قصة

رجل الأعياد

من أعمال المصور الفوتوغرافي طه الجواشي

سي علي مختار.. عجوز يقبع في دكانه الصغير بشارع بالة.. إلى جوار مخبر الضبع.. منذ أن فتحنا أعيننا على الدنيا كان منحوتًا بشوارعنا القديمة بمنطقة سيدي اخريبيش…

نحوم حوله مثل فراشات.. نتطلع إلى عطاياه من حلوى، ولعب.. تزاحمنا قطط الشارع في القفز إليه لالتقاط قطع لحم اشتراها من أجلها.. عندما يتجرأ أحدنا بالاعتداء على قطّة يعاقبه بحرمانه من حصة الحلوى.. ويقول له موبخًا: (لن تنال شيئًا إلى أن تكون صديقًا لهذه المخلوقات الصغيرة(.

منذ ذلك الحين أصبحنا نحن والقطط أصدقاء حتى لا نخسر ما يجود به علينا.. ليس لسي على سوى الدكان الضيق.. هو بيته في هذه الدنيا.. الجيران هم أهله.. يأتي المساء تغلف العتمة شوارعنا الضيقة المتلاصقة.. يوقد مصباح الكيروسين.. تكسو وجهه صفرة الضوء الباهت.. تظهر تجاعيده مثل تضاريس أرض طالها الجفاف. نشتري منه، الحطب، الفحم، الكيروسين وعلب الكبريت، يهدينا ابتساماته الودودة مع عطاياه.

عندما يتوغل الليل.. يطفئ مصباحه.. يغلق المحل.. ينام إلى أن يشرق صباح جديد، طوال العام.. كل المواسم يفتح أبواب محله ماعدا أيام الأعياد حيث نرى محله مقفلًا.. يدهشنا ذلك كثيرًا.. نسمع بعض الجيران يقولون: (سي علي مختار سافر إلى مدينته البعيدة لقضاء العيد مع أهله).

رابع يوم العيد يطل علينا العجوز محملًا بهداياه، وعطاياه، يفتح المحل من جديد نتقاطر إليه مغتبطين، تسبقنا القطط.

مرّت سنوات، مات العجوز علي مختار لكننا كنّا ننتظره رغم الغياب.. نتجمع قبالة محله في انتظار عطاياه كالعادة، تتسلق القطط باب الدكان الخشبي المنخور، تشم الجدران، وتراب الأرض وهي تموء! بعد أن يطرق قلوبنا اليأس نترك المحل، القطط وحدها تستمر تتمسح بالباب المغلق بين الحين والآخر.

كبرنا، فاكتشفنا سرّ إقفال العجوز لمحله أيام الأعياد، قال لي شيخ من رفاقه: (أتعرف لماذا كان سي علي مختار يقفل دكانه ويختفي أيام كل عيد؟). لم أجد إجابة. واصل العجوز بحرقة: (سي علي مختار مقطوع من شجرة).

أخبرني ذات مرةً بسرّه.. بعد أن طلب مني عدم إفشائه.. كان يغلق المحل ويختفي بعيدًا أيام الأعياد حتى لا يتألم أحد من أجله، أو يشفق الجيران على وحدته، الناس تعتقد أن له أسرة مثلهم.. بعد أن أفضى إليّ بما في قلبه قال ليّ: (اسمع أنا لا أود أن أكون نقطة حزن قاتمة تخيّم على الناس أيام عيدهم لذلك أختفي).

ظللنا نتذكر سي علي مختار كل عيد. نتخيله يطوّف شوارع المدينة.. يوزع على الأطفال هداياه.. ويمنح القطط بعضًا من دفء قلبه.


* سي علي مختار شخصية حقيقية من مدينة بنغازي.

مقالات ذات علاقة

حـكاية جـورب

محمد الأصفر

الساعة

أحمد يوسف عقيلة

التراب الوطني

أحمد يوسف عقيلة

اترك تعليق