قصة

تعويضة

من أعمال التشكيلي المغربي خليل بوبكري (الصورة: عبدالمجيد رشيدي-المغرب)

أنا لا أدري من أين تأتي تلك النتفة من القطن التي تجدها أحيانا في تجويف سرتك !
كذلك اليوم الدراسي قد انتهى، وقد تعوّد الطلبة دائمًا على أن ينتشروا في تلك الحديقة خلال أيام الصيف الدافئة، متوسدين كتبهم أو أحذيتهم.
كانوا قد قدموا من معظم بلاد العالم ورغم الشعور بالوحدة والغربة الذي ينتابك في الأيام الأولى من دراستك إلا أنك تكتشف بعدئذ أن في إمكانك أن تعقد صداقات طيبة معهم.
تطلع (بيتر) إلى قرص الشمس بعين واحدة بينما أولج إصبعه داخل قميصه متحسسًا به سرته، ثم التفت ناحيتي دونما اهتمام، وقال :إن الأمر يبدو كما لو أن أمعائي تغزل القطن !
كان طالبا سويسريا ، وكانت ملابسه رثة أبدا، وشعره غزيزًا متهدلا فوق كتفيه، وكان يشتغل بين حين وآخر في مطعم المدرسة ويقوم بغسل الصحون لكي يسد نفقات دراسته …وكان متفوقًا للغاية !
قلت له إن هذا يحدث لي أيضا
أراح رأسه فوق حذائه ثانية، فيما ظل إصبع رجله الكبير يهز رأسه خارج الثقب الموجود في جوربه، ثم قال مغمض العينين:
أعتقد أننا لا نستحم جيدا …أعني بما فيه الكفاية !
قلت له :
أنا أعتقد ذلك أيضا.
وتثاءب بعمق، ثم نهض مستندا إلى مرفقه، وقال:
إنني أود ذلك حقيقة أعني أن أغتسل كل يوم ولكنني حين أفرغ من غسل تلك الصحون وأرجع منهكا للبيت أتذكر على الفور أنه يتحتم عليّ أن أغسل حوض الحمّام أيضا بعد ذلك أستحم، وعندئذ يتمطى شيئ ما في دماعي وبنصحني بأن أؤجل كل ذلك إلى يوم آخر …هذا كل ما في الأمر !!
قلت له بلا اكتراث:
هذا ما كان يحدث لي أيضا ، إلى أن استشرت طبيبا
ذات يوم فيما يتعلق بتلك النتفة
حسنا ماذا قال لك ؟
لم يقل شيئا ، ولكنّه وجد فيما كان يفحصني شيئا غريبا في تجويف سرتي.
سألني باهتمام :
ماذا وجد ؟
قلت له :
دودة القطن !!
قال بخيبة دون أن ينظر إليّ :
يا إلهي، أية كذبة هذه !
وأقبلت (كاترين) وافتشرت الجريدة معها ثم جلست عليها بجانبها.
كانت تشتغل في ثسم الاستعلامات بالمدرسة، وكان الجميع يدعونها(كات) لأن عينيها الخضراوين تشبهان عيني قطة..وكانت دائما لا تألو جهدا في مساعدة أي طالب …ورعم الابتسامة الودودة المعلقة أبدا على شفتيها إلا أنها بدت حزينة ذلك اليوم !
سألها (بيتر) بلطف:
ما بك؟ أنت لست على ما يرام ، أليس كذلك ؟
قالت مطرقة الرأس، باستياء :
إنني أفكر أن أترك العمل بهذه المدرسة
ونظرنا تجاهها باستغراب ، على حين سألت :
ما الذي حدث ؟
ونفضت بيدها في ملالة قائلة :
إن الأمر لم يعد يحتمل…ألم تسمع ما حدث الليلة الماضية ؟
قال (بيتر):
لا …ماذا ؟
ولكنها عندما بدأت تحكي أدركت كل ما حدث
كان ثمة مجموعة من الطلبة الليبيين قد قدموا للدراسة في نفس المدرسة على حساب إحدى الشركات، وحين هبطت بهم الطائرة في مطار(جاتويك) بلندن، كان واضحا جدا إنهم سكارى للغاية، فيما تأبط معظمهم زجاجات أخرى كانوا قد ابتاعوها من الطائرة ذاتها وطفقوا بتجرعونها على طول الطريق في الحافلة التي أقلتهم إلى (بورمث) حيث توجد المدرسة.
كانت إدارة المدرسة قد هيأت لجنة لاستقبال أولئك الطلبة وكانت(كات) لسوء الحظ من ضمن أفراد اللجنة
كانت تلك أسوأ حفلة استقبال شهدتها (بورمث) فما إن بدأ المدير في إلقاء كلمة الترحيب المعتادة، حتى انطفأت الأضواء في أعين بعض الطلبة، وأصابهم الدوار، ثم شرعوا يتقيأون في وسط الصالة، على حين اغتنم الباقي هذه الفرصة، وهجموا على (كات) مثل ذئب مسعورة مزمعين التهامها كلها …حتى العظم !!

