طيوب البراح

تحت شجرة الخروب

محمد الطيب الهرام

من أعمال التشكيلي عمر جهان
من أعمال التشكيلي عمر جهان

في الصباح الباكر عند حضيرة الأبقار وقف “بشير” حاملا قدرا كبيرا، أطلق نظرهُ إلي الجهة المقابلة تنهد ثم قال محدثا نفسه (لليوم الثالث تواليا لا أراها، يا ترى ما سبب الغياب)، قفز إلي وسط الحضيرة بدأ حلب الأبقار، بذهن شارد فتحَ باب الحضيرة وخرجت الأبقار لترعى، مشى إلي البيت و في منتصف الطريق جلس عند شجرة الخروب، بدأت التساؤلات تدب إلي رأسه كما تدب أبقاره بين شجيرات البطوم، تارة يسأل هل خانت العهود و سأمت انتظاري؟ و تارة أخرى يسأل هل حل بها مكروه؟ لكن لا إجابة على تلك الأسئلة إلا بخبر يقين يأتي من بيت “غالية”.

مر الزمن و ازدادت أيام غياب غالية فلم يراها “بشير” منذ أسبوع، ولم يعتاد بشير ذلك فغالية لم تغيب يوما عن نظره منذ نعومة أظافرهما، منذ الطفولة في صفوح وديان الجبل الأخضر، لم يعتاد هذا الغياب، لقد سأم حلب الابقار في الصباح، فهو يتخذ من ذلك حجة ليرى صاحبة السلطة على قلبه، في عشية اليوم الثامن لغياب غالية، فقد القدرة على التحمل، و بحشمة سأل والدته:

– غالية بنت سالمة جارتنا، ماذا حل بها؟ إنها لم تعد تحلب الأبقار كعادتها!

فردت والدته على سؤاله بسؤال: و لما تسأل؟

أحمر وجهه خجلاً و قال:  

لا لشيء فقط مجرد سؤال.

ثم أجابت والدته:

– لقد ذهبت غالية ووالدتها لأقربائهن في بنغازي، لقد عادت خالة غالية التي تعيش خارج البلاد، وبيت سالمة موصد وأبقارها ترعى في المزرعة لوحدها.

اطمأن قلب بشير، دبت فيه الحياة من جديد، تلاشى التفكير وقد اطمأن أن غياب ملكة الفؤاد لأنها مسافرة، وليس لسبب آخر، ركب بشير سيارته التويوتا المهترئة التي تأكلت من الصدى وكسى  أبوابها و المقدمة، اتجه إلي منطقة البياضه لمشاهدة استعراض الخيل (الميز).

في اليوم التالي، عادت سالمة وابنتها غالية، وتصادف وصولهن بمرور بشير من أمام بيتهن، فهرول إلي الحاجة سالمة أمسك الحقيبة الكبيرة التي تجرها و قال (دعيها عنك إنها ثقيلة، سأحملها للداخل ي عمة)، ادخل معهن الحقائب، ونظرات العندليب المغرد العاشق تداعب غالية، وتبادله غالية ذات النظرات الحناية المليئة بالشوق، في صباح اليوم التالي وقف الاثنان عند حاجز الأسلاك الفاصل بين مزرعتيهم، تبادلا حديث مليء بالحنين ولهفة و روعة اللقاء، لقاءهما انتهى بهدية من غالية أحضرتها لبشير من بنغازي، غادر كل منهما بقلب مرتاح للقاء رد في كلهما الحياة، كما تفعل المطر بالأرض الجرداء، غادر الاثنان يحملان حليب الابقار والابتسامة.

بينما كان يتجه للمطبخ، توقف بشير عند الباب و أنصت لحديث والدة غالية لأمه:

– لقد خُطبت غالية لأبن خالتها لؤي، لؤي شاب طيب و متعلم و هو من مواليد بريطانيا، فأختي مطيعة عاشت هناك 25 عاما كما تعلمين.

ردت والدة بشير الحاجة فاطمة: مبارك، إن شاء الله التمام بالخير يارب.

ثم قالت سالمة:

– سأنتقل للعيش مع أختي هنية في المرج و لا أحتمل وداعكم و فراقكم.

