرض في  الخريف؛ لا تعكس الفرح او قمة الفرح؛ هو يرفض ” الكريدي” سمعته يقول: ارجوكم ممنوع الكريدي؛ دون الحاح؛ كل الدول التي غرقت في أزمات تعود الى تضخم الاحساس بالمديونية؛ اريد ان لي استقلاليتي في اخذ القرار المناسب؛ كم صرح غاضبا: هو يملك كراس كبيرة  من ديون متخلدة بذمة زبائن المقهى؛ احدهم افلس وأغلبهم لم يعد يرى وجوههم؛ الجميع فروا من مقهى العروبة؛ الجميع فروا من ديونهم؛ الجميع كأنهم تخلوا عن عروبتهم؛ بل كأنهم هربوا الى الابد من خلاص ديونهم؛ أصبحنا نقبل المساعدات ونطالب بالمساعدات دون ان نفكر في فوائضها المجحفة؛ على الفرد العربي ان يرفض تلك السياسة؛ كل المساعدات تأتي من وراء البحر؛ تلقي بنا في اعماق البحر؛ الم يقل زعيم عربي: “لا حرية لشعب يأكل من وراء البحر”  أين خبزنا؟ أين ملحنا؟ أين ماؤنا؟ أين نفطنا؟ أين غذاؤنا؟ أين ارضنا؟ أين سلاحنا؟ أين قدسنا؟ أين قضيتنا؟ أين جنودنا؟ أين امومتنا؟

 ستقع الصومالية في تناقض داخل تناقض كبير بين ان تقول وهي على دينها – هذا من عند الله؛ او ان تخرج عن دينها كي تقول هذا من عند الشيطان؛ أليست تلك حقيقة وسط حقيقة مؤلمة؟ الا يدفعني ذلك التناقض داخل التناقض الى ان اشرب القهوة زائد سكرا؛ حتى أنسي ما احست به تلك الصومالية من مرارة كالعلقم؟ الم يكن النادل القومي مصيبا حين أعطاني قهوة دون سكر؛ كأنه كان يعرف أنى وقعت في تناقض بين الخير والشر؟ مرت امامي في تلك اللحظة امرأة سمراء اللون؛ هي متسولة ترتدي اسمالا بالية؛ قالت: “لله يا محسنين”  اجبتها على الفور دون ان افكر في معاناتها “ربي اينوب” حقا كان “سي العربي” مصيبا في اختياره تلك القهوة دون سكر؛ لم أعرف أن الازمة وراء الازمة في مقهى “العروبة” تجعلك تفقد كل مخزون الحديد في الجسم؛ او كل مخزون السكر في الدم؛ لقد جعلني الفيديو الصومالي اتشاءم؛ لم اعد متفائلا؛ انقطعت المساعدات الى الدول العربية الاسلامية لان مواقفها في حرب الخليج الثانية لم تكن واضحة؛ هناك انقسام كبير بين موقف القيادات المادحة على طريقة الشعراء في المدح وموقف الشعوب الهاجية على طريقة الشعراء في الهجاء؛ لقد طالبت الدول العظمى بموقف رسمي صريح يساند العقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق حتى إشعار اخر؛ طالبوا الجامعة العربية بالإسراع في صياغة القرار دون شروط.

   شعرت كما قال باحث معاصر “بانجراح في السلوك”؛ نادرا ما نسمع ان الشيطان يتعاطف مع شعوبنا العربية المسلمة؛ نادرا ما نسمع ان الانسان يتعاطف مع أخيه الانسان؛ قرأنا في الفلسفة ان أحدهم قام بعدة تجارب فلسفية أجراها على مختلف العلاقات البشرية واكتشف ان: “الانسان ذئب لأخيه الانسان”. حتى الذئب تعاطف مع الصومالية…حتى الذئب تعاطف مع الازمة العربية؛ كلنا وقعنا في ازمة؛ كلنا نبحث عن حلول وهمية عاجلة؛ كلنا لا نبحث عن حلول دائمة؛ المهم ان الازمة تفاقمت حتى أصابت العقل العربي في الصميم؛ تم في السنوات الاخيرة بأمر حكومي وبمساعدات خارجية الاذن بالتوسيع في مشافي الامراض العقلية؛ كثرت الحالات المستعصية؛ كلنا عجزنا عن حل ازمتنا داخل ازمتنا؛ الجميع ظنوا ان الحلول لا تكون الا بتمويلات اجنبية؛ لم يفكروا ان حل الازمة وسط الازمة لا يكون الا بتمويلات عاطفية داخلية؛ الجميع ربطوا تقدمنا بتقليد الغرب شكلا ومضمونا. نعم صديقي من الطبقة الوسطى أصبح لا ينام الا على موسيقى” سيلين ديون” كم تجاهلتنا الأمم المتحدة؟ كم تجاهلتنا الدول العظمى؟

