الجزء الثاني: التداخل النوعي والإجناسي في الحكاية القديمة عن الجد
2.5.1 المكونات النوعية في الحكاية القديمة عن الجد
تتضمن حكاية الجد مكونين هامين يدخلان – بحكم طبيعتهما الزمنية – ضمن السرد التاريخي، بالإضافة إلى وجود عناصر تعزز هذا البعد التاريخي وهي تلك الوثائق والرسائل المرسلة منذ زمن ويمكن أن نجملها كما يلي:
- سيرة الصحراء وأهل الصحراء في ذلك الزمن.
- حكاية العم يوسف وزواجه من أهل سكتو .
- الوثائق التاريخية.
ويمكن ان نفصل في كل ما سبق كما يلي:
أولا. سيرة الفضاء المكاني وأهله:
كانت الرواية مادة لتصوير الفضاء المكاني وأهله من جوانب متعددة منها ما يلي”
- معمار مدينة غدامس:
نتابع ضمن السرد والأحداث حوارا حول معمار المدينة بين إبراهيم ابن غدامس وبين ابن العم يوسف القادم من الجنوب، لنتابع هذا الاسترسال في التعريف بالمعمار وخلفياته في غدامس في المقطع التالي الطويل:
“- أظن ان كل من يزور الواحة لأول مرة يسترعي انتباهه أن دروب المفضية للأزقة والبيوت تضيق في أماكن وتتسع تدريجيا في أخرى .. وفجأة تضيق على حين غرة .. كما يتخللها بعض الأماكن المظلمة والأخرى شديدة الظلمة , هذا عدا أنها ليست على استقامة واحدة , وغير هذا فأسقف الممرات مختلفة الارتفاع .. فتارة تكون في قامة الرجل العادي وتارة أخرى تعترضك العوارض الخشبية للأسقف .. وتكون في مستوى يضطرك للانحناء .. وفي أحيان قليلة تكون عالية الأسقف .. وبدون سابق إنذار تجد نفسك في ميدان واسع .. يفضي بك لدروب فرعية أخرى .. تكون مظلمة ومخيفة فماذا تقصدون من وراء هذا البناء ؟ .. لأني أعتقد انه قد صمم ليكون له غرض ما .
– أهنئك على استنتاجاتك التي اصبت بها عين الحقيقة .. فالغرض من هذا التصميم وبهذه الطريقة بالذات ….. هو أهم ما شغل بال الانسان منذ حل على هذه البسيطة ” الأمن والأمان”.
(…)
– بالتأكيد …. فالداخل إليها دون دليل من أهلها فأول ما سيلاقيه التيه في دهاليزها وأحاجيها ومتاهاتها وخصوصا إذا كان دخوله ليلا فسرعان ما يُكتشف أمر الغريب .. لأنه حتما سيصطدم إما بالعوارض الخشبية المفاجأة وإما بالتواء الأزقة والممرات وعدم استقامتها .
– هذا شيء رهيب !!! وما أن يصطدم بشيء حتى يحس به أهل البلد ويعلمون بوجود داخل غريب فيحتاطون له !!! .”[1]
كما نتابع في المقطع التالي طبيعة الرموز الغامضة هنا وكذلك طبيعة المرايا داخل بيوت مدينة غدامس القديمة:
“- لا أدري لمَ أحس بالغموض يلف كل شيء حولي , فيبدو أن هذه الزخارف تبدو للناظر كنوع من الزينة في حين أنني أحس أن في طياتها رموزا وسطورا وكلاما أخفاه كاتبه .
سكت قليلا منتظرا ردا من دليله على هذه الملاحظة فأردف :
– كما أن لهذه المرايا وظائف أخرى غير الزينة والإنارة أليس كذلك ؟
– في الواقع نعم .. فلبعض هذه المرايا المختلفة الأحجام والأوضاع والزوايا وضيفة أخرى , تتمثل هذه الوظيفة في مراقبة مداخل البيت العلوية والسفلية وما يجري في غرف البيت عن طريق انعكاس الصور من مرآة إلى أخرى.