فالت (كات) بعد أن فرغت من سرد حكايتها :
إن الأمر لم يعد يحتمل حقا، فهذا يحدث بالإضافة إلى ما لقيته في السابق من طلبة مماثلين …أعني أساليب القرص، والمغازلات الفاضحة، والدعوات الشبقة و..و.. وغير ذلك !
كان الخجل يحرق جبيني، وما كنت قادرا على أن أقول أيّما شيئ لبعض الوقت، فيما شعرت بأنني أتضاءل باطراد إلى أن أصبح مجرد قملة ستلقى حتفها في أية لحظة عبر مقصلة ظفرين حاقدين !

كانت الشمي قد انبثقت ثانية من خلف ركام السحب، ثم تطلعت إلى (كات) وقلت لها بجدية مطلقة:
ذلك يحدث بسبب رجل يدعى (تعويضة) !
واستفسرت قائلة :
من ؟ تاويدا ؟!
قلت لها مصححا :
إن اسمه (تعويضة) وليس (تاويدا)، هل سمعت عنه من قبل ؟
لا أبدا !
جذبت آخر نفس من لفافتي، وإذ رميت بالعقب قلت باستغراق
حسنا إنه في الواقع نصف رجل ، وقد كان يسكن دكانا في زقاق قذر في ( الفندق القديم) ببنغازي، وكان وجهه غير حليق أبدا، وكانت عيناه قبيحتين مثل عيني صيني أحول، كان فمه يكاد يكون أهتما، أما بقية أسنانه فقد كانت متسوسة، كان حافيا أبدا وكانت ملابسه متسخة باتصال..كان يرفع طرفي حاجبيه في استجداء حين يتحدث، ناشرا خنصره إلى أعلى عبر حركات يده المتموجة وكانت كلماته تنبعث خافتة متكسرة مثل أية عاهرة عجوز وكانت رائخة دكانه المعتم آسنة إلى حد الغثيان.
والتفت(بيتر) إلى (كات) وقال لها :
لا تنصتي إليه، لقد بدأ يكذب !
قلت له :
أنا لا أكذب، بيتر، أقسم لك.
سألني بصبر نافد:
حسنا، ماذا يعني ذلك؟
تقصد تعويضة ؟
قال أجل ، تاويدا !
صمت قليلا متطلعا في عيني (كات) الخضراوين ثم قلت:
كان الصغار يأتون إليه في دكانه الصغير في بنغازي يترددون عليه باتصال، مخبئا كل واحد منهم قرشين في دكة سرواله..كنا نذرع الخرب والطرقات بحثا عن النحاس كنا نسرقه أحيانا من بعض المخازن ثم نبيعه إلى (سيدي سعيد) البقال في الفندق القديم ثم نحمل نقودنا بالتالي إلى تعويضة الذي يدسها في جرابه المسود بحرص بالغ، ثم يحملنا فوق كتفيه واحدا بعد آخر ويطوف بنا بقاع العالم، كل العالم في لحظة واحدة !
زفر (بيتر) قائلا :
أنا علي اللعنة إن كنت قد فهمت أي شيئ !
ونظرت في عيني (كات) ثانية على حين تبدى في خاطرى مرأى ساحة( الفندق القديم) الصدئة، وحوانيت الحدادة والمحاريث والنوارج، والعربات العتيقة المتحطمة،المكدسة هناك والقنابل المفرغة والخيول والحدوات الملتبة وعجلات عربات(الكارو) القديمة والسكارى وباعة (الصفصفة)، واللصوص الصغار، والأتربة، والصدأ والجدران المهترئة، والضجيج !