قال الذئب: أنتم تجاهلتم حضارتكم العظمى؛ لكم علوم وفيزياء وطب…كم ربطتم هزائمكم بنظرية الشيطان الاكبر؟ لماذا لم نربط تلك الخسائر بما نقوم به من أفعال لا تدل الا على الشر؟ لماذا نرفض الأسباب الواقعية؟ لماذا لا نتعاون الا على الاثم والعدوان؟ لماذا نبرر عجزنا في كل قمة عربية بغياب ميثاق شرف يجمع كل الدول العربية؟؛ انا لا أتذكر اخر قمة عقدتها الجامعة العربية؛ لا اريد ان اتذكر ذلك؛ لا اريد ان اتذكر لماذا تعاطف الشيطان مع تلك الصومالية؟ لماذا أصبح القهوجي يتذكر كأنه لا يتذكر انه لم يضع السكر في قهوتي؟ لماذا لم تجد تلك الصومالية العطف الابوي في بلاد يدعي اهلها انهم من ديار الاسلام؟ لماذا عندما نعجز عن حل مشاكلنا نطلب المساعدات من الشيطان؟ هل كل الازمات سببها الشيطان؟ لماذا وافقت تلك الصومالية على الاعتراف بتلك المساعدات؟ الم تشعر بحقها في الامومة الضائعة؟ لماذا ندد الجميع بموقفها؟ لماذا لم يفكروا في مساعدتها قبل التنديد بموقفها؟ اعتدنا كثيرا ان مجلس الامن يندد دوما بجرائم الكيان الصهيوني؛ هو قادر على التنديد لكنه غير قادر على ترجمة تلك الأقوال الى أفعال ملموسة. عوى الذئب في الصحراء العربية؛ انتبه له بعض الجنود؛ فكروا في اعتقاله؛ أحدهم فكر في قتله لأنه كان يتجول في الصحراء الغربية…بعد ايام وجدت الذئب مقتولا.

   قلت في نفسي: لماذا وضع النحاة افعال القلوب وأفعال التحويل؟ الا تدل كل الأفعال فوق الارض العربية على الرجحان؟ لماذا ميز النحاة ايضا بين الجملة الفعلية والجملة الاسمية؟ هل لنا القدرة على الفعل؟ الا تناقض الرغبة في الفعل مع القدرة على الفعل؟ نحن مجرد اسماء نكرة بامتياز؛ هل قمنا بأفعال ملموسة على الارض تهدد أمن اسرائيل؟ ربما اصاب النحاة فقط حين ميزوا بين الأفعال المجردة والأفعال المزيدة؛ هل هناك افعال مجردة ونزيهة؟ هل هناك مساعدات خارجية دون فوائض؟ هل كانت نوايا الشيطان صادقة وهو يعطي تلك المرأة ما طلبت؟ الم تكن أفعاله ماكرة؟ هل أنقذت تلك الأفعال الماكرة المرأة من الجوع؟ هل ستتواصل تلك المساعدات الى الابد؟ هل يمكن ان يأتي الخير من قلب شيطان؟ كل الأفعال التي نمارسها او مارسناها مزيدة بعدة حروف؛ هي أفعال حسب الوزن والجذر والنوع لا يمكن تصنيفها؛ هي دون وزن ودون نوع ودون صيغة؛ لم يعد القهوجي يتحمل أعباء ديوننا؛ لم يعد يتحمل أعباء عواطفنا المنكسرة؛ لا يمكن ان يتحمل قهوتنا.. او ديوننا الثقيلة؛ لماذا قال أحد الفقهاء: الصومالية كافرة مرتدة؟ لماذا لم يبحث لها عن عذر شرعي؟ لماذا لم يبحث لها عن فتوى تبرر سلوكها؟ لماذا بأمر من الحاكم نبحث عن فتوى نبرر بها ما قام به ذلك الحاكم ولا نبحث بأمر من تلك المرأة عن فتوى نبرر بها ما قامت به تلك المرأة الصومالية؟ لماذا وضع السيف على رقبتها؟ لماذا لم يضع الطعام في بيتها؟، الا يحتمل موقفها عدة تأويلات؟ لماذا يهرب المواطن العربي الى المقهى حتى ينسى مشاكله؟ الا تدل كثرة المقاهي في كل الأوطان العربية على تعدد الازمات؟ لماذا ميز سيبويه بين الأفعال الصحيحة والأفعال المعتلة؛ هل كان على علم بأنه سيأتي زمن عربي دخيل لا توجد فيه الا أفعال معتلة؟ حقا لا يمكن بعد حرب الخليج تصريف الأفعال الصحيحة؛ كل الأفعال التي يقع تصريفها في مدارسنا اما من الاجوف او من الناقص؛ لم يعد هناك فعل مثال.

