المقالة

الإنسان .. المدينة .. الدولة المدنية

أحمد دخيل بن زايد

من أعمال الفنانة التشكيلية “مريم الصيد”

ما أن تكوّنت المجتمعات الإنسانية، ظل التفاعل بين أبنائها ضرورةً تفرضها طبيعة الإنسان ككائن اجتماعي لا يترعرع على الشكل الأمثل، إلا في وسطه الطبيعي ـ المجتمع ـ الذي يتكون نتيجةً لحاجة الناس لبعضهم بعضاً؛ حيث لا يمكن لفرد أن يشبع حاجاته بمعزل عن الآخرين، وهو ما يؤكد أن الحياة الاجتماعية قائمة على التفاعل بين أفراد المجتمع الواحد.

إلا أن الحياة في إطار المجتمع الواحد يشوبها كثير من التعقيدات، حيث تتشابك العلاقات الاجتماعية وتتعارض المصالح وتعلو نبرة القوي على غيره من الضعفاء، الأمر الذي أنتج صراعات مريرة داخل المجتمعات أحذت طابع السيادة للأقوى، وهو ما يُفْقِد الحياة الاجتماعية قيمتها، حيث يغيب التآزر والتآخي في ظل احتدام الصراع بين قوىً بعينها، ويُسحق الضعفاء نتيجة لذلك.

من هنا أضحت الحاجة ملحة ً لإيجاد إطار يضم أبناء المجتمع الواحد بعيداً عن نزعة الهيمنة، وذلك للحد من شراسة الإنسان ضد أخيه الإنسان، ونتيجة لتعدد الأعراق والمكونات الاجتماعية، اتجهت الإنسانية إلى تأسيس كيان يضمن حقوق الأفراد على مختلف مشاربهم، بهدف تحقيق الاستقرار الذي يضمن سَيْر الحياة ويجعلها مشتركةً للجميع، هذا الكيان هو الذي ينحت مفهوم الدولة.

وقد ظهر مفهوم الدولة في اليونان القديمة، وانبثق عنه اصطلاح الدولة المدينة كنموذج مجسد للحياة العملية، وحيث ظهر عدد من الفلاسفة المشرّعين على رأسهم الحكيم صولون، الذي عُرف بتشريعاته المنادية  بنشر قيم العدل والفضيلة، وإلغاء العبودية ونظام الرّق، نابذاً بهذه التشريعات ما كان ُيحتكم إليه من عادات وتقاليد المجتمع اليوناني آنذاك؛ ويمكن أن نلاحظ في بلاد اليونان نموذجين للدولة المدينة يتجسدان في المثال الأثيني والاسبرطي، حيث لكل منهما خصائصه، ومن هنا يمكن أن نتفحص ولادة النظام الديمقراطي، ومحاولة الإنسانية تلمس الخطى الأولى لتأسيس كيان ينعم فيه الإنسان بحقوقه كما يناط  به واجبات تجاه مجتمعه، حيث لزاماً عليه أن يندمج ليعيش أسوة بغيره، ومن هنا يتحتم علينا تسليط الضوء على هذين النموذجين للاستدلال بهما على ميلاد الدولة المدينة.

ويمكننا الاستدلال في هذا السياق بنموذج آخر للدولة المدينة، الذي ظهر إثر بزوغ الإسلام والذي قام على تعاليمه، حيث تأسس في يثرب “المدينة المنورة”، ونقف هنا عند اتخاذ القرار من محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالهجرة من مكة ـ حيث بداية ظهور الدين الجديد ـ واتخاذه يثرب كمعقل لنظامه المنشود؛ وكأن به أراد البداية بعيداً عن مجتمع مكة، الذي كان على عادات الجاهلية ولا يمكن له أن يحتضن مشروعا ً جديداً كذلك الذي نادى به الدين الجديد، ومن هنا يتحتّمُ علينا تسليط الضوء على النزعة الإنسانية التي قام عليها هذا المشروع  ممهّداً الطريق لإقامة دولة فتيّة ضاهت إمبراطوريات عظيمة كالفرس والروم وتفوقت عليها.

