سرد

جزء من رواية الأورفيدة

من أعمال الفنانة التشكيلية “مريم الصيد”

مضى على حفل تخرجي من كلية الطب ثلاث سنوات، تعينت في مركز البطنان الطبي، أتقاضى مرتبا لا يتعدى سبعمائة دينار، ها.. أي أقل من مائة وثلاثين دولار، هل درست سبع سنوات من أجل أن أتقاضى هذا المبلغ الزهيد؟! ضاع عمري! ليتني سمعت كلام والدي رحمة الله عليه، وانخرطت في الجيش، لكن مرتبي يتجاوز ألفي دينار، ماذا أفعل الآن؟ الفتاة الوحيدة التي اختارها قلبي، تخرجت اليوم، وعلي التقدم لها، بماذا أتقدم؟ بالشهادة؟ هل أقدم لهم بكالوريوس الطب؟ وأقول لوالدها الضابط الكبير في الجمارك، الذي يقطن في فيلا بحي الدولار!! أريد أن أخطب يد ابنتك المصون وأعدك أن أكون دكتورا مشهورا في المستقبل، السؤال المعهود في مثل هذه المناسبة أين تسكن؟ هل أقول في حي شعبي، مرصوصة بنيانه، إن أزلت لبنة وأحدة ينهار الحي بأكمله؟ هل يرضى سليلته الوحيدة التي خرج بها من الدنيا أن تعيش في هذه الأكواخ الآيلة للسقوط؟ لا أعتقد أنه يعرف أساسا بوجود هذه الأكواخ في “طبرق”، مؤكد سيقول إني طامع في ثروته، ويطردني أشر طردة، هذا إن لم يضربني عيارين ناريين. أو يجعلني سخرية المدينة، حينها لا أستطيع حتى ممارسة عملي كطبيب، وأخسر كل ما سعيت له.

آه ماذا أفعل هل أصرف نظري عنها نهائيا؟ لا قد منيت نفسي بها منذ خمس سنوات، ثابرت واجتهدت من أجل أن تكون نصيبي، لكن هل تستطيع التغلب أو تغيير الحظ العاثر؟ هذا ما لا أستطيع الجزم به، أنا محطم نفسيا، اليأس قيد قلبي، يجب أن تعترف بالكم الهائل من الفشل الذي يطاردك، أو بالأحرى يتبعك كظلك، سيقول من يقرأ مذكراتي كيف يصف نفسه بالفشل وهو طبيب؟ نعم سؤال في محله!.

النجاح ليس شهادة فقط! أو ربما هكذا ننظر لها في بلادي، النجاح دون قبيلة فشل، والفاشل إن كان رهطه عظيم ناجح، لا تسأل لأني بكل صراحة، لا أعرف من وضع هذا النظام ومتى وكيف؟ لكن أنا وأمثالي وقعنا في فخ هذا النظم، بل سحقنا نعم وطحنا لأننا ببساطة لا نأوي لركن شديد، وسط هذا النظام أو قل القانون، قل ما شئت، عجزت عن مواصلة دراستي العليا، رغم أني كنت الأول على المجموعة، والغريب لم يصدر بحقي قرار بتعييني معيدا في الجامعة، يبدو أنه لا زالت هناك خصومة بيني وبين جهاز الكمبيوتر، حتى يسقط اسمي سهوا من قائمة الموفدين للدراسة في الخارج. هذا ما كنت أقوله أنا وأصدقائي، فقد تمكن منا العجز حتى صرنا لا نحرك ساكنا، بتنا أغراب في أوطاننا.

فكرت كثيرا في خوض تجربة عبور الأبيض المتوسط، والوصول إلى شماله، والبداية الصحيحة هناك، مع بشر يحترمون الإنسانية، يحترمون الإنسان ليس لكونه من قبيلتي أو من مدينتي أو من دولتي، أو من ديانتي، كلما أهيئ نفسي للسفر، أتراجع أمام دموع أمي الغالية، وتوسل حبيبة القلب “سناء” أمي التي تحملت قسوة الزمان لوحدها بعد وفاة والدي، كانت لنا الأم والأب في مجتمع لا يرحم الفقير ولا يعترف به، كانت تعمل في البيوت، والمناسبات تغسل الأواني، وتعد الطعام، في المآتم والأفراح، لكنها لم تسلم من ألسنة الناس المؤذية المحبطة، مما اضطرها للتوقف عن العمل، ربما لم يكن خيار التوقف في يدها بل كان أمرا من أعمامي، وأخوالي، أتذكر ذاك اليوم الذي حضروا فيه سويا، عم الفرح بيتنا أنا وأخوتي اعتقدنا أن لنا أقارب يسألون عنا كما نرى عند جيراننا، كانت زيارتهم لأهداف أخرى وهو ليس السؤال عن أبناء أخيهم المتوفي أو أبناء أختهم الأيتام، لكن لمنع أمي من العمل في البيوت، ياليتهم قدموا البدائل أو مدوا يد العون، كان حضورهم الموقر بعد وفاة ولدي بستة أشهر، فقالت أمي: من أين يأكل الأطفال؟