سكت برهة فاسحا المجال لرفيقه لملاحظة الزوايا التي ثبتت بها المرايا في الجدران وطريقة الانعكاس وبعدها أضاف :
– فمثلا تستطيع المرأة من دُرج الدور العلوي مشاهدة ما يجري في هذه الباحة من خلال مرآة مخصصة لذلك ,,,, كما يمكن للجالس في صدر البيت رؤية الداخل من أسفل عن طريق النظر في هذه المرايا .
اشار إبراهيم في كل مرة لبعض المرايا امعانا في التوضيح :
– هذا رهيب وعجيب … اعتقد ان كل هذا يدور في فلك الحماية والحرص والأمن والحذر. “[2]
الوصايا والعادات الاجتماعية
نتابع هنا جانبا من الوصايا التي تحكم ما يجوز وما لا يجوز من العادات والوصايا الاجتماعية وهي سردت ضمن ما ينقله خالد ابن العم عبدالقادر عن أمه وجدته، وهي كما يلي:
” أضاف ابنه خالد بابتسامته الهادئة التي ورثها عن أبيه :
– لقد حكت لنا جدتي رحمها الله وغفر لها أن هناك وصية من أحد أجدادنا لأبنائه وأحفاده تحذرهم من الزواج في البلدان الأفريقية وتحثهم على عدم الاستقرار هناك .
أضاف الحاج إسماعيل مشاركا في الحديث :
– كما أخبرتنا أمي حفظها الله أن هذا الجد قد وضع لهم حدا لا يتجاوزونه في تجارتهم , وأظن أنها مدينة أقاديس والتي تقع في شمال النيجر وألا يتوغلوا في البلدان السوداء وألا يتعاملوا في تجارة الرقيق أيضا .. وألا يتزاوجوا هناك.”[3]
بينما نتابع في أخر الرواية الروائي وهو يصنع صورة الشباك الغدامسي ويصفه بكونه من أهم معالم العمارة الغدامسية ويضع صورة لذلك الشباك.
ثانيا: الجانب المتخيل في السرد التاريخي
تدخل قصة سفر الجد يوسف إلى الجنوب حيث سكتو في أفريقيا وقصة زواجه هناك من امرأة أفريقية كلها في الجانب المتخيل للرواية، لأنها في الحقيقة حكاية لم تحدث واقعيا، أو ليس لها بعد إحالي محدد فتدخل بذلك ضمن التخييلي:
“- وصل لبلدنا سكتو, الذي يقبع بعيدا في أواسط القارة السوداء . . تحيط بنا الأدغال والقبائل المختلفة المتنافرة .. أعجبته أسواقنا وازدادت أرباحه .. فزاد طموحه .. طالت فترة بقائه في بلدتنا . . نصحه أصدقائه من مدن الشمال المقيمون ببلدنا بالبقاء بل والزواج والاستقرار أسوة بغيره من تجار الشمال الموجودين و المستقرين بتلك البلد وما جاورها من سنوات طويلة , لكنه رفض وبشدة وأصر على رفضه , كانت حجته أنه متزوج في بلده , وأن له سببا آخر يمنعه من الارتباط بأي فتاة من أهل ذلك البلد أو غيره . اقترحوا أخيرا أن يتزوج واحدة من بنات أحد تجار عرب الشمال , المقيمين ببلدنا إذا لم تكن له رغبة بالزواج والارتباط بإحدى بنات تلك البلاد .. وافق على مضض , قد يكون خوفا وحفاظا وحرصا على ما حصده من النجاح , خصوصا لعلمه بأن الضرورات تبيح أحيانا بعض المحضورات .”[4]
المقطع السابق يضعنا في قصة زواج الجد يوسف من فتاة من سكتو ويوضح على لسان حفيده أسباب ذلك الزواج.
