قصة

يلعن بوك بلاد

مدينة تحت المجهر.. من أعمال التشكيلي صلاح بالحاج

في اليوم الخامس عشر أطلقوا سراحه.. كان يتأمل مأساته بعينين تحدقان في الفراغ، وفي سقف الزنزانة الذي استحال لونه إلى لون الرماد، عندما اقتيد ككل صباح إلى مكتب الضابط الذي استجوبه طوال الأسبوعين الماضيين…

وقف أمامه في وضعية الاستراحة، التي تعلمها في التدريب العسكري العام عندما كان في الخمسين من عمره.. نظر إليه الضابط من خلف مكتبه، وهو يلوك سيجارة مشتعلة وقال له: “شدة وزالت يا حاج مصباح الآن تأكدنا أنه لا علاقة لك بهذه القضية مجرد تشابه أسماء، من هنا إلى البيت وما فيش داعي لكثرة الكلام، يوم اللي نعرف انك قلت وين كنت نعرف وين نلقاك.. تفضل واعتبر نفسك حر من هذه اللحظة.. مع السلامة”، وأشار إليه بالخروج.

تلفت حوله، ثم أتجه نحو الباب، حيث كان ينتظره عسكري في عمر ابنه، قاده إلى بوابة المعتقل دون أن يتفوه بكلمة واحدة.. هكذا وجد الحاج مصباح مفتاح الأطرش نفسه بعد أطول أسبوعين في حياته خارج المعتقل.. انتظر حتى تأكد أن البوابة الحديدية التي لم يرها إلا الآن قد أقفلت خلفه، ثم تأمل المشهد أمامه.. كان بالضبط على الطريق الساحلي شرق طرابلس.. نفس الطريق الذي مر به آلاف المرات طوال عمره الوظيفي كسائق في شركة ليبيا للتامين.. إنه الآن أمام معتقل تاجوراء على بعد خمسة عشر كيلومتراً من بيته.. قبل أطراف أصابعه ورفعها نحو رأسه شاكراً الله أنه قريب من بيته، واتجه من فوره نحو الطريق المعبد الذي تجري فوقه سيارات من كل صنف، وفجأة توقف.. اكتشف أنه تقريبا لا يرتدي شيئا.

كان منذ أسبوعين تقريباً قد انتهى من حلاقة ذقنه كما كان يفعل طوال سنوات عديدة، ولم يغير التقاعد الذي أحيل إليه منذ ثلاثة أشهر من عاداته اليومية وخاصة في الصباح، عندما رن جرس الباب بشكل ملح، وأعقبته طرقات على الباب أكثر إصرارا.. بينما كان يمسد وجهه، وصلعته الضاربة إلى البياض خلافاً لوجهه الأسمر، سمع زوجته التي كانت في المطبخ تعد له الإفطار وهي تقول: ”الباب ..الباب يا حاج”. صرخ منفعلاً: “باهي باهي”.. مسح وجهه بالمنشفة وهو يشتم ابن الجيران، وقرر إذا كان ابن الجيران، وجاء يطلب السكر أو الشاي أو القهوة، أو الملح فسيطلب منه إحضار الكتيب الاستهلاكي هذه المرة.

اتجه نحو الباب بخطوات غاضبة بينما كان يرتدي سروالاً عربياً أبيض اللون، ويستر نصفه الأعلى قطعة بيضاء من الملابس الداخلية تعود الليبيون على تسميتها بـ”الكانتيرا”.. قطعة قطنية بسوارين فوق الكتفين يبرز منها شعر الصدر، والإبطين، وينتعل شبشب من المطاط، وكان قد ترك غطاء رأسه قرب الوسادة.. بهذه الهيئة فتح الباب فجأة فلم يجد ابن الجيران المزعج، وإنما ثلاثة أجلاف يقفون خلف سيارة عسكرية بنية من نوع الرانج روفر.. كانت المنشفة لا تزال تحيط رقبته، وتنسدل على صدره، عندما بادره أحدهم :”أنت مصباح مفتاح الأطرش”. نظر نحوهم بعيني ثعبان وهو يحاول أن يخفي عريه، وقال: “ايوه”، وقد ضيق من فتحة الباب.. سحبوه فجأة من خلف الباب بينما أحدهم يقول: “تعال معانا خمس دقائق”.. قاوم بكل ما تبقى من قوة لرجل تجاوز سن الخامسة والستين بثلاثة أشهر، ومع ذلك لم ينجح إلا في الاحتفاظ بالمنشفة.

سمعت زوجته الضجة، وعندما وصلت إلى الباب لم تجد من زوجها إلا الشبشب.. خرجت إلى الشارع وهي تولول، ونسيت أن تغطي رأسها بردائها، ولم تجد في الشارع الخالي إلا ابن الجيران الذي كان يواظب على طرق بابهم كل يوم، والذي بادرها قائلاً :” أخذوه جماعة الأمن”.