قال: أحدهم هذه مشكلتك أنت المهم لا تخرجي من البيت!! وإلا أخذنا الأطفال وربيناهم نحن!

نظرت أمي حينها إلى أخيها الأكبر تستغيث به، هز رأسه وقال: نعم هم على حق، يستطيعون أخذ أبنائهم.

قالت والعبرة تخنقها: يا ريت تستعجلوا في الإجراءات حتى أتمكن من أخذ مرتب الضمان.

قالوا: إن شاء الله وانصرفوا إلى حال سبيلهم.

عرفت فيما بعد أن سبب قدومهم كان تحريضا من زوجاتهم، لا خوف علينا أو على شرفهم كما قالوا. أصبحت أنا المسؤول عن البيت، في الشتاء أدرس وأجتهد في الصباح، وعندما أرجع أذهب لسوق الخضار، وأعمل على “برويطة” أحمل فيها بضائع المتسوقين، التي كانت عبارة؛ عن طماطم وخيار بطاطا وبصل وكوسه وطير ودجاج، كنت أسير بجانب الزبون حتى يضع الخضرة “كما نسميها نحن” في السيارة ويدفع لي مقابل هذه الخدمة ربع جنيه، وهناك الكريم من يدفع لي جنيها كاملا، وأرجع للبيت قبيل حلول الظلام مسرورا أحمل معي  بعض الخضار والفواكه وقليلا من المال، بعد نجاحي في الشهادة الإعدادية بتقدير ممتاز وشاهدني القاسي والداني، أصبح من الصعب على نفسي العمل على ” البرويطة” من جديد، وكنت أريد تحقيق حلم الوالد رحمة الله عليه وأنخرط في الجيش، أتدرب فترة من الزمن وأتحصل على مرتب أساعد به أمي، كان هذا طموح المواطن الليبي في تلك الحقبة، عسكري في الجيش ومرتب، كما يقول والدي ولا دوخ رأسك مرتب مضمون تعيش عليه، لكن أمي كان لها رأي آخر كانت تطمح أن تراني دكتورا كبيرا تفتخر بي بين الناس، دخلت تحت إصرار أمي للمرحلة الثانوية، وكان هناك نوع من الانفراج المادي بنزول أول مرتب ضمان للأسرة أي نعم كان قليلا على أسرة من خمسة أفراد، لكن كما قالت أمي: نواية تسند الزير.

تمكنا من العيش بالتسعين دينارا، بجانب ما كنت أفعله أنا وأخوتي من تجميع الخبز البايت أو كما نطلق عليه ” الخبزة اليابسة” ووضعها في الشمس حتى تنشف تماما ونكسرها ومن ثم نبيعها لمربي الأغنام. وعندما تخرجت من الثانوية بتقدير ممتاز ومجموع 99.92 بالمائة، وفتحت لي كلية الطب أذرعتها وأصبح حلم أمي قاب قوسين أو أدنى، وأجهتني مشكلة أخرى وهي التمويل، كلية الطب تحتاج إلي مصاريف كثيرة ومستمرة. ولا أستطيع العمل كالسابق لأن الدراسة صعبة جدا وتستهلك كل طاقة الإنسان، اضطرت أمي بالتضحية بأخي الأوسط، وقدمت له في الجيش “كتيبة الأمن” حيث كانوا يتقاضون في 200 دينارا، والذي يعد مبلغا كبيرا أمام مرتب الضمان؛ التسعون دينارا، الذي عشنا به فترة من الزمن. لم يعد أمامي عذر عن الالتحاق بكلية الطب في مدينة بنغازي

مقالات ذات علاقة

دموع العابرين

مهند سليمان

قهوة ( كريمة زيادة )

زكريا العنقودي

سُعدة.. مكالمة طارئة

عائشة الأصفر

اترك تعليق