- ثالثا. جانب الوثائق والرسائل
حكاية الرواية تتأسس من زمنين أساسيين هما زمن الحاضر وزمن الماضي عند سفر الجد يوسف للجنوب متاجرا ، الربط بين الزمنين كان عبر السرد وعبر الوثائق والوصايا والرسائل المختلفة التي تنقل لنا عبر الزمن قيم وأفكار ورؤى أهل لك الزمن، لنتابع وصية الجد يوسف التي تركها لأهله في الفصل المسمى وثائق”
“أخرج إبراهيم من جيبه صورة الوثيقة التي أخذها من يوسف وبدأ يقرأها بصوت مسموع:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وسلم
الحمد لله
حبس على بركة الله وحسن عونه، سعدالدين بن محمد البشير بن سعدالدين بن يوسف ، على جميع أولاده الذكور والإناث، المولودين له الآن، ومن سيوجد له من الذكور، وعلى أولادهم الذكور، وأولاد أولادهم الذكور، ما سفلوا وعلى بناته وبنات بنيه ما سفلوا ، ومن تزوج من الإناث فلا شيء لها ما دامت في عصمة زوج، ومن تأيمت منهن رجعت لحظها ، ومتى احتاجت رجعت لحظها , الذكر والأنثى فيه سواء، والغني والفقير فيه سواء، والأب والابن فيه سواء ، والغائب والحاضر فيه سواء, وليس لأولاد البنات فيه شيء.”[5]
من خلال الوصية السابقة التي تم تمحيصها، وإبراز الرسالة المشفرة فيها، نجدنا في مقطع نصي مختلف، مقطع يمثل أشبه ما يكون بالمناص الداخلي عند جينيت، وهو يلتئم مع النص ليضعنا في طبيعة كتابة الوصايا ونسق الأفكار المهيمنة فيها وفي الأن ذاته تجعل قصة النص أكثر صدقا وتجعل لها حضورا حقيقيا.
بينما نتابع هنا معلومات حول الجد يوسف وعائلته، لتصبح قصته ومكونه الأسري باعتباره أب لفتاة واحدة، أداة لفهم وتفسير تلك الرسالة المشفرة في الوثيقة التي تتحدث عن عقب أخر ممكن له:
“- لا اخفي سرا إن قلت لك أنه يوجد في العائلة من يدعى سعدالدين فهو اسم شائع في اسرتنا كما لا أخفي سرا إن قلت لك إن لسعدالدين هذا أخ اسمه محمد الإمام هو جدنا وعميد الأسرة الذي تلقبت الأسرة فيما بعد باسمه وعرفنا بعائلة الإمام, وأريد ان أضيف لك أن سعدالدين هذا كان تاجرا ماهرا أيضا , ففي عهده تملكت الأسرة معظم عقاراتها واملاكها حسب ما تقوله الوثائق وتبوأت مكانة اجتماعية رفيعة كما كان له رحلة واحدة للحج ومثلها للسودان وغيرها لتونس وطرابلس وبلاد الجزائر ، و لم تحدد الوثائق الموجودة البلاد التي ذهب إليها بأرض السودان.
– وهل له عقب باقٍ إلى الآن .
سأل متلهفا لسماع باقي حديث رفيقه:
– نعم …. كانت له ابنة اسمها فاطمة .. وحيدته .. لم ينجب غيرها .. أو هذا ما تقوله الوثائق التي بين ايدينا .. تزوجها أحد أبناء عمومتها ولا يوجد لها عقب حي الآن.
بينما نجد الوثيقة التالية وهي جزء من وصية الجد سعدالدين يوسف التي تركها لزوجته هناك في سكتو وهي تحدثنا عن بيت السر الذي جعل كشف السر أقرب للبعد البوليسي لنتابع هنا هذا النص الملغّز في نهاية الوثيقة:
“فلا يوجد منها بيت إلا وسوروