المقالة

أوراق الصباح 5: الكتابة.. والصلاة*

من أعمال التشكيلي العراقي سعد علي

الكتابة..

هذا الوهج السحري الذي يتلبسك فيطهّرك ويسموبك.. كيف تتشابه مع الصلاة؟

هذا الشعور اللحوح الذي يدفع إلى نحت العبارات.. وتطريز الحروف.. والرسم بالكلمات.. هل يمكن رده إلى رغبة في التفريغ؟ هروب من الشعور بالمحاصرة؟ شجار مع النفس أو مصالحة معها؟ محاولة الإجابة على سؤال مُلح موجَّه من العالم أو إليه؟ الدخول في حوارٍ مع الكون والناس والأفكار والقيم والمفاهيم؟

الكتابة انفلات من مضائق هذا العالم إلى مدى لا يسمح بغير التجلّي والانعتاق والعروج.. الكتابة قدرٌ جميل.. وأحياناً لعنة مؤرقة..

ولكنها أيضًا مرفأ وظل يتفيؤه الإنسان.. وجناح يتنقّل به عبر مساحات مذهلة، تمتدّ بين الأبد والأزل.. وعندما يُنجز الكاتب نصّاً مكتوباً نحت كلماته من حناياه، يشعر بأنَّ ثقلاً تلبّس نفسه قد انزاح، فخفّ وزنه على الأرض.. وتطاول بروحانيته لاقتطاف النجوم.

وبالنسبة لي، تتشابه أوقات الكتابة عندي بأوقات العبادة، وبالصلاة تحديداً.. فكلما اقترب موعد صلاة، أحسست بأنَّ هناك في نفسي عبأً ثقيلاً، وأنَّ بقعة رمادية قد تكونت في غفلة مني تزداد انتشارًا في حناياي.. وإذا انشغلت عن الصلاة، ضاق صدري، وتناهبني القلق واثّاقلتُ إلى هلاميّة الطين.. فإذا ما وقفتُ لأدائها، واتصل وجداني بمشكاتها، انقشعت الظلمات عن نفسي غبشة غبشة، وتحوّلت تلك البقعة الرمادية الثقيلة إلى حزمة من الألوان المشرقة المنتشرة في تؤدة عبر الذات، فترتشفها بصيرتي في إطالة السجود.. ومناجاة كنه الوجود.. وتتمرجح روحي متلذّذة في لانهاية المدى الممتدّ بين السماء والأرض، في لحظات مشحونة بالطمأنينة والرضا.. حتّى إذا أكملت الصلاة، وأوصلتها بشيء من الذكر والنجوى، عدت تدريجيًا إلى عالمي الأرضي الأكثر أمناً.. مشحونة بطاقة جديدة تملأني بشعور جميل بأنّني قد أنجزت شيئًا..

كأنّني فعلاً قد كتبت قصيدة رائعة.. أو نصاً أدبياً ماتعاً.. أو رسمت لوحة فريدة.

هذه الحالة نبهتني إلى أمرين.. أولهما شخصي والآخر موضوعي:

الأوَّل: يتعلّق بقلمي الذي اضطر إلى الصمت لأسباب عدّة.. منها الاستغراق في التحصيل الأكاديمي، الذي يتسلط فيه المنطق والمنهجية والقياسات العلمية الجافة.. والذي يُفرض فيه تحديد المعنى وتشذيبه وقدّه من أطرافه، حتّى إذا تماديت في ذلك وجدت نفسك تنعزل شيئاً فشيئاً عن الكتابة الذاتية الفضفاضة الموحية..

وبالإضافة إلى ذلك إذا اضطرر الإنسان إلى اقتلاع جذوره العنيدة من تربتها الأصلية، تحوّل إلى نبتة منقولة تعيش على الأسمدة الصناعية، أو عشبة وُضعت في غير تربتها، ففقدت الانتماء الحقيقي الذي يبعث فيها دورة الحياة والنمو.. وحين يتمّ ذلك بشكل اضطراري قسري، تتراجع كل الرؤى “الكونية” و”الشمولية”، وتنحسر النظرة الكلية للتاريخ الإنساني، لتصبح كلّها ضرباً من التهويمات الفكرية، والمفاهيم الطوباوية التي لا تعيد للذات قدرتها على الإبداع.. وهنا تصبح ذاتاً محاصرة مصابة بالانشطار.. الانشطار بين الانتماء والاغتراب.. وبين الفنّ والعلم.. وبين الأداء الأكاديمي والابداع الأدبي.

لهذا – ربّما – هرع لاشعوري إلى استعمال ما يُسمى في علم النفس بتقنية الدفاع عن الذات (Self Defense Mechanism) فعوّضني عن عملية الابداع، المؤدية إلى الشعور بالتفريغ والتطهير والتسامي، بشيء أبعد وأعمق من ذلك، ألا وهو الصلاة.. فكانت البديل الذي يمنحني الإحساس بالراحة وفكّ الحصار والتجدّد.. تمامًا مثل ذلك الشعور الذي استمتع به كلما أكتب شيئاً ذا قيمة، والذي مازال يتلبّسني كلما جادت القريحة الشحيحة بشيء أدنى من الحلم.. وأكثر مكابدة لمدّ الفكرة واتساعها، وجزر العبارة وانحسارها.

الأمر الثَّاني: الذي نبهتني إليه مقاربة الكتابة للصلاة ذلك التماثل بين الصوفي والفنان، حتّى ليمكن القول بأنَّ معظم المتصوّفة هم في حقيقتهم فناّنون، وأنَّ معظم الفنانين هم بطريقة ما متصوّفة.. فكلاهما يتميز بشخصية عالية الحساسية، يتحكّم فيها الذوق والتّجلي.. وكلاهما يتطّلع إلى الفيض الذي يجرفه، والمدد الذي يحرّره، آملاً في “فتح” يسمو به فوق سلبيات الواقع، لتتجلى له المعاني الراقية، المتوالدة من الجدلية المعقودة بين اتساع الرؤية وضيق العبارة، وبين نفاذ الحدس، وانحسار المعجم.

وإذا كانت الصلاة أداة الصوفي.. والإبداع أداة الفنان.. فما أشبه الكتابة بالصلاة.

مقالات ذات علاقة

أنـا مـدون… أنـا حــر!

فاطمة غندور

راهب المدينة القديمة

المشرف العام

6 مقالات قصيرة

محمد دربي

اترك تعليق