قصة

الكمامة

(إلى الأستاذ/ سيـد الوكيل)

من أعمال التشكيلية الليبية مروة التومي
من أعمال التشكيلية الليبية مروة التومي

وقفت بمحاذاة النافذة الضيقة المشوهة بقضبان حديدية، تراقب الكمامة ذات اللون السماوي تجرفها ريح خريفية ضجرة. أدارتها بعنف مرتين ثم علقت بعرف قصير وضعيف لشجرة “البونسيانا” المنتصبة وحيدة وسط حوض اسمنتي أمام باب المدرسة المجاورة…

لامست كمامتها، نزعت الخيط من وراء أذنها وتركتها معلقة إلى جانب خدها. لاحظت ما يشبه كمامة أخرى ملقاة على الرصيف المقابل، دنت للتأكد منها حتى لامس أنفها قضبان النافذة، رأتها معفرة الوجه، لولا خيطاها المتشبثان بها لما أمكن تبينها.

 فجأة هبت الريح الخريفية مجددا، حررت الكمامة من فرع “البنسيالا”، أدارتها أكثر من مرة ثم القت بها على فتحة البالوعة السجينة الملاصقة للرصيف وتركتها هناك تغطي جزءاً من شباكها المعدني.

فكرت للحظة أن تخرج إلى الشارع، تجمع الكمامتين، خاصة المحررة بفعل الريح كي لا تعيق حركة الصرف الصحي. لكنها تراجعت وهي على قناعة بأنها ستقاوم كما قاومت الكمامة الأخرى حتى تشيخ ويحال وجهها إلى رمادي ولا يبقى منها إلا أذناها الضعيفتان.

جلست على طاولة المطبخ المقابلة للنافذة، تحسست كمامتها وكأنها تطمأن إلى وجودها، أمسكت بطرفها وثبتها خلف أذنيها، تحسستها لتتأكد أنها تغطي أنفها وخديها وكامل ذقنها.

 منذ أن زحف الوباء وتسلل من النوافذ والأبواب وعلق وتشبث بالأجساد وطار مع رذاذ الشفاه وهواء التنفس، وطبع مع القبلات والمصافحة وجدت الفرصة سانحة لإخفاء جزء كبير من وجهها.

تنهدت بعمق وهي تقلب بأصابعها القلقة ملعقة صغيرة ملقاة على الطاولة. اخترق أفكارها كالرصاصة الحارقة رنين جرس المدرسة المجاورة المتواصل من آلة بلاستيكية صينية رخيصة، لينداح ضجيج التلاميذ المفاجئ في الساحة ويصعد وهو يتصارع ثم يهوي كقطع الزجاج من خلف الأسوار على أفنية البيوت المجاورة للمدرسة. تحسست كمامتها مجددا، القت برأسها إلى الخلف، توقفت عن تقليب الملعقة بعد أن هدَّأت أصوات الصغار من قلقها، وأسرجت بخيالها نحو سور المدرسة.

منذ أكثر من أربعين عاما تعطل جرس المدرسة النحاسي الكلاسيكي ذا الرنين المتلاحق والمتدحرج كحبات البندق. كان يحفزها على أن تنمو وتكبر كدالية العنب المورقة في الفناء، وتضيء كلون الحناء في أطراف أصابعها الغضة حين تمد يدها لتقبض على أشعة الشمس المحملة بالغبار والمتسللة من ثقوب النوافذ، يثير خيالها كالأشكال التي ترسمها الظلال على الجدران، وكأحلام اليقظة التي تتجاوز عمرها.

تنبهت إلى أنها دخلت المدرسة قبل أن تتأهل لها!