لأول مرة منذ أسبوعين يكتشف أنه شبه عار وأن ملابسه التي كانت يوم اعتقاله ناصعة البياض اتسخت بالعرق والقئ والمخاط، وأن المنشف قد تخلص منه بعد أسبوع من اعتقاله، عندما اجتاحته نوبة غضب فكومه بين يديه ورماه بكل قوة، وهو يقول: “منو اللي يمسح في الثاني”، وأن شعر ذقنه الذي انتهى من حلاقته ذاك الصباح قد نما واختلط فيه البياض بالسواد.. فكر قليلا، وقرر العودة إلى المعتقل والاتصال هاتفياً بالبيت، وسيأتي ابنه لينقله بالسيارة، ولكنه طرد هذا الخيار فوراً من رأسه.. خشي أن لا يتركوه يخرج مرة أخرى .. قرر أن يوقف أول سيارة أجرة، ويذهب فوراً إلى بيته في طريق المطار.. ابتعد قليلا عن مدخل المعتقل، ووقف على الطريق المتجه إلى طرابلس.. كان محرجاً حتى أنه لم يعرف أين يضع يديه، وما أن اقتربت أول سيارة أجرة حتى رفع يده مشيراً للسائق بالتوقف ..خفض السائق سرعة السيارة، ونظر نحوه باشمئزاز وقرف، وكذلك فعل كل الركاب، وسمع شاباً يجلس بجوار السائق يقول: “انشاء الله كل ما يعطي باللطف”.. مرت عشر سيارات أجرة ولم تتوقف أي سيارة, كان الجميع ينظر إليه باستغراب.. أحد السائقين أبطأ سرعة السيارة.. نظر نحوه وقال: “هذا حتى الجيوب ما عنده”، وانطلق قبل أن تسنح له فرصة الحديث معه.

قرر أن يتجه نحو مركز البحوث الصناعية، ومن هناك يتصل بالبيت من أحد الدكاكين أو من محطة الوقود.. اتجه بقدمين حافيتين ومتسختين نحو الغرب، وهو يتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعه.. كان طوال الطريق يسمع تعليقات من المارة رجالاً ونساءً وأطفالا: “شكله هارب من مستشفى قرقارش”، “الحاج يتريض”، “شوف كيف أهله طالقينه في الشارع”.

وقف أمام احد الدكاكين وطلب من صاحب المحل أن يسمح له باستخدام الهاتف.. نظر إليه صاحب المحل بريبة، ثم سمح له باستخدام الهاتف، عندما قال له: “الله يستر عرضك استر عرضي” تقدم نحو الهاتف وأدار نفس الأرقام التي حفظها منذ زمن بعيد، ولكنه تردد في الرقمين الأخيرين، فكر قليلاً أيهما يسبق الثاني.. كان صاحب الدكان ينظر نحوه، وخشي أن يحسبه مثل الآخرين مجنونا، فضغط على الرقمين كيفما اتفق، وكان الرقم مشغولا.. أعاد الاتصال وأبدل ترتيب الرقمين الأخيرين.. ردت عليه سيدة وقالت له أن الرقم غلط.. ارتاب صاحب الدكان أكثر, وطلب منه أن يترك الهاتف لأنه ينتظر مكالمة مهمة.. شكره بلطف وغادر الدكان بينما صاحب الدكان يتبعه بنظرات حائرة.

في محطة الوقود رفض العاملون السماح له بالاقتراب من الهاتف، ودفعه أحدهم بشئ من الخشونة خارج الغرفة. لمح إحدى سيارات الأجرة تتزود بالوقود، وليس بها ركاب.. طلب من السائق أن يوصله إلى بيته مقابل أي مبلغ، ولكن السائق الذي شاهد العمال يطردونه رفض بحجة أنه متجه نحو الخمس.. اتجه نحو الحنفية وشرب منها ليطفئ ناراً تضطرم في صدره.. نظر إلى الدنيا بقرف وقرر أن يذهب إلى بيته على قدميه، وهكذا اتجه نحو الطريق الدائري.

عندما وصل إلى الطريق الدائري شعر بالراحة، لأنه طريق مقفل بسياج من الجهتين، ولا يمكن الدخول إليه أو الخروج منه إلا عن طريق الجسور، هكذا تخلص من تعليقات المارة.. كانت السيارات المسرعة تبطئ كلما اقتربت منه، ويسمع تعليقات غامضة لم يعد يهتم بها، وبعض السائقين يحييه بالضغط على المنبه.. واصل السير وكأنه لا يوجد أحد غيره على الطريق، وبعد مسافة شعر أن قدميه الحافيتين قد تورمتا من السير فوق الرصيف الإسمنتي.. جلس تحت أحد الجسور وأخذ يدلك قدميه.. توقفت بالقرب منه سيارة “غولف” بها طالبات متجهات نحو الجامعة.. أطلت إحداهن من النافذة وقالت: “الله شكله يجنن”.. طلب منهن أن يوصلنه إلى طريق المطار.. أومأت له السائقة بالموافقة، وعندما اقترب من السيارة انطلقت بسرعة.. لمحهن يضحكن بينما السيارة تبتعد.. واصل السير رغم قدميه المتورمتين، رغم المرارة التي فاضت من أعماقه.