قالت (كات):
حسنا، وماذا بعد ؟
كان تعويضة يفترش دائما ذلك النطع المغسول منذ زمان في(بئر الكلبة)، وكنا ننظر إليه كما لو أنه بساط الريح كان نصف رجل أحول، كان قميئا متسخا …ولكنه كان في وسعه أن يحمل أيما أحد فوق كتفيه مقابل قرشين ويذرع به كل الآفاق !
قال (بيتر) الذي بدأ يثيره الحديث :
يا إلهي، هل تعني أنه …
قلت مقاطعا :
أجل ..أجل !
وسألني على الفور ألا يزال حيا ؟
لا لقد مات منذ زمن، إنه بالرغم من أنه كان يعيش بمفرده في ذلك الدكان ، إلا أن وفاته اكتشفت في نفس اللحظة التي مات فيها ، على أية حال أنا أعتبره حيا حتى الآن، حيا على نحو ما ، أعني أن المرء حين يأتي من بنغازي إلى هنا يكون في الواقع قد جاء ممتطيا ظهر تعويضة بطريقة ما هل تدرك هذا ؟
لكنه لم يقل أي شيئ، فيما فتحت (كات) عينيها إلى آخرهما، واكتسى وجهها بحمرة مفاجئة حين رفعت بصري إليها، على حين أخذ(بيتر) ينظر إلى العمال اللذين خرجوا من الباب المقابل حاملين جرادلهم وفرشاتهم.
كانوا قد فرغوا للتو من إعادة طلاء جدران دورات المياه الداخلية بالمدرسة، التي كانت ملئة بالكلمات القبيحة، ورسومات موشي دايان ونيكسون في أوضاع مخجلة !!
قال (بيتر) :
لقد أدركت ما تعنيه، وماذا أيضا ؟
أشعلت لفافتي الأخيرة، وجذبت منها عدة أنفاس بعدما رميت بالعلبة المفرغة بعيدا، ثم قلت:
إن الأمر يبدو هينا حين يقتصر على هذا الحد
وتطلعت (كات) باهتمام بالغ ..فيما واصلت حديثي شاعرا بمرارة قاهرة تسبح عبر صدري :
إن تعويضة لايزال يحملنا فوق كتفيه حتى الآن وكلن هذه المرة بالمجان ، إنه يحملنا هناك بطريقة ما، ويطوف بنا كل الأعراس الشبقة في المدينة ، هل تعلمين ماذا يحدث بالضبط؟ حسنا إننا نجلس هناك ونتجرع نهرا كاملا من الخمر ، ثم نطالب تعويضة من نوع آخر…تعويضة آخر لا يرضى بمجرد القرشين، إننا نطالبه بأن يرتدي زي امرأة ويقف بيننا ويرقص بشهية ، فيما نظل نعوي مثل ذئاب مسعورة، زارعين كل أوراق نقودنا في حزامه، حالمين بحصاد آخر الليل..وبساط الريح !!
كنت أشعر برغبة ملحة في أن أبصق في وجه أحد ما ، وكنت مغتما على نحو يدعو إلى الشجار، غير أنني تطلعت إلى وجه (كات) قائلا :
هل يفسر لك هذا ما حث في الليلة الماضية ؟
هزت رأسها دون أن تقول أية كلمة ، على حين التفت ناحية(بيتر)، الذي بدأ يتحسس بإصبعه تجويف سرته وقلت له :
معذرة، هل لديك سيجارة ؟

27 مارس 1971م

مقالات ذات علاقة

لعنة الطريق السريع

رحاب شنيب

صنعة اليدين

أحمد العنيزي

المِصْعَد

عبدالرحمن جماعة

اترك تعليق