يلتصق بيتها بمبنى مدرسة الحي الابتدائية، الذي يستمر متجاوزا البيت ومتداخلا مع بيوت أخرى. مبنى غريب، لم تعرف سوى أنه في أصله يمثل عدداً من البيوت المتلاصقة تم تحويرها من البلدية أيام الانتداب البريطاني ليصبح مدرسة الحي. لذا ليس للمدرسة سور مستقل ولا حديقة كما هو حال المدارس الأخرى التي بنيت في خمسينيات القرن الماضي وما بعده. ظل المبنى يحمل هندسة البيوت “العربية” المشرع فناؤها الداخلي نحو السماء، والمنفرجة غرفها على الفناء، والمطل بابها على الشارع والموشوم خشبه بمطرقتين حديديتين. أما نوافذها الطويلة القوام فكانت تطل على الشارع مباشرة، تتسلح بقضبان حديدية، وتغطيها حتى منتصفها شبابيك من الخشب المجرح بفتحات مستطيلة والمعروفة “بعين الزرزور“.

عاشت كل البيوت الملاصقة للمدرسة حياة المدرسة ذاتها، حياة قصيرة في يومها لكنها غزيرة في أحداثها. يستفيق سكانها مع وصول التلاميذ للمبنى، وفي منتصف النهار حين يحل موعد الاستراحة تدخل النساء المطبخ، وعندما يتدحرج التلاميذ من فم المدرسة الواسع الذي يلفظهم بعد أن يمضغهم لساعات تجهزن سفرة الغذاء.

تعلمت العدّ ولم تتجاوز الثالثة، أما الحروف الأبجدية فرددتها في سن مبكرة:

“الف، أرنب”

“ب، باب”

“ت، تفاحة“

 أطلقت على عرائسها القماشية اسميّ سالم وخديجة. كان سالم بلا ملامح، يرتدي قفطانا وبنطالا أبيضين، وعلى رأسه طاقية سوداء، أما حليمة فذات فم واسع ينفرج عن ابتسامة خجول، يلتف جسدها بقماش مزركش وعلى رأسها غطاء من ذات القماش ينسدل خلف ظهرها.

تمسك بالعروستين وتردد مع المدرسة “سالم يقرأ.. خديجة تساعد أمها في المطبخ“.

على مدى سنواتها المبكرة، كانت تعد حقيبة قديمة وتقلد إخوتها، تتظاهر بالذهاب معهم إلى المدرسة لكنها تتوقف عند عتبة البيت، تراقب الداخلين إليها، تحصيهم أحيانا أو تحييهم بابتسامة خجول ويد مترددة، بالكاد تتحصل على ابتسامة أو تلتقي نظراتها مع أحدهم. كانوا مسرعين دوما، وعلى أصواتهم المندفعة من نافذة المطبخ أو القافزة من وراء السور تعيش يومهم، تردد الأناشيد، الحروف والجُمل وتجمع وتطرح، تقلق وتضحك.

حتى جاء اليوم الذي اندفعت فيه إلى المدرسة، خرجت من باب ودخلت بابها.. هكذا بكل تلقائية.. “من وإلى” حرفان لطالما سمعتهما، حتى استخدمتهما بسلاسة. كان كل شيء سهلاً بالنسبة إليها كدخولها من ذلك الباب.. جذلى بعد سنوات من الانتظار، تصرخ بصوت عالٍ بالإجابة وبكل ثقة، حتى صرخت فيها المعلمة “اسكتي“!

هوت عليها كالصفعة أو أسوأ، إذ لم تتألم فحسب لكنها شعرت بخذلان عميق، ضاعت الكلمات التي تعلمتها لسنوات، فرت منها بعد أن أمضت السنين تجمعها وتحصيها آخر النهار بحرص، تتخيلها، ترسمها، تصنع منها جملا واشكالا، تنطقها، وتفكر في معانيها. تراها جميلة وخلابة ونظيفة، واقفة شامخة وراقية، ناعسة ومستلقية ومغنجة، غنية ومضيئة وموسيقية، حتى قالت لها المعلمة “اسكتي..” حينها لم يبق منها أثر…

بخجل شديد تجمدت كمكعب ثلج على مقعدها البارد، واخفت أصابعها في يديها وأطرقت برأسها وصمتت.

بعدها سمعت كلمات عنف على غيرها من التلاميذ، ورأت ذلك التلميذ الخجول يعقد ساقيه وقد تبلل بنطاله وتمدد السائل منه إلى الأرضية حوله.