بينما كان يقترب من أحد الجسور لمح فوقه تلاميذ متجهين نحو المدرسة بمعاطفهم المدرسية الزرقاء، وحقائبهم فوق ظهورهم.. كانوا بين السادسة والعاشرة ..لمح أحدهم يشير إليه من فوق الجسر، ثم تجمع الجميع واخذوا يصرخون بصوت واحد: “المجنون اهوه.. المجنون اهوه”، وفجأة أخذوا يقذفونه بالحجارة.. هرول بكل ما يستطيع من قوة ليختفي تحت الجسر.. وصل منهكاً وقد أصابه حجر على كاحله.. جلس على المصطبة الإسمنتية وهو يصرخ :”حتى انتم يا زريعة الربا، يا فروخ الحرام”.. جلس يكمد كاحله، وهو لايزال يستمع إلى هتافاتهم وضحكاتهم، وقدر أنه لو واصل السير فسيرجمونه بالحجارة.. رأى صندوقاً كرتونياً ملقى بجوار الطريق قرر أن يستخدمه لحماية رأسه.. انتظر قليلاً كان لايزال يسمع صخبهم، ومن تعليقاتهم عرف أنهم يترصدونه من الجهتين، ويبدو أن عددهم قد تضاعف.. عبر الطريق من تحت الجسر، وقفز من فوق السياج إلى الطريق المتجه نحو شرق المدينة.. كمن تحت الجسر حتى تأكد أنهم في الطرف البعيد من الجسر.. أدخل رأسه في الصندوق الكرتوني وهرول بكل ما يستطيع من قوة.. ارتفعت هتافاتهم الحادة: “المجنون اهوه.. المجنون اهوه”، وتدحرجت خلفه الحجارة لكنه كان خارج مرمى حجارتهم…

نزع الصندوق واستمر في سيره الحثيث بينما راكبو السيارات الذين أصبحوا في مواجهته يضحكون.. قرر الانتقال إلى الطريق الأخر حتى لا يكون في مواجهة السيارات.. بعد مسافة شعر بآلام مبرحة بين فخذيه، فالأوساخ والعرق جعل سرواله الداخلي في خشونة المبرد، وتسلخ جلده بالكامل.. تمنى لو يستطيع لنزع سرواله الداخلي.. اخذ يسير منفرج الساقين متحاشياً الاحتكاك بين ملابسه وجلده دون جدوى.. تحت أحد جسور الهضبة الخضراء جلس ليستريح، وليدلك قدميه المتورمتين، وقبل أن ينطلق من جديد صنع من صندوق الكرتون نعلين ربطهما حول قدميه بالشريط البلاستيكي الذي وجده مع الصندوق، وانطلق يسير منفرج الساقين مثل حرباء ضخمة تمشي على طريق طرابلس الدائري.

من فوق جسر طريق المطار لمح حيه بخزان مياهه الأصفر، كان عطشان كما لم يعطش في أي يوم من أيام حياته، حتى أنه لم يجد في فمه لعاباً ليزدرده.. هبط الجسر متمهلاً نحو الحي الذي يعيش فيه منذ خمسة وثلاثين عاما.. عبر نحوه من خلال ثقب صنعه المارة في السياج الحديدي، وعندما لامست قدماه التراب نزع ما تبقى من نعله الكرتوني، وشعر بنعومة التراب.. اقترب من شارعه الترابي، وفي أعماقه يدمدم صوت غاضب لم يتبنينه للوهلة الأولى، وكلما اقترب من بيته يزداد الصوت وضوحاً.. ردد بشفتين جافتين هدير أعماقه، وكأنه يريد التخلص من هذا الهدير: “يلعن بوك بلاد.. يلعن بوك بلاد”، وهكذا ارتفع صوته بكل قوة ووضوح.. انفتحت الأبواب فجأة.. انفتحت النوافذ وأطلت رؤوس سافرة ومحجبة، وأخيراً خرج كل سكان الشارع والتحقوا بجارهم القديم.

___________________________________________

* نشرت بالعدد الثاني عشر من مجلة (الحقيقة). وأعيد نشرها بموقع (ليبيا المستقبل). وهي تنشر هنا نقلا عن (السقيفة الليبية).

مقالات ذات علاقة

شاي بالنعناع

هدى القرقني

جميلة

حسن أبوقباعة المجبري

ألواح يوهسبيريدس

محمد العنيزي

اترك تعليق