    رغم تلك الحقيقة مازال النادل واقفا على اطلال الفعل المثال؛ بقي” سي العربي” يبحث عن عروبته؛ هو لا ينسى ان الاسم يدل على عروبته؛ ولكنه مصر على تحقيق الفعل المثال الدال على العروبة؛ هو في نفس الحالة؛ لم يجد من يساعده في حل ازمته؛ كنت أخشى عليه ان يتأثر بذلك الفيديو التكفيري؛ كنت أخشى أن يتسلل الى قلبه ذلك الشيطان حتى يساعده في تجاوز ازمته الفكرية؛ نعم كنت أخشى عليه ان يرتد عن دينه؟ الم تكن المقاصد من نشر ذلك الفيديو التشجيع على الكفر؟ هل حقا يجب ان نقبل مساعدات حتى لو كانت من الشيطان؟

  حز في نفسي ان تلك الصومالية تحت ضغط الضرورة اطعمت صغارها من هبات تقدم بها الشيطان؛ على كل هي لم تخرج عن تلك القاعدة الشرعية؛ الضرورات تبيح المحظورات؛ على كل صديقي النادل يصوم ويصلي ويعطي الزكاة ولا يمكن ان يتسلل الى قلبه الشيطان؛ لم تكن أزمته اجتماعية بل كانت أزمة فكرية قومية؛ هو يحمل عدة مبادئ عربية يريد نشرها في عصر لم تعد فيه مبادئ تدل على مبادئ بعينها؛ حتى شعار” مقهى العروبة” المراد منه فقط نشر العروبة او التذكير بها؛ المقهى ضيق جدا لا يمكن ان يتسع الى كل المبادئ التي يؤمن بها.

   بعد ان وضع على عجل فنجان القهوة لاحظت ان يديه ترتعشان؛ عيناه لا تبصران الاشياء الا من قريب؛ كم نصحته ان يذهب الى طبيب عيون حتى يعالج بصره؛ لكنه رفض دعوتي بشدة؛ هو سعيد لأنه لا يرى الاشياء الا من بعيد؛ حالته ازدادت سوءا؛ كم ضرب من موعد لكنه لم يذهب في الموعد المحدد؟؛ كم رفض الطبيب المشهور علاجه؟ كم رفض استقباله لأنه لم يلتزم بالموعد المحدد للمعاينة؟ كم نهب منه من اموال؟ بعد تفاقم الاحساس بالأزمة الدماغية فقد الطبيب المختص في علاج العيون الأمل في شفائه من مرض الرمد الذي يصيب العيون في مثل حداثة سني؛ لم انزعج من ذلك؛ كل ما اشاهده بالعين المجردة لا يدعو الى للتفاؤل؛ الافضل ان اتبرع بعيني الى شخص يبحث عن عين؛ الافضل ان اتبرع بقلبي الى شخص يبحث عن قلب؛ لم تنفع كل المنشطات في علاجه لماذا كان يخشى النادل الذهاب الى ذلك الموعد؟ لماذا اراد ان يخالف ذلك الموعد؟ لماذا يريد ان يفقد ذاكرته؟ هو لا يريد ان يتذكر اي شيء من حوله؛ لقد صرح امام الجميع بأنه يرفض كل من حوله؛ هو يرفص ان يتذكر الانظمة العربية؛ كما يرفض ان يتذكر سقوط بغداد؛ هو رجل قومي؛ يرفض الهزائم العربية؛ يعيش على انتصارات وهمية لا وجود لها الا في خياله العربي القومي؛ انتصارات لم يحققها العقل العربي في الواقع العربي؛ حيرني امر ذلك النادل يفسر مرضه او فقدان ذاكرته بتعدد الازمات العربية؛ كم مرة قال: تفشي المرض في جسمي يرتبط بتفشي عدة أزمات أصابت الانظمة العربية

بمرور الوقت تدهورت حالته الصحية؛ بدا يرتكب عدة اخطاء تتعلق بفقدان الذاكرة الى عدة ايام؛ لكنه خلال تلك الايام يتذكر احيانا احداثا مصيرية مثل معارك مصيرية خضناها لكنها الى اليوم مازالت مثيرة للجدل؛ مثيرة للمشاعر بعد أكثر من انتكاسة؛ لم ينس العقل العربي خيباته المتلاحقة؛ لم ينس الجندي العربي الجرحى والقتلى من الفدائيين في الميدان؟ كم مات من جندي او قل كم مات من حب او قل كم مات من جيل او قل كم مات من ضمير وراء ضمير عربي؟ السنا بحاجة الى أكثر من حب؟ السنا بحاجة الى أكثر من ضمير؟؛ كم من احداث وقعت على الارض العربية لسنا بحاجة الى تذكرها؟ ما جدوى ان نتذكر هزائمنا؟ اليس الافضل ان ننساها؟ اليس الافضل ان ندفن موتانا؟ اليس الافضل ان ندفن هزائمنا المتكررة؟ من صنع تلك المقابر الجماعية؟ كم ارتكبت الانظمة الديمقراطية باسم الدفاع عن الديمقراطية من مجازر؟ . حتى القهوة الساخنة دون سكر لا تقتل عذاب الضمير؛ لا تقتل عذاب الحب

