طيوب عربية

قطعة التراب اللتي سجنتني

الطيب طهوري (الجزائر)

بورتريه صخري – من أعمال التشكيلي الليبي محمد بن لامين

لا أكل في البيت.. لا كهرباء ولا غاز ولا ماء.. ولا عمل.. أطفالي جوع وبطني هباء..

قالت الزوجة لي: بع ما تركه لك أبوك وأخرجنا من حالتك هذه..

حالتي؟ وأنت، أليست حالتي هي حالتك؟، رددت عليها شبه غاضب..

أنت المسؤول عنا، أجابتني..

وماذا ترك لي أبي لأبيعه، يا الفحلة؟

قطعة أرضك التي هناك.. لماذا لا تبيعها؟..

لن أبيعها، لن أبيعها.. قلت للك أكثر من مرات لن أبيعها..

وما تفعل بها إذن؟.. سكتت قيلا ثم.. ما فائدتها إن لم تخرجنا من محنتنا هذه؟ أكملت..

سأفكر في حل أفضل، يا فحلتي..

***

في الغرفة التي أغلقت بابها علي وضعت رأسي بين كفي ورحت أفكر.. دقائق قليلة و..

وجدتها وجدتها، صحت..

بسرعتها فتحت الباب.. دخلت واغلقته خلفها.. نظرت إلي ذاهلة:

ماذا وجدت يا رجل؟

الحل..

حل ماذا؟

قطعة الأرض التي تركها لي أبي.. سآتي بها إلى هنا.. لن أبيعها لكنني سأفتحها لاستثمار..

ماذا تقول يا رجل؟.. تأتي بقطعة الأرض إلى هنا؟ كيف؟..

سأعرف كيف أجيء بها، لا تتحيري..

ضربت الكف بالكف: مؤكد أنك قد أصبت بالجنون.. لاشك في ذلك.. لاشك.. وخرجت..

***

صباحا كنت هناك.. في أرض أبي.. في قطعة التراب الوحيدة التي ورَّثها لي.. أخرجت الحبل من كيسه.. أدخلته ترابها وعلقت طرفيه بكتفيَ.. كانت السماء زرقاء والشمس خفيفة الحرارة.. ورحت أجرها..

في كل مكان أمر به أرى أناسه يقفون مندهشين مستغربين.. ينادون على بعضهم بعضا ويتفرجون علي.. يتفرجون علي أخطو وقطعة التراب تزحف خلفي.. معظمهم كانوا يخرجون هواتفهم ،يصورونني ويصورون قطعة ترابي.. الغريب في الأمر أنني لم أسمع أي أحد يسألني: كيف فعلت ذلك يا رجل؟ ولا احدة.. 67 يوما مشيتها نهارا وسرتها ليلا أسحب قطعتي خلفي.. عبرت سهولا وأودية، جبالا وكهوفا وأنا أسحبها.. حفيتْ قدماي وتعبتا.. شعر رأسي صار غابة و لحيتي صارت أحراشها.. ولبسني غبار الطريق..

كنت كلما تعبت أستريح بها قليلا.. آكل بعض عشبها.. أحيانا آكل بعض يرابيعها أو حلزوناتها أو خنافسها ثُم أواصل طريقي..

***

وها أنذا أشق شوارع المدينة التي أسكنها بي وبقطعة ترابي والناس مستغربين يقفون على أرصفتها ويتفرجون.. الذين في منازلهم يفتحون نوافذها ويتفرجون..السياريون يبعدون سياراتهم عن طريقي ويوقفونها..الحافليون والشاحنيون كذلك..و..

أخيرا وصلت المكان الذي في البال.. وضعتها تلك القطعة الوحيدة في ساحة الولاية.. أمامها تماما.. ذلك أفضل مكان، قلت لي.. نزعت الحبل من على كتفيَّ وجلست أستريح..

حين استعدتني من تعبي رحت والناس يحيطون بي من كل الجهات أعلن عن فتح باب الاستثمار فيها:

هذه قطعة أرض ورثتها عن أبي.. هي الآن في افضل مكان في المدينة.. من يرغب في الاستثمار فيها يتقدم.. أفعل ذلك مضطرا ومتألما.. ليس لي بد من ذلك.. علي الأرض وعلى المستثمر المال.. والربح مناصفة قابلة للأخذ والعطاء..

***

لكنني، وا ألماه، ما إن تقدم المستثمرون وبدأوا يعرضون مشاريعهم عليَّ حتى رأيته يتقدم نحوي مسرعا وسمعته يصيح بكل قوى فمه: هذه القطعة لي لا لك.. اشتريتها من أبيك.. رفع عاليا وثيقة الشراء ليراها الجميع.. بعد ذلك عرضها علي.. أمعنت النظر جيدا فيها .. قرأتها وتحققت منها ومن إمضاء أبي وختم الجهة التي تم العقد فيها..

أنت مخطئ يا أخي، هذه الوثيقة مزورة.. تاريخ عقد شرائها بداية عام 2021 وأبي كان قد توفي عام 2019،قلت له..

ضحك: انت المخطئ يا هذا.. أبوك مات أواخر عام 2021 لا عام 2019 وٌقدم لي شهادة وفاته..

يستحيل، صحت في وجهه.. إنه أبي وقد توفي عام 2019..ها هي وثيقة وفاته.. أخرجتها من جيبي وعرضتها عليه..

وثيقتك أنت المزورة يا هذا، رد علي غاضبا..

***

كان القيد في يدي.. وكنت في محكمته..

قررت المحكمة باسم الشعب…سجنك..

لم أسمع ما بعد كلمة الشعب.. ولم أسمع أيضا ما بعد سجنك..

***

وقف أمامي سعيدا وسمعت بكل رضوضٍ ضحكتَه..

***

في الطريق بي إلى السجن سحابة سوداء كانت تعبر انطلقت تصب بغزارتها.. وسمعت الصوت، صوت أبي، خريرا دافئا يأتيني منها:

لا، لم أمت.. لم أمت.. ما زلت حرا أسبح في بحر الحياة..

رفعت رأسي عاليا.. ابتسمت:

سنلتقي قريبا يا أبي.. حتما سنلتقي.. وسنسبح معا في بحر الحياة..

سيسبح أبنائي معنا..

وستسبح فحلتي..

وكان ديك الصباح يعلن عن صباحه..

***

لقد جئت بها.. والله جئت بها..

من التي جئت بها يا رجل؟..

هي..

هي من؟..

قطعة الأرض التي ورثتها عن أبي..

ضحكت.. الصباح رباح.. هيا، نوض تفطر..

هل جاء الحليب؟..

جا، جا..

جا الماء..

جا الزيت..

جات البطاطا..

الجزائر – سطيف

مقالات ذات علاقة

الراحلون الصامتون

المشرف العام

بئر أبي ذر الغفاري

المشرف العام

عن صور النساء في ظل الحجر المنزلي

فراس حج محمد (فلسطين)

اترك تعليق