والجدير بالذكر أن نماذج الدولة المدينة سالفة الذكر قدمت لنا أنظمة لها طابعها الحضاري، خاصة على المستويين السياسي والاجتماعي، وذلك انطلاقا من منظومة قيم كانت تنشد إنسانية الإنسان وتضعها موضع احترام وتقدير، وما نبذ العبودية وتحريم الرق في تشريعات صولون، والنهي عن الظلم وتحريمه في الشريعة الإسلامية إلا دليل على ذلك، غير أن الجانب السلبي في تاريخ الإنسانية يظل حاضرا ً ولا يمكن لنا نكران النزعة الشريرة لأبناء آدم، وهو ما ينعكس في هيمنة الأقوياء، حيث نشأت الإمبراطوريات وعمّ الحكم الموناركي القائم على الملكية المطلقة حينا ً من الدهر،  فاستأثر الملوك بالسلطة وظلت هذه الأخيرة رهينة نسلهم، وهو ما نلاحظه في ربوع الأرض حيث كان يعم حكم الطغاة والأسر المالكة والسلاطين والأباطرة، وحتى عندما جاءت المسيحية بتعاليمها السامية لم تفلح في وضع حد لهذا النوع من الأنظمة، فتحالف الملوك مع رجال الدين وادّعوا أنهم يحكمون بأمر الله وتحايلوا على الناس باسم الدين، بهدف البقاء على العرش أبد الدهر، وهذا ما نلاحظه في تاريخ أوروبا خاصة في العصور الوسطى، أردف إلى ذلك المثال الإسلامي عندما حدثت الانتكاسة بتأسيس الدولة الأموية على يد أول ملوكها معاوية ابن أبي سفيان؛ الذي فتح الباب أمام حكم وراثي بحجة أن بني أمية أحقّ بالخلافة ممن سواهم، لأنهم أبناء عمومة لمحمد بن عبد الله مؤسس الدولة الإسلامية.     

وعندما نتحول إلى العصر الحديث، نرى كيف دأبت الإنسانية على تلمّس طريقها نحو الاستقرار، وكيف تخلصت دول بعينها من حكم الملكية المطلقة، ونضرب مثل الثورة الفرنسية كشاهد على ذلك، حيث سقوط الملكية وولادة أول جمهورية، ومن هنا نُبْرز ميلاد الدولة المدنيّة حيث ظهور الدساتير وانبثاق القوانين المنادية بحرية الإنسان وتحقيق العدالة بين أبناء المجتمع الواحد وفقا ً لمبدأ المواطنة، ونستشهد هنا بالعقد الاجتماعي لهوبز، وجون لوك، وجان جاك روسو وغيره من إفرازات عصر الأنوار التي عمّت القارة العجوز.   

إن سعي الإنسانية الدؤوب للبحث عما هو أفضل دفع الإنسان لأن يغير من واقعه مستفيدا ً من دروس الحياة وعِبَر التاريخ؛ هكذا نجده قد عمد إلى ارتقاء سلم التطور ليجد الظروف الأكثر ملائمة ً لحياته، وفي الوقت الذي كابد فيه الإنسان عناء الظروف القاسية كان يتطلع إلى حياة أفضل، وهذا ما خلق تراكما ً معرفيا ً لديه مثَل له ذخرا ً للتعاطي مع متطلبات حياته التي على رأسها العيش في سلام دائم.    

إن البحث عن السلم في إطار حياة اجتماعية بالضرورة، يمثل – في واقع الأمر- أولي خطى الإنسانية نحو الاستقرار، ويرسّخ إلى حد كبير صورة الإنسان المتحضر الذي يفكر باستمرار في إصلاح شؤون حياته، باذلاً الجهد لأجل ذلك، وهذا ما أفرز حضارات إنسانية مختلفة تبقى شاهدة ً على إيمان الإنسان بالرقي بواقع حياته، هكذا كان ” الآن ” لحظة ً للتفكير والعمل وما أن تحول إلي ماضٍ صار إرثا ً إنسانيا ً حضاريا ً نافعا ً ملهماً.