حاول النادل في فناء مقهى ” العروبة” ان يتذكر دينه ولغته وعروبته؛ لكنه فشل أكثر من مرة؛ لقد وجد صعوبة كبيرة في النطق وهو يفكر انه مازال يفكر؛ هو مقتنع انه لم يعد يفكر؛ مات الفكر؛ لقد فقد المفكر المنتمي الى العروبة كل احساس بالعروبة؛ صارت هناك أزمات فكرية؛ المفكر اللامنتمي فاقد الأمل في تحقيق ذلك الانتماء؛ كم اختزل النادل على بساطة تفكيره الازمة في المفكر؟ كم برر ان تلك القهوة التي كان يقدمها الى الزبائن دون سكر لم تكن هفوة من هفوات السكر او هفوة من هفوات الذاكرة التي تلاشت بتلاشي عدة أنظمة فشلت في إرسال دولة الحريات؛ بعض الهفوات في حياتنا مقصودة؛ بعض الفواتير التي ندفعها متذمرين مقصودة؛ حقا بعض الصدف في حياتي جميلة؛ ولكنها نادرة جدا في أوطان نادرة جدا؛ احيانا اقبل عذره؛ ولكن لا اقبل اعتذاره؛ واحيانا انزعج لأنه لم يفكر في إصلاح اخطائه؛ لم تكن الاخطاء معرفية بل كانت تقنية؛ كم مرة قال لي: الانظمة العربية لا تعترف بأخطائها فكيف تطالبني انا بان اعترف بخطأ لم ارتكبه؟ انا وضعت السكر المطلوب في الفنجان المطلوب؛ لكن قوة الازمة داخل الازمة التي عاشها المواطن العربي في أكثر من بلاد عربية قد جعلته دون ان يشعر يفقد الاحساس بالتوازن بين كمية البن وكمية السكر؛ الا ترى ان نسبة المصابين بالمرض السكري في ارتفاع؟ الا يدل ذلك على ارتفاع نسبة الوعي بالأزمة؟ انخفاض معدل السكر في الدم او ارتفاعه هو في كل الحالات مرض خطير افرزته الخسائر العربية المتلاحقة؛ انا في اقصى الحالات مهدد بالإصابة بجلطة دماغية؛ سواء كانت كمية السكر في قهوتي منخفضة ام مرتفعة؛ ارجوك دعني اشرب قهوتي؛ ارجوك دعني اتجرع مرارتي؛ دعني افقد ذاكرتي؛ ارجوك دع ذاكرتي تتخلى عن ذاكرتي؛ دع حبي يتخلى عن حبي؛ دع عمري يتخلى عن عمري؛ انا في اقصى الحالات مهدد بأزمة نفسية؛ لم اعد اقبل الافكار الانفصالية؛ لم اعد اقبل ان المفكر العربي لا يهمه حين يكتب الا ان يبيع ضميره القومي؛ كل الكتب تنقد الضمير العربي الذي مات؛ كل الكتب تنقد الحب العربي؛ الكاتب تخلى عن حبه والمفكر تخلى عن قضيته والفنان اعتزل الغناء والرسام لم يجد لوحته؛ لم يعد هناك ما يرسم.

    هو كاتب خلقته الازمات؛ هو يتاجر بتلك الازمات؛ يستغل عواطفنا القومية حتى يحقق مكاسب قومية كبيرة من وراء رفع تلك الشعارات الكبيرة؛ هو لا يؤمن بالأفكار في غياب الافكار؛ هو لا يؤمن بالحب في غياب الحب؛ هو من روج مقولة ” اتفق العرب على ان لا يتفقوا” من باع القضية؟ من اشترى القضية؟

   اشعر ايها الطبيب أنى بحاجة الى دواء منوم عند اشتعال أزمات لا معنى لها بين دول عربية يجمعهم حب واحد او مصير واحد؛ الم تكن الام التي أعطتنا الحب واحدة؟ لماذا يتقاتل ابناؤها؟ بعض الامراض مستعصية يصعب علاجها؛ لا توهمني ان تلك الحبوب فيها علاج فوري او علاج سحري؛ قد أجد علاجا لمرضي عند أحد المشعوذين او السحرة؛ كم تعافى من مريض بسبب السحر؛ من سحر هؤلاء الاخوة؟ من خلق تلك الازمات الفكرية الخانقة؟ لماذا لم يكتشفوا لها دواء؟ لماذا تفننوا في صناعة كل الاسلحة ولم يتفننوا في صناعة كل الادوية؟ انا اعاني أكثر من أزمة فكرية؛ لم تعد تهمني الازمة العاطفية؛ انا جزء من تلك الانظمة التي نخر المرض جسمها.