“ضم فمك”، “ما أكثر دوتك”، حتى كانت كلمة “بكشة”، حينها قررت أن تصبح بكماء بمحض إرادتها، أن تتجاوز الإهانات إلى الصمت، فاض عقلها إلى سحب من خيال، انساب بهدوء من ثقب باب الفصل إلى فناء المدرسة ليصطدم بسور الفناء ويسقط على أرضيته الإسمنتية.

في السنوات اللاحقة، انزوت إلى المقعد الأخير بجوار النافذة المطلة على الشارع والمسدود فراغها بشباك خشبي يحجب الرؤية فيما تتسلل منه الأصوات نحو الداخل، حتى صفير الشباب ينفذ بدقة من بين الثقوب وكأنه يناديها. حلمت بأن تذوب في صوت يتحرر من هذا المكان ويتسرب بكل سلاسة من أحد الثقوب الخشبية ويسبح في الأزقة حتى يُنهك وينقشع ذاتيا.

 كان على المعلمة أن تصرخ طوال الحصة لمقارعة ضجيج الخارج، بل كثيرا ما تقترب من النافذة وتُذكّر المتحدثين بقربها بأنهم بجوار مدرسة ويزعجون حصتها وتحصيل تلاميذها، فيما هي تنساق بسحر إلى تلك الأحاديث، إلى حياة خارج الفصل الذي تحول بالنسبة إليها إلى صندوق معتم.

شيئا فشيئا احتد سمعها مقابل صيامها عن الحديث، وصل بها الأمر إلى حد تمييز أصوات الجيران وشباب الحي، وبرامج الراديو الصادحة من نوافذ البيوت المجاورة خاصة عند الظهيرة والمصحوبة بروائح الطبيخ. جمح خيالها مع الأصوات التي آلفتها وعرفت أسرارها وميولها وأحاديثها وحتى أفراحها وأحزانها، وفي المقابل خفت صوت المعلمة في إذنها.

“شن كنت نخرّف أنا..؟”

تقف من مقعدها ولا تنطق..

“خيرك بكوشة”… يضحك الفصل.

تتركها واقفة حتى نهاية الحصة أو تأمرها بمغادرة الفصل.

لم يعد السور الفاصل بين البيت والمدرسة يعني لها شيئاً.. مجرد سور قديم مصفر منهك، أما مبنى المدرسة فما هو سوى عجوز بين أبنية تشبهه. لم يعد الجرس يحفزها بل يزعجها. هكذا، قررت ترك المدرسة وتطبيق ما ورد في كتاب القراءة أن تساعد أمها في المطبخ فيما ينكب شقيقها على واجباته المدرسية.

  خرج شقيقها وتبعته شقيقتها الصغرى من باب المبنى المجاور إلى مبان أخرى أكثر اتساعا، ثقلت حقائبهما وطلباتهما بحجة الدراسة واستقلا بحجرتين من البيت وانتهى بها الأمر بحجرة الجلوس، تنتظر حتى يهجع الجميع ثم تفرش “المندار” وتنام. كانت آخر من ينام وأول من ينهض، تتقاذفها الأوامر على مدار اليوم، هي في نظرهم “بلا شغل ولا مشغلة”، تمسح دمعتها العزيزة وهي تتنهد “كل ها لشغل وبلا مشغلة.. حسبي الله ونعم الوكيل“.

انكمش البيت وضاق وازداد عدد قاطنيه وزائريه، أجيال تمرح فيه، تدرس بالمدرسة الملاصقة وتأتي كل ظهيرة تستريح فيه حتى عودتها إلى مساكنها. طغى صراخهم وصخبهم على صراخ المبنى المجاور وحركة الشارع فانقطع خيالها عنها، تُمنى نفسها بعودته بلا جدوى.

حتى جاء ذلك اليوم الذي أعلن فيه عن وباء يهجم على الرئتين ويسد قنواتها ويسبب تجلطات تحبس الأنفاس حتى يلهث المريض ثم يموت.

سدت منافذ المدرسة وهبط غبار الصغار في الأفنية ثم نثرته الريح، وقُمع صراخ المعلمات كأنه دفن في بئر عميق وكتم بحجر كبير. وصل الوباء باكرا إلى الحي وحصد أنفس كثيرة.