لقد استدعت الحاجة إلى الاستقرار والعيش في مجتمع واحد يعمّه السلام الحاجة إلى السلطة التي لا يتمثل فيها الطرف الأكثر جبروتاً، أي السلطة التي تمثل الجميع وترعى مصالحهم على حد سواء، وهذا ما كان باعثا ً لتأسيس الدولة… الكيان الذي يعيش في ظله الجميع مشتركين في مصالح الحياة.    

إن سعي الإنسان نحو الاستقرار الدائم ما انفك ينقطع وهذا ما شهدناه بعد تخلص الإنسانية من حكم الملكيات المطلقة؛ وهو ما عُرف بالحكم الموناركي خاصة في أوروبا، فبعد أن تخلصت الشعوب من هيمنة الملوك بعد الثورة عليها، فُسح المجال أمام الدولة المدنية الحديثة، التي تقوم على حق المواطنة وقيم الحرية والعدالة والمساواة التي يضمنها الدستور الذي هو عقد اجتماعي من الأساس؛ من هنا يمكننا القول أن الدولة المدنية تستمد قوتها من ذاتها، لأنها دولة الجميع ولأنها تمثل في الذاكرة الجمعية لشعبها ذخرا ً مهما ً لا يمكن التنازل عنه، وهذا لا يعني أن الدولة المدنية تصرف النظر عن  امتلاك القوة العسكرية الضاربة، لكن حسب نظم الحكم بهذه الدولة لابد أن تخضع القوة العسكرية إلى سلطات الدولة التي هي مدنية من أساسها؛ وبما أن الدولة المدنية تعتمد على قيم الديمقراطية،  وأن مدنيتها مرهونة ً بديمقراطيتها تتضح لنا الصورة أن هذه الدولة تستمد قوتها من الداخل لأنها تمثل الجميع.  

ولا بد من التنويه أن لكل عصر مخاضه في البحث عن هذا الكيان ” الدولة ” وهي المظلة التي يستظل بظلّها الجميع دون فروق ولا تمييز؛ فمثال ” الدولة المدينة ” تأسس في إطار أضيق هو المدينة ـ أثينا، أسبرطة، يثرب ـ ثم أخذ في التوسع بعد ذلك ليضم أرجاء أخرى، إلّا أن تطور المجتمعات وتزايد عدد أفرادها أنتج تطورا ً في الفكر السياسي الإنساني، الأمر الذي أفرز ـ عبر مراحل التاريخ ـ مفهوم الدولة المدنية، التي تضم إقليماً يضم مجموعة من الأعراق على رقعة جغرافية واسعة، تقوم على مدنية الإنسان ونزوعه إلى حياة السلم والاستقرار، من هنا يمكن أن نلاحظ دولاً بحجم القارات كالولايات المتحدة الأميركية وكندا وأستراليا وروسيا، وإننا في هذا المقام لسنا بصدد تشريح النظم التي تحكم الدولة المدنية الحديثة، لكننا بصدد رصد المراحل التاريخية لتطور مفهوم هذا الكيان، من الدولة المدينة إلى الدولة المدنية، وهو ما يعكس تطوراً ملهماً في الفكر السياسي، من الدولة في إطارها المصغر ” المدينة ” إلى الدولة في إطارها الأكبر، أي الدولة بشكلها ومضمونها الحديث والمعاصر.

11 – نوفمبر. 2021. الزويتينة.

مقالات ذات علاقة

قضية

يوسف الشريف

شـعـرة الـبوعـزيـزي

زياد العيساوي

تعلم واترك..

سعاد سالم

اترك تعليق