  صديقي النادل وقع في نفس الخطأ عدة مرات؛ كم وقع في نفس الاخطاء اللغوية؟ كم نصحته بأن يراجع دروس في الرسم والاملاء والكتابة والقراءة؟ لا تقرأ كل شيء؛ لا تكتب كل شيء؛ لا ترسم كل ما تحب؛ كم رفض نصيحتي؟ كم سامحته على الوقوع في تلك الاخطاء عدة مرات؛ ولكنه مازال يتمادى؛ هو يملك قدرة خارقة على التعبير لكنه لا يستطيع أن يعبر بحرية؛ هو فاقد معنى الحرية وفاقد الشيء لا يعطيه؛ كأنه يتخيل عقوبات اقتصادية مجحفة وقوية إذا أصر على التعبير او تمادى في التفكير؛ لم أعرف لماذا يصر ذلك النادل على الغناء؟ هو يحمل على قسمات وجهه الاسمر تفاصيل أكثر من ابتسامة وسط ابتسامة غامضة؛ هو يضحك امام كل الوجوه؛ هو واسع الصدر يقبل كل الشتائم والاهانات؛ هو متفاعل مع تلك الدول العربية التي اعتادت على تحمل الازمات او الاهانات؛ يبدو أن النادل وقد رفع صوته بالغناء لم يجد مهربا من الازمة الا بالرقص والغناء

   هو امام اعترافه بالأزمة القومية المتفاقمة أصبح مهدد بالإصابة بعدة أزمات قلبية؛ هو لم ينجح في اقناعي بجدوى المشروع القومي؛ هو لم ينجح حتى في الحب؛ الجميع فقدوا الذاكرة لان الحب لا يدل على الحب؛ لم يجد كل من جلس في مقهى العروبة القيم العربية الاصيلة؛ الجميع يئسوا من العلاج؛ ولذلك هو يصر على توزيع القهوة دون سكر؛ تكمن الازمة في ارتفاع أسعار السكر؛ الجميع فكروا في الانتحار؛ احدهم انتحر والاخر فكر ان ينتحر؛ اخر الاحصائيات التي نشرتها إحدى المجلات تشير الى ارتفاع نسبة الانتحار في صفوف الجنود من العرب؛ لقد ارتفع عدد الجنود الذين رفضوا الالتحاق بالجبهة؛ رفض الاوامر العسكرية عقوبته الاعدام؛ الجميع خيروا الإعدام رميا بالرصاص على ان يقتل عربي أخاه العربي؛ الجميع مقتنعون بأن العدو المستهدف من الحروب هو إبادة الجنس العربي؛ غير بعيد رأيت شخصا يضحك دون سبب والاخر ينفعل دون سبب والاخر بدوره يتكلم مع نفسه او بينه وبين نفسه؛ اما القهوجي وهو من أنصار العروبة فقد اختار ان يضحك من تلك الازمة وراء الازمة.

     هو يتعمد دائما ان يعطيني قهوة وراء قهوة اخرى تجعلني اشعر بالمرارة؛ أحدهم من طبقة العمال قاطعني قائلا: الا تكفي مرارة العيش؟ الا يكفي ان الرجل العربي خسر كل المعارك؛ خسر المعركة ضد المرأة العربية التي اعطاها القانون كل الحقوق؛ أخذوا بيتي؛ أخذوا اطفالي؛ أخذوا سعادتي؛ الزوجة…. الآن تتمتع بغرامة قوية مع راتب شهري يغري بتحقيق السعادة؛ ومرة سالت كبار المحامين العرب: بم يتمتع الرجل عند الطلاق؟ لماذا لا تعطيه الدولة راتبا تقاعديا؟ الم تعد القضية اليوم هي قضية الرجل الذي انتزعت منه المرأة باسم الامومة كل الحقوق؛ هو الآن دون حقوق؛ لم يجد من يدافع عن حقوقه المظلومة.

  أحدهم لا اعرف اسمه؛ لم أتذكر اسمه؛ ضحك في وجهي قال: كل الانظمة العربية اخذت حقها في التقاعد؛ كل القوانين بحاجة الى قوانين اخرى؛ تبا لقانون لا يحترم حق الرجل؛ اما الاخر وقد اقتربت من ان أتذكر اسمه ولكن في آخر لحظة بعد ان صافحته؛ تجنبت ان اذكر اسمه حتى لا اشعر امامه بالهزيمة؛ قال: انا افتخر أنى اعيش في دولة القانون والحريات؛ انا اتمتع بالحرية؛ القانون يحمي الحرية؛ الحرية لها ثمن؛ لا بد من تضحيات؛ لا بد من شهداء؛ لا بد من الدماء؟ قاطعته قائلا: هل صحيح حققت حريتك وانت تكتب بخط غليظ على تلك اللافتة حريتي…حريتي؟ أين حريتك المزعومة؟ أين القانون الذي يضمن لك حريتك؟ لا تبالغ كثيرا في الوصف وانت تسير بكل حرية في شارع فلسطين؛ هل دخلت فلسطين او اي دولة عربية اخرى دون جواز سفر يحمل الختم الاحمر؟ الا تكفي الهزائم العربية المتلاحقة من المحيط الى الخليج؟ الا يكفي ان الصحراء العربية اصبحت دون أسد يحميها؟ لماذا عاقب القانون الدولي أسد الصحراء؟ لماذا أطلقوا على معاركهم عاصفة الصحراء؟ لماذا تعمدوا ان يتركوا الصحراء العربية دون أسد عربي يدافع عن البشر والشجر والحجر؟