همدت جارتها بعد أن لهثت وهي تفتش عن الهواء من نافذة إلى أخرى، لهج لسانها بالشهادة وجحظت عيناها وتحشرج صوتها بحثا عن نفسٍ. شرَّعوا لها كل النوافذ ثم شقوا السماء بالصراخ وأعلنوا أن رئتيها أقفلتا، تبعها زوجها وابنها…

صرخ فيها شقيقها عبر الهاتف.. ”راهو وباء كل واحد يشد حوشه“.

أما عنها، فقد اتسع البيت وأضاء وهدأ صخبه، فانبعثت ابتسامتها بعد موات وطردت بؤس وجهها، واستدعت خيالها فأطاع، واستردت هدوءها بعد قلق، وخفت أعباؤها حتى تراقصت في خطواتها. أصبح لها حجرة، ومتسعٌ من الوقت للنوم، وخفتت آلام ظهرها، واستقوت ساقاها بعد هزال، وحملت أردافها بعض الشحوم، واستعادت قدرتها الفائقة على السمع.

صنعت الكمامات القماشية الملونة ونقشتها بحروف وأرقام واعتنت برباط خيوطها وتاجرت فيها.

وفي المساءات ما أن تتلون السماء بألوان الغروب الذائبة كمشهد خليط العسل وعصير البرتقال، تعد براد الشاي على مهل وتطفئ غليانه بحزمة نعناع كاملة. وحينما ينقر صياح “البورجيجي” نافذتها تطفئ النور وتفتح النافذة. تجلس على مسافة منها وتتخيل بقلق الفيروس التاجي كالعيون المتلصصة من بين فجوات خشب “عين الزرزور”، ترفع الكمامة التي لا تفارقها إلى أنفها وفمها وتحرر أذنيها، وكما كانت تقفز اليها الكلمات “سالم، حليمة، أرنب، تفاحة، ثلاجة…” نهارا من نوافذ المدرسة ومن وراء جدارها، ها هي تسري نحوها أحاديث وطقوس ليلية تشبه السحر بكامل رونقها وبكل هيئاتها، بحدتها وسلاستها وعذوبتها وخشونتها وجفافها وخفوتها وعلوها، وهمسها وقوتها، بعنفوانها وانكسارها وقيودها وتحررها٬ دون أن تتوه عنها سبيلا. تتسلل إليها مع موج الليل حشرجات الجارة وهي تحتضر، كركرة أرجيلة ابن الجيران الغر على السطوح، شجار الزوجين كل ليلة ثم خفوت أصواتهم المختلطة بضحكات مكتومة، طرقات الملاعق على سطح الصحون، رنين أكواب الشاي وفناجين القهوة، وتبادل مسجات النقال بين مراهقي الجيران، بل خمنت انتماءاتهم السياسية من خلال محطات التلفاز وبرامجه. اتقدت حاستها حتى فكت طلاسم الهمهمات وضفائر النميمة والأحاديث الهامسة، بل فرقت بين لهاث الوباء واللذة.

انقشع الوباء، واستعاد البيت بعض ضجيجه، وفتحت المدرسة أبوابها، لكنها لم تترك حجرتها لأحد، تدير المفتاح في ثقب بابها مرتين، تمسّكت بكماماتها القماشية الزاهية حتى أصبحت جزءاً من مظهرها فيما عيناها وحدهما الناطقتان، تضيقان ابتساما وتذبلان حزنا وتلتقيان غضبا.

شعرت براحة عميقة من وراء غطائها، لا تشارك في حديث ولا تنصاع لأوامر، تحرص على التباعد حتى توجسوا منها، وأسقطوها بسلام.

ها هو ذا المساء يحل، وها هي ذي تعد براد الشاي، وتطفئه بحزمة نعناع طازج، وتستعد لمناداة “البورجيجي” من وراء النافذة، تعدل من كمامتها وتحرر أذنيها وتتنصت وتمتلئ بالحياة.

(16 نوفمبر 2021)

مقالات ذات علاقة

قبل مَغيْب الشمس

أحمد يوسف عقيلة

الصفقة

محمد المسلاتي

الكواكبي

عوض الشاعري

اترك تعليق