إني يئست من موت الكهل، أراه كل يوم يزداد نشاطا وحيوية، يمارس رياضتها المفضلة، الركض لمسافة خمسة كيلو مترات كل صباح، يعود لتناول الفطور؛ بيض مسلوق وعصير البرتقال، وبعد نصف ساعة يطلب الفول السوداني المطهي على الرمل، ولوز أنا من قمت بتقشيره، ثم كوب حليب شرط أن يكون طازجا من مزرعة تبعد عن البيت حوالي كيلومتر، ناهيك عن فنجان القهوة مع الساعة الحادية عشرة، وإن تأخرت دقيقة واحدة، أسمع شتائم لم تسمع بها البشرية قاطبة.
بعد فنجان القهوة يخرج للحديقة وأنا أتبعه، يفتح قن الدجاج يخرج الدجاج مندفعا يبحث عن الطعام، يدخل هو حبوا يجلب البيض من الداخل، عادة ما تكون سبع بيضات، وإن نقصت بيضة أنا المتهم الوحيد، علي أن أحمل البيض للمطبخ، وأرجع لأقف بجواره وهو يقلم الشجر أو الأزهار، أو يقتلع الأعشاب الضارة، ويرش الحديقة. بعد كل هذا يطلب جلب كرسيه الثقيل جدا لا أعرف هل هو مصنوع من الحديد أو الخشب؟ دائما يقول مفتخرا: يرجع تاريخ هذا الكرسي للويس التاسع عشر، من غرفة المكتب التي في الطابق الثاني، عندما أضع الكرسي في المكان المخصص له في الحديقة تحت شجرة الصنوبر الشامخة، يرسلني من جديد لجلب الكتاب الموجود على طرف المكتب. مع الساعة الثانية عشرة تحديدا يجب أن أحضر له كوب يانسون فاتر.
سئمت خدمته، بل سئمت حياتي معه، لا أعرف لماذا تأخر عليه عزرائيل حتى هذه اللحظة؟ يا لحظي العاثر!! أتذكر عندما مضيت العقد معه منذ عشرة أعوام؛ وضعني أمام خيارين أن أعمل عندها عام كاملا مقابل 3000 جنيه استرليني، أو أعمل معه حتى يموت وأستحوذ أنا على كل ثروته. للأسف دون تفكير اخترت الخيار الثاني، كان سعيدا جدا باختياري، قال حينها بنبرة المفارق للحياة، وكادت أن تسقط من عينيه الغائرتين دمعة حارة: إنه سيتخذني عكازا يتوكأ عليه في أرذل العمر.
ونحن في الطريق للمزرعة في ريف سيدني، ربت برفق على ظهري، نظر إلي بحنان وكل قسمات وجهه تدل على الرأفة والنبل والتعاطف، قال: يا بني أنت تعلم أني بلغت من العمر أرذله، واجب علي أن أضمن لك حقك قبل وفاتي، وأنا واقف أمامه كالأبله، متأثر جدا من حديثه الطيب الذي يدخل القلب دون استئذان، وطامعا في نفس الوقت بالثروة الطائلة التي يمتلكها. كان كل الموجودين حينها في مكتب العمل يتمنون أن يقع اختياره عليهم؛ لأنه من أثرى العائلات في سيدني بل في استراليا كلها، عندما سمعت كلامه صدقت كل ما قيل عنه.
واصل الدكتور العجوز قوله: يا ولدي يجب أن نتوج اتفاقنا هذا بعقد، هززت رأسي كالبغل موافقا، دخلنا مكتب محرر عقود وتم الاتفاق بين الطرف الأول الدكتور (أدريان أبراهام) والطرف الثاني (ألكسندر سميث) على أن يخدم الطرف الثاني الطرف الأول مدى الحياة، مقابل أن يتنازل الطرف الأول في حالة موته للطرف الثاني عن كل ممتلكاته، وبهذا يلتزم الطرفان ألا يفارق أحدهما الأخر حتى الوفاة.
فرحت، بل شعرت بالدنيا ترقص لي طربا، يا ليتها شلت يدي قبل أن أوقع على استعبادي مدى الحياة، سلب الكهل كل حقوقي في الحياة، لا أخرج من البيت إلا بأمر منه شخصيا، بل وممنوع ارتداء الملابس التي لا توافق هواه، الأكل هو من يحدده، الزيارات ممنوعة، كانت لي علاقة مع فتاة من أصول أسيوية، وقف حائلا دون مواعدتي لها بحجة أنه يكره هذا الجنس المهيض، استطاع في العشر سنوات كبت كل أحساس سعيد بداخلي، رغم مناظر الطبيعة الخلابة التي نعيش بها، غابات شاسعة، وعيون مياه متدفقة، وسهول خضراء، إلا أنه قتل في نفسي معنى الجمال، جعلني مسخا بشريا لا يشعر لا يتفاعل لا يحس لا يكره لا يحب، منصاع دائما لما يقال، ينام مع سيده ويستيقظ معه، آه؛ جعل مني آلة تنفذ كل ما يأمر دون أدنى اعتراض.
حاولت الفرار منه مرات عديدة، باءت كلها بالفشل بسبب العقد الذي بيننا، تقبض على الشرطة ترجعني له صاغرا، فكرت في سرقة العقد والخروج من المأزق، بحثت عنه في كل مكان لم أجده، حاولت مرات عديدة الانتحار حتى أتخلص من هذا البغيض الذي نسي عليه أو تجاهله عن عمد عزرائيل، أو ربما كانت هناك مؤامرة بينهم لا أدري بالضبط سبب تأخر موته حتى اللحظة، كان في كل محاولة يأتي وينقض حياتي.
قاطعت تدفق خواطري لكزة من عكوزه سائلا: ما بك يا ولد؟ فيما تفكر؟
انتبهت وقلت لنفسي هل ترك لي وقتا للتفكير: هل أحمل الكتاب؟
قال بنبرة غاضبة: نعم.
أخذت الكتاب من بين يديه هممت للدخول قال: اجلب معك السنارة كي نذهب للبحيرة ونصطاد غذاءنا.
وقف عند البحيرة، وانا أتبعه أحمل الكرسي الخشبي المخصص للصيد، والسنارة والطعم ذا الرائحة الكريهة، طلب أن أضع الكرسي تحت شجرة الكافور، جلس رمى قليلا من الطعم، أعاد السنارة ورماها، أشعل الغليون أخذ نفسا عميقا ونفثه وهو يسعل، أمرني بالجلوس بالقرب منه حملق بي طويلا خلع النظارة من على وجهه ومسحها بالمنديل المخصص لها، والتفت لي من جديد وقال: اليوم بعد العشاء أعطيك ما كنت تحلم به، اليوم أعطيك ما يحقق لك كل أحلامك.