  وقد كرهت ذلك القانون الدولي لأنه مسلط علينا نحن الضعفاء فقط؟ وقد كرهت ايضا تلك الشعارات الزائفة؛ هم يخوضون الحروب باسم نشر الحريات؛ اين الحريات في اوطاننا؛ حتى الحيوانات فقدت حريتها في المرعى؛ لماذا حددت القوى العظمى عدوها بدقة؟ لماذا قتلوا من رفض شعاراتهم؟ هل حقا هم يدافعون عن حقوق الانسان؟ لماذا لم يطلقوا الأسرى بعد انتهاء العمليات العسكرية؟ الم يعدموا الأسير في يوم العيد؟؛ الم يقل المتنبي ” عيد بأية حال عدت يا عيد”؟ الا يعلمنا الاسد الشجاعة؟ الا يعلمنا الثعلب الخيانة؟ استفزتني القهوة كثيرا جعلتني أتذكر عدة خيبات عاشها العرب بعد سقوط الاندلس؛ تذكرت ان الزعيم العربي صدام حسين المجيد عندما ذهب في زيارة رسمية الى اسبانيا أين دارت اخر الفتوحات الاسلامية؛ طلب من ملك اسبانيا ان يرفع الاذان في مدينة غرناطة؛ نعم أصر ان يخترق الصوت المزلزل ذلك التراب الذي استقبل بكاء الارامل؛ اراد اي يضمد بعض جراحهن؛ اراد ان يتخيل حتى ولو للحظات انه استعاد ذلك المجد القديم؛ اراد ان يذكرهم بأن تلك الارض هي عربية؛ اراد ان يذكرهم بأن تلك القصور القديمة كان يسكنها مجد عربي؛ شعرت بالنخوة وانا اسمع ذلك الاذان يخترق تلك القصور النائمة؛

  وقد كرهت تلك القهوة لان مرارتها ظلت عالقة في لساني اخترقت كالرصاص قلبي؛ اعترف لكم انا الآن دون قلب أبحث عن قلب يصلح الى الحياة؛ انا الان دون عقل أبحث عن عقل قادر على التفكير؛ لم اعد أستطيع فراق تلك القصور العربية. من يأتي معي حتى نحررها؟ من يأتي معي حتى يشرب قهوة في اسرائيل؟

    شعرت ان النادل ايضا يعيش في مرارة؛ ها هو يتنهد؛ اه…اه.. تنفس الصعداء؛ لم يتذكر من حوله؛ وضع فنجان القهوة؛ نسي طابع السكر…نسي طابع الحب؛ نسي الحب نفسه؛ هو صاحب مبدأ لا يعطي السكر مع القهوة؛ لابد ان تذهب بمفردك الى “الكنتوار” كي تأخذ ما بدا لك او ما لم يبدو لك من السكر او من الحب او من الحرية؛ احسست فعلا بعد عدة تجارب انه يتعمد ان يعطي القهوة دون سكر؛ او دون حب كأنه يبحث عن الحب؛ لم ينتبه زوار المقهى الى السبب الحقيقي الذي يدفع بذلك النادل الى ان يعطيهم قهوة الصباح دون سكر؟ لم يحتج عليه اي احد؛ كأن الجميع اعتادوا على تلك المرارة؛ كأن الجميع فقدوا الأمل في استعادة الكرامة العربية؛ كأن الجميع ارادوا الرجوع إلى غرناطة؛ كأن الجميع ارادوا ان يذهبوا الى اسرائيل؛ نعم ارادوا ان يترشفوا قهوة في ام الربيع؛ الجميع ارادوا استعادة الكرامة العربية؛ لم يعد هناك بطل يحتج على سقوط غرناطة؛ لم يعد هناك بطل من يحتج على سقوط بغداد؛ انقسم العرب الى نصفين رأي يؤيد الاجتياح الامريكي للعراق حتى يشعر العربي بالحرية؛ لم تعد المعارضة المزعومة تتحمل غياب الديمقراطية؛ وراي اخر يرفض الغزو الامريكي؛ يرفض اغتصاب الانثى العربية؛ يرفض الاعتداء على القصر الجمهوري؛ سمعت احد رواد المقهى يستنكر بشدة ما يحدث في ارضنا العربية؛ مزق الجريدة المنحازة الى الغزو الأجنبي؛ رفع شعار” يسقط الاحتلال” شربت القهوة دفعة واحدة؛ شربت المرارة دفعة واحدة؛ تخليت اني اشرب القهوة العربي في فلسطين وادخن السيجارة في اسرائيل؛ تذكرت ان علبة السجائر كتب عليها بخط غليظ “ممنوع التدخين…التدخين مضر بالصحة” لم استطع الاستغناء عن السيجارة؛ لم استطع الاستغناء القهوة؛ لم استطع الاستغناء عن حقي في استرجاع الارض العربية او الحق العربي؛ صرت مدمنا على تدخين تلك السيجارة؛ صرت مدمنا على تناول القهوة؛ كلاهما يذكرني بالحق العربي المغتصب.