صُعق بشير بالجملة الأولى من حديث سالمة، و نزلت بمسامعه  كلهب النار، حرقت فؤاده وأدمت قلبه، غادر مسرعا، يكاد يقع قلبه من شدة الخفقان، جلس تحت شجرة الخروب، تأمل الشجر و البقر من حوله، في مخيلته مر شريط ذكرياته مع صاحبة الدلال، توقف الشريط مرات عديده عند ضحكاتها، عند غمازاتها التي ترصع خديها بحمره كما شفق المغيب في السماء الصافية، عند جمالها الذي لا تصفه كلمات الشعراء ونصوص الأدباء، عند عيناها السوداوان كما ظلمة ليلة لا قمر فيها، توقف عند خصلات شعرها الأسود الداكن تتلاعب بها الرياح، عند تلك الصورة التي صورها الله بها، صاحبة الجمال و النسب و الحسب، تسائل و العبرة تخنقه كما يفعل به دخان الحطب المبلل، لماذا فعلت ذلك، هل غصبوها على ذلك، أم أنها رضيت أن تبدل أيامنا بمال ابن خالتها و مكانته، أنا لم أولد في دولة أجنبية و لا أجيد القراءة والكتابة، ليس لي مال، لكنني احببتها بقدر ما سبحت المخلوقات لخالقها، بعدد حبات المطر والندى، بعدد ما غردت العصافير عند الشروق، لا أخ لها فكنت لها السند، لا أقرباء لها من الرجال، فكنتُ أنا حاميها من الدنيا و الزمن، لماذا تفعل بي هكذا.

أسند رأسه إلي جذع شجرة الخروب، اشعل سيجارة وأخذ منها نفسا طويلا، أخرج دخان السيجارة دفعة واحدة مع أنفه بقوة، وقع بصرة على اسمها وأسمه منقوشان على شجرة الخروب و بينهما قلب، تناول حجارة و خط بها على القلب المرسوم، فقسمه نصفين كما فعلت غالية بقلبه، ثم ردد غناوة علم لعبد الكافي (منقوض قال يا خياط * أرضيني عزيز و عافني) ثم تبعها بشتاوة عوض حامد (عزيز ربطت أمعاه أرباط * وجا قال أنقض يا خياط).

انقطعت اخبار غالية لشهر لم يراها و لم تسأل عنه كما أنها لم تعد تحلب الأبقار، جاء اليوم الموعود و زُفت غالية إلي ابن لندن من أمام بيته، غادرت القرية في موكب زفاف مُهيب بسيارات فخمة، لم يحتمل رؤية ذلك، شغل سيارته و ذهب في الاتجاه المعاكس حتى وصل منطقة اسلطنة عند المغيب، نام هناك عند عمته شقيقة والده باكيا في حضنها، أستمر بشير كعادته في حلب الأبقار و مصافحة مزرعة غالية بنظّراته، أملا في أن تطل مره اخره، لكن لا شيء سوى حضائر الأبقار الخاوية و البيت الساكن المغبر، لا شيء سوى ذكريات معلقة على نوافذ ذلك البيت وعلى الأشجار والأحجار وعلى كل شيء، لا رفيق ولا انيس له في هذه الدنيا سوى شجرة الخروب تلك، و التي بدأت تصيف وتتساقط أغصانها، بشير كان كل يوم يجلس تحت الشجرة، و يحضر الهدية الأخيرة من غالية يستمر في النظر لتلك العلبة دون أن يفتحها، أستمر هكذا، و أستمر  في غناء العلم على فقدان غالية، في كل مكان، وهو يقود السيارة، و هو يحلب الابقار، جالسا واقفا، منذ ذلك الوداع لم يغيب عن جلسات (صوب خليل) في شتى مدن الجبل الأخضر، أستمر في الغناء حتى أصبح من أشهر (غناية العلم) في الجبل الأخضر بل وعلى مستوى البلاد، الجرح العميق صنع من بشير غناي شهير، صافت أوراق شجرة الخروب ويبست أغصانها وهوت إلي الأرض وأصبحت حطب لنار الجيران، وأصبح بشير وحيدا لا غالية ولا شجرة الخروب، أستمر في الغناء و استمرت الكلمات والذكريات تقتات على قلبه و عقله، حتى وافاه الأجل أثر سكتة قلبية في ليلة شتاء، في جنازة كبيرة حضرها الناس من شرق البلاد و غربها، شيع إلي مثواه في البرزخ، ومع بشير تحت الثرى دُفنت قصة غالية و الهدية الأخيرة إلي الأبد .

مقالات ذات علاقة

جولة في جرافة حوت

المشرف العام

رحـلة أشـواقي

المشرف العام

إنسان غير عادى

المشرف العام

اترك تعليق