قصة

صورة لعِظام بالية

من أعمال التشكيلي عادل الفورتية
من أعمال التشكيلي عادل الفورتية

أنا موسيقار وشاعر، ظننت أنني من أحفاد أوائل المريخيين الذين هاجروا إلى هنا، لكن قبل أن أُفَسِّر لك سبب ظني دعني أقول نعم المسافة بيننا والأرض بعيدة جداً، لذا لم يكن هناك عاقل يقبل أن يتَحَمّل تكاليف هذه المسافة طالما تفوق بأضعاف تكاليف استثمار موارد وطننا الغنية، لكنه ليس بعيد جداً من المريخ، لذا كان منطقياً أن يقوم بهذه المغامرة مهاجرين من المريخ، خصوصاً بعد اكتسابهم للخبرة اللازمة لتدبر معيشتهم في مكان مختلف كثيراً عن نعيم الأرض.. كالمريخ.

لم أخبرك حتى الآن بوطني صح؟ نعم لأن الجميع كانوا ينصدمون حينما يعرفون لأول مرة أنه أحد عشرات الأقمار التي تدور حول كوكبنا الأم أورانوس! سابع الكواكب بُعداً عن شمسنا، ذلك العملاق الغازي السماوي عديم الرائحة،[1] أي أننا هنا كجارنا كوكب زُحَل،[2] أشبه ما نكون بمجموعة شمسية مستقلة، حيث يتوفر في أقمارنا ما نحتاجه من خامات صناعية، إضافة إلى “كنز” سماء كوكبنا الأم أورانوس طبعاً! حيث أنها – لمن وصل متأخراً – تُمطِر ألماس[3]!! نعم قطع صغيرة جداً طبيعية منه، جَنيْنا من وراء صيدها وبيعها ثروات هائلة!

غير أننا بالطبع أكثر شاعرية من جيراننا سكان أقمار زُحَل! إذ أن أسماء أقمارنا كلها مأخوذة من أسماء شخصيات مؤلفات الشاعر والكاتب والممثل المسرحي الأرضي الشهير ويليام شكسبير (1564-1616) والشاعر الأرضي الآخر الأقل شُهرة ألكسندر بوب (1688-1744) الذي اشتُهِر بترجمته لأعمال هوميروس.[4]

أنا أسكن القمر تيتانيا Titania، أكبر أقمار كوكب أورانوس، وثامن أكبر أقمار مجموعتنا الشمسية الأم، ومع أنه صغير (أصغر حتى من قمر أرضنا الأم) إلا أنني تعلمت وتخرَّجت فيه، وأعمل حالياً فيه أستاذ وباحث في “مركز شكسبير للبحوث الموسيقية“، حيث تملأ أغنية “آمال عالية” High Hopes لفرقة بينك فلويد Pink Floyd الأرضية أصداء المكان الآن! ولا تستغرب ازدهار الموسيقى هنا لأنه بالفعل عالم جاذب رغم صغره! حتى أنني أشعر بسعادة غامرة حينما ينوه أحدهم إلى أنني قد أكون حفيد بعيد يحمل مورثات أحد أعضاء هذه الفرقة!   

أما سر جاذبية تيتانيا – خصوصاً لدى المستوطنين الأوائل – فهو أن نصفه ماء مُجَلَّد ونصفه الآخر صخور ذات مواد عضوية غنية بالكربون، إن حياتنا على الأرض تُسمى بالحياة الكربونية، فإذا أضفنا إلى الكربون الماء في أي مكان من هذا الكون فهذا يعني حياة بشرية مؤكدة، ألم يقل بعض أجدادنا إن خالق كوننا قد جعل من الماء كل شيء حي؟ نعم ليس لحد ذاته فحسب بل لأنه إذا توفر الماء .. سيتوفر الأكسجين كذلك، بمجرد نزع ذرات غاز الهيدروجين منه! ولا يعني أننا نرمي غاز الهيدروجين جانباً، إذ أنه وقود دفع ممتاز لمركباتنا بأنواعها، المحلية والمدارية، وكأن هذه الميزات المغرية لا تكفي .. يتميز قمرنا بجاذبية وجو كذلك .. وإن كانا ضعيفيْن، كما أن غاز الكربون ثنائي الأكسيد[5] الضروري للنباتات يتوفر في جونا مثلما هو في جو المريخ،[6] حيث يمكننا الحصول على أكسجين أكثر منه بمجرد نزع ذرات الكربون منه، لنستثمر الكربون في مصانعنا ومزارعنا بسعادة، ولهذا أيضا كان أوائل سكان وطننا المريخيين، إذ أنهم أكثر الفضائيين خبرة في استثمار الكربون ثنائي الأكسيد لإدامة الحياة.

كما أنه نظراً لصغر حجم قمرنا كانت كُلفة استصلاحه منخفضة بشكل مغري، إذ أن مساحة سطح قارة أستراليا في أرضنا الأم تعادل 98% من مساحة سطحه،[7] فمحطة كهرباء نووية واحدة تكفي لتزويدنا بما نحتاجه من كهرباء للإضاءة والتدفئة ولمزارعنا المغلقة، حتى أنه كانت هناك فكرة في بداية استيطانه أن نجعل نصفه المُعَرَّض للشمس طوال 42 سنة متواصلة[8] مَحمية طبيعية تتغذى بالطاقة الكهربية الشمسية، لكننا نعرف أنه عادة ما تكون للتجار والتجارة صوت أعلى من حُماة البيئة للأسف!

مع ذلك مازال قمرنا شاعري بالمعنى الحرفي للكلمة! فقد سُمِّي على تيتانيا ملكة الجِنِّيات[9] Faeries في مسرحية “حُلم ليلة منتصف الصيف” A Midsummer Night’s Dream  الشكسبيرية، كما أن أسماء جميع معالمه مُشتقة من مسرحيات أخرى لوليم شكسبير![10] (هل لهذا صرت شاعراً وموسيقار؟)

نعم المريخ أقرب إلينا من الأرض، غير أن سرعة الاتصالات تبقى بطيئة بمعايير العصر حتى ولو كانت بسرعة الضوء، مما جعلنا نعتبر هذا البطء مع مرور الأيام سبب انفصالنا اجتماعياً وتاريخيا عن المريخ، ناهيك طبعاً عن أُمنا الأرض، حتى صرنا بالفعل أشبه بكون آخر بعيد عن الآخرين.

لكن استغرابنا الوحيد تقريباً كان من شبابنا الدائم! حتى أنه لا توجد مستشفيات على قمرنا! تصوروا!! وقد فَسَّرنا هذا الشباب فيما بعد على أن هناك سِحر جميل ما في جو هذا القمر يتجاوز القوانين العلمية التي عرفناها! حتى أننا كتمنا هذه الظاهرة بيننا مثل أي سِر دفين لا نريد غيرنا أن يعرفه … فيحسدنا عليه!

ثم جاءنا مهاجر جديد أفسد علينا هدوءنا وسعادتنا! واثبت أن السحر لا يعيش إلا في الأساطير، فقد ظل يقول إننا نعيش مؤامرة كبيرة من أهل المريخ، وأننا عبيد لهم، نوفر لهم حاجاتهم بدلاً عنهم، ونجازف بالعمل في مناجم الخامات هنا فنموت بدلاً منهم! وحينما نسأله بمرح عن أدلتك يجيب بأنه لا يستطيع أن يقدمها لنا في الوقت الحالي!

كنا نستغرب هذا القول لأننا نعيش أحرار، ونتاجر مع جيراننا أهل أقمار زُحل والمريخ بحرية، نعم لم نكن نراهم إلا عبر وكلاءهم والدوائر المغلقة، لذا لم نشعر بالخدعة التي كان يحاول إقناعنا أننا نعيشها، وتبقى مسألة شبابنا الدائم سداً منيعاً يقف أمام مصداقية ما يقوله هذا المهاجر الجديد بشأن استنزاف المريخيين لصحتنا لحسابهم!

ثم صَدَمنا يوماً في عمق نفوسنا وبلا أي موعد! فقد طلب في أحد الأيام حضور مجموعة من الصحفيين إلى بيته ليعترف أمامهم قبل غيابه الوشيك عن هذه الحياة، وحينما تحلَّقوا حول سريره كنصف دائرة بينما كان راقد فيه رقدته الأخيرة أخبرهم وهو يلهث بأنه مجرد تاجر انتهازي استنسخ خلسة عدة وثائق من هيئة السجل المدني المريخية، مازال يحتفظ بها في مكان آمن من بيته، يأمل – حتى وهو يعترف اعترافه الأخير – أن يبيعها لنا بثمن باهظ! كان يعزف على وتر الفضول الإنساني الذي صاحب البشر على مر التاريخ، حيث قال إن هذه الوثائق تثبت أننا في أغلبنا لم نكن طوال الوقت سوى …………………….. نُسخ بشرية! لرجال أعمال وعمالة بشرية مريخية!! نعمل بدلاً منهم هنا، فيكسبون هم إذا كسبنا، ولا يخسرون شيء إن خسرنا نحن صحتنا أو استثماراتنا، كانوا يعدمون نسخهم – نحن!- بشكل ذاتي سري قبل حتى أن تظهر عليها –علينا!- أعراض أمراض المناجم والإشعاع الكوني هنا، لكنهم لا يقولون إنه إعدام وإنما تقاعد مبكر، في مكان حالم بعيد عنا، مكافأة التفوق في أعمالنا! هذا ما قاله ذلك الانتهازي الغريب قبل أن يلفظ روحه بدقائق!

كانت الصدمة مُريعة نفسياً واجتماعياً حينما أدركنا أن هذا هو سر شبابنا الدائم! فقد كنا مجرد نسخ لا تعيش أكثر من 5 سنوات! علموا أن تدهور أجسادنا صحياً يبدأ بعد 5 سنوات فهندسوا نسخ تموت في خلال 5 سنوات! لتحل نسخ أخرى في أماكننا وحياتنا وأعمالنا بذات ذواكرنا، في سرية تامة وفي غفلة أكبر منا، دون أن يدرك وعينا الفارق، ولهذا كنا نشعر بشباب دائم!

فيما بعد، وصلت الشرطة إلى هذه الوثائق المخبوءة في مكان ضيق من بيت هذا الغريب، وبعد أن شنَّت وسائل الإعلام حملة أخبار مكثفة متواصلة عنها أنكرت الغالبية صحتها قائلين كيف نصدق تاجر إنتهازي غريب عنا؟ لكن بعد أن أثبتت محاكمنا صحتها فكَّر الكثيرون منا في القيام بثورة ضد المريخيين لهذه الإهانة الإنسانية الكبيرة التي لحقت بنا، غير أن بعض عقلاءنا تساءل ما الفائدة من ذلك ونحن لا يمكننا العيْش أكثر مما صنعونا لأجله؟ يكفي أن يتوقفوا عن إرسال نسخ جديدة ليقضوا على أي تمرد عندنا، وستكون نسبة نجاح القضاء عليه 100%! نعم لقد أتقنوا سياستهم هنا بما يتجاوز فهم ميكافيلي![11]

لذا انشغلنا بمعركة حقوقية قصيرة الأمد، أردنا بها ظاهرياً الحفاظ على حقوقنا كبشر بغض النظر عن كوننا نسخ سرعان ما سيتم استبدالنا (أو لن يتم!) لكنها كانت أشبه برد فعل ذاتي، أو لنقل انتقام دفين تجاه هذه الخدعة التي عشناها طوال قرون أكثر منها مطالب حقوقية لا طائل من ورائها.

أما مفاجأة المفاجآت فهي تخصني، فبعض وثائق ذلك المهاجر الانتهازي أثبتت لي أنني مجرد نسخة لجثة … كانت مُجَمَّدة … في أحد متاحفنا! جُثة ماتت منذ مئات آلاف السنين وأراد صاحب هذه المؤامرة الاستفادة من إعادة إحياء مورثاتها القوية بعد أن انقرضت من أجساد الأجيال اللاحقة!! أي أنني لم أكن فقط غير نفسي، بل فاقِد لزماني وهويتي واسمي ومكانتي الاجتماعية كذلك!!

صِرت بين يوم ويوم مجرد نكرة تاريخية!! وتجربة مخبرية مجهولة!! كيف يمكنني الآن المطالبة بحقوقي وأنا مُجرد صدى لماضي مجهول تماماً انتهى دون أن أعيشه؟ كيف يمكنني الإبقاء على توازني النفسي بعد أن اكتشفت أنني مُجرد صورة لعظام بالية، من زمان عتيق لم أعشه ولا أدري عنه شيئا؟ المشكلة هي أنني لست من سلالة هؤلاء المريخيين المجهولين الذين يعج بهم الوطن كما قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى، لست ابن أحدهم ولا حفيدهم كذلك، بل مجرد نسخة بشرية عتيقة جداً قُذفت إلى تيتانيا، صنعها مريخي أو أرضي لا أعرفه، من بقايا مورثات أرضية عتيقة، أخرجها من عظام مُتحفية لا نعرف عنها أي شيء! هل عرفت الآن لماذا “كنت” أظن – بصيغة الماضي – أنني من أصل مريخي؟

يا لها من ضريبة نفسية باهظة تدفعها يومياً حينما لا تملك حقيقة ذاتك! ويا لها من حياة مترفة تلك التي يظنون أن فضائيي تيتانيا قد صنعوها!

15-18/11/2017


فازت بالترتيب الأول في مسابقة “الفضائيون” التي نظمتها “الجمعية المصرية لأدب الخيال العلمي” في الفترة من شهر 7 إلى أول شهر 10 سنة 2021

[1]) حقائق علمية.

[2]) إسمه مشتق من الجذر “زَحَل” بمعنى تَنَحَّى وتَبَاعد، حيث سُمِّي زُحَل لبعده عن الشمس، إذ لم تكن الكواكب التي بعده معروفة آنذاك.

[3]) حقيقة علمية.

[4]) شاعر ملحمي يوناني قديم يُعتقد أنه عاش في القرن 8 قبل الميلاد وأنه مؤلف الملحمتيْن اليونانيتيْن الشهيرتيْن الإلياذة والأوديسة، غير أن بُحاث آخرين يشككون في وجوده أصلاً معتبرين أن أعماله ليست سوى تراكم تاريخي شعبي!

[5]) هذا هو الإسم الصحيح لهذا الغاز، لا إسمه الخاطئ المتداول حالياً: ثاني أكسيد الكربون، غير أنني لا أستعمله كثيراً لأنني أرى أن خطأ مشهور أكثر انتشاراً من صواب مجهول للأسف!

[6]) حقائق علمية.

[7]) تبلغ مساحة سطح تيتانيا 7 مليون و820 ألف كلم2، بينما تبلغ مساحة يابسة قارة أستراليا 7 مليون و682 ألف و300 كلم2.

[8]) حقائق علمية.

[9]) كائنات خُرافية تطير في الجو في قصص خُرافية للأطفال، عادة ما يصورون كفتيات صغيرات أو نساء، بعضهن لديهن وظائف محددة، مثل خرافة السن، حيث تضع نقوداً أو هدايا تحت وسادة الأطفال الذين أسقطوا أسنانهم، الجنيات تتواجد كذلك في الكثير من القصص الشعبي في تراث عدة شعوب، مثلاً في تراث إيرلندا واسكتلندا مازالت الجنيات تعيش معنا غاضبة في كهوف بعيدة بعد أن هزمها البشر منذ آلاف السنين.

[10]) حقيقة علمية.

[11]) هو الإيطالي نيكولو دي برناردو دي ميكافيلي Niccolò di Bernardo dei Machiavelli (1469-1527)، مفكر وفيلسوف إيطالي مؤسس للتنظير السياسي الواقعي الذي صار أساس العلوم السياسية، ألَّف نحو 30 كتاب لم يشتهر عالمياً منها إلا “كتاب الأمير” مع أنه نُشِر بعد موته بخمس سنين، حيث ترجم إلى كل لغات العالم الحية بما فيها العربية، يعطي فيه نصائح مدهشة لكل من يريد أن يكون حاكماً ناجح، اشتهرت هذه النصائح بأنها تثبت أن السياسي الناجح هو ذلك النفعي الذي لا يقيم للأخلاق والإنسانية أي وزن، من مقولاته الشهيرة: الغاية تبرر الوسيلة، الدين ضروري للحكومة لا لخدمة الفضيلة ولكن لتمكين الحكومة من السيطرة على الناس، حبي لنفسي قبل حبي لبلادي!

مقالات ذات علاقة

الغولة

محمد العنيزي

عند الخامسة والخمسين…

عزة المقهور

الصرخة…

أحمد يوسف عقيلة

اترك تعليق