   تعاظم دخان سيجارتي؛ تعاظم احساسي بالأزمة؛ نظرت الى ساعتي شعرت بأن الوقت ضاع؛ شعرت بأن الازمة ضاعت تعاظم احساسي بالقدرة على الغناء؛ تعاظم احساسي بالقدرة على رفع السلاح وحدي عن فكرة ان اترشف القهوة مع سيجارة حجبت عني عدة مقالات غارقة في تمجيد البطولات الرياضية كل الجرائد حافلة بأخبار التصفيات الرياضية بين الاندية؛ لم أجد مقالات تمجد البطولات العربية القديمة.

    قبل ان اغير طريقة جلوسي على المقعد همس صديق في اذني؛ قال: اشرب قهوتك في اسرائيل؛ صار طعم القهوة مثل طعم الاحتلال الاسرائيلي للأراضي العربية؛ هي قهوة مرة كالعلقم؛ فكرت ان اكسر الفنجان؛ لم أفكر كيف استعيد ارضي؟ لم أفكر كيف استعيد كرامتي؟ وقفت حانقا شاتما الشعارات الفضفاضة التي ترفعها بعض القنوات المأجورة؛ ودون ان اشعر سقط فنجان قهوتي ارضا؛ سقط كما يسقط اخر جندي يرفض الاستسلام؛ كان الفنجان الفارغ وقد انكسر على الارض يذكرني بأن قضيتي تعود الى الارض المحتلة؛ تركت بقايا القهوة وقد لطخت قميصي خريطة غير واضحة الحدود لكنها ترسم ما بقي من حدود؛ لم ارفض تلك الخريطة رغم انها تتضمن حدودا وهمية؛ حز في نفسي ان الفنجان رسم على الارض حدوده؛ لكن نحن العرب من السكان الاصليين؛ بعد دهر؛ لم نحرر ارضنا؛ اعطيناهم بغداد؛ اعطيناهم لغتنا؛ اعطيناهم الخلاف النحوي بين البصرة والكوفة؛ اعطيناهم قصورنا؛ اعطيناهم غرف النوم؛ وقاعات الجلوس؛ احتلوا حتى قاعات الاستقبال؛ اعطيناهم حضارة عريقة تعود الى آلاف السنين؛ وعدوا بغداد بالحرية لكنهم سلبوا منا تلك الحرية؛ لم يكن الحجاج بن يوسف راضيا عن أهل العراق حين قال في خطبته الشهيرة” يا أهل العراق يا أهل الكفر والنفاق” كانه تنبأ بما سيقع في قادم الأيام؛ حقا نحن من وضع الاسد الذي كان يحمي أسوار بغداد في قفص كبير؛ نحن من نفذ حكم الاعدام؛ نحن من اعدمنا زعيما عربيا قال : لا

 أحد العراقيين وهو من رموز المعارضة اعترف بأن في صوت المهيب الركن صدام حسين قوة كهربائية خارقة؛ الان فقدت العراق كل اعمدة الكهرباء هي تنام في ظلام وتستيقظ على الظلام؛ الم تكن تلك لعنة؟ الم تكن تلك خيبة أكبر خيبة؟ الم تكن تلك هزيمة أكبر هزيمة؟ في فناء المقهى رأيت العم سعيد يعرض عدة صور تذكارية للزعيم او المهيب الركن صدام حسين؛ هو لا يعترف بسقوط بغداد؛ كم مرة قال واثقا من نفسه: سيعود صدام ذات يوم؛ اما الاخر فقد قال ساخرا: سيعود الفرس ذات يوم؛ سيعود المحتل ذات يوم؛ سألني القهواجي كم تحتاج من الوقت حتى تعود الى بيتك؟ كم تحتاج من الوقت حتى تستسلم الى النوم؟ كم تحتاج من الوقت حتى تنظف ملابسك وقد تلطخت بالقهوة؛ ضحكت في وجهه؛ انا دون بيت؛ انا دون حب عربي؛ اما عن قميصي سأتركه الى الذ كرى هو يحمل خريطة حزني؛ أحد المتعاطفين مع قضيتي القومية سألني: كم تحتاج من الوقت حتى تستعيد بيتك؟ كم نحتاج من الوقت حتى تستعيد ارضك؟ ضحك أحد الحاقدين وهو ينتمي الى المعارضة او هكذا يرى نفسه قال ساخرا من امنياتي: كم تحتاج من الوقت حتى يستسلم جنودك؟ تذكرت ان عمر المختار في غرب ليبيا رفض مقايضة الجنرال الايطالي؛ نعم لقد رفض ان يعطي الاوامر الى جنوده بوقف الهجمات على الطليان مقابل راتب شهري يصرف  له بعنوان منحة التقاعد عن الجهاد ضد ايطاليا؛ لم يستسلم امام الجنرال؛ قال له : لا تعلن للعالم وانا اقف اسيرا بين يديك ان عمر المختار تخلى عن قضية ليبيا؛ احترم الجنرال موقفه؛ ثم امر بأن يعدم امام شعبه؛ سالت نفسي : لماذا تخلى العرب عن كرامتهم؟ لماذا تخلوا عن ثرواتهم؟ لماذا تركوا ابواب بيوتهم مفتوحة؟ لماذا تخلوا عن امجادهم؟ لماذا لم يدافعوا عن بغداد الحبيبة؟ لماذا رفضوا ان يضربوا اسرائيل بصواريخهم؟ لماذا تضامنوا مع اسرائيل؟ لماذا أصبحنا لا نعرف عدونا؟ لماذا أصبحنا نعادي أنفسنا؟ لماذا خسرنا الحرب الاخيرة؟ لماذا تجرأ ذلك الزعيم العربي وضرب اسرائيل؟ لماذا لم يخف من التحالف الدولي؟ الم يكن قصف اسرائيل تحولا تاريخيا؟ لماذا لم نستوعب الدرس؟ لماذا ننتظر من الاخر ان يعطينا حريتنا؟ لماذا نطلب من الاخر ان يحرر ارضنا؟ الم يكن الاخر الذي استنجدنا به في معاركنا هو من اغتصب ارضنا ونساءنا؟ لماذا انقسمنا الى جزأين حين ضرب العراق اسرائيل بتسع وثلاثين صاروخا؟ لماذا نهتم بالجزء ولا نهتم بالكل؟ لماذا يتفنن الاعلام العربي في إظهار هزائمنا؟ كل البرامج والمنابر في التلفزيون العربي تعرض على الهواء معاركنا مع بعضنا البعض؛ أحد المستجوبين في الشارع العربي بعد هزيمة العراق قال: انا عربي لكن لا اشعر أنى عربي؛ والاخر قال بحماس كبير: انا لا أتذكر أنى عربي؛ لقد تخليت عن عروبتي؛ نحن أعداء أنفسنا؛ نحن أعداء الحرية فقدنا الحرية؛ لماذا لا تفتح الدول العربية حدودها على بعضها البعض؟ لماذا نملك دينا واحدا ولا نملك جيشا عربيا واحدا؟ لماذا نملك لغة واحدة ولا نملك كاتبا واحدا؟ لماذا يتخيل كل كاتب انه أفضل كاتب؟ لماذا اختلف الكتاب؟ لماذا منعوا من حقهم في الكتابة؟ لماذا هناك مواضيع ممنوعة؟ لماذا هناك خط أحمر لا يجب ان تتجاوزه؟ لماذا حددوا لنا موضوع الكتابة؟؛ لماذا نصفق وراء تلك البطولات الرياضية؟ الم تكن بطولات زائفة؟ لقد سئمت كل المباريات الرياضية؛ سئمت كل الخسائر؛ سئمت حتى القصص الغرامية؛ سئمت قصص الحب؛ لا يوجد حب؛ لا يوجد ماء؛ لا يوجد نفط؛ لا يوجد غذاء؛ لا يوجد حليب؛ لا توجد قهوة بنكهة عربية؛ من هو العدو الحقيقي في معركتنا؟ من هو الذي هزمنا في معاركنا؟ لماذا نخاف من أنفسنا ولا نخاف على أنفسنا؟ أليست الارض ارضنا؟ أليست السماء سماؤنا؟ أليس القميص قميصي؟ أليس توزيع القهوة دون سكر قرار خارج اختياري حدد بعد ذلك اختياري؛ اريد ان اشرب قهوة في اسرائيل.    

بنقردان- جنوب تونس.

مقالات ذات علاقة

“مصرية في بلاد الأفغان” عن ملامح شعب وأخلاق أمة

المشرف العام

“مكتبة كتارا للرواية العربية”: عشرة آلاف عنوان

المشرف العام

في تأمّل تجربة الكتابة

فراس حج محمد (فلسطين)

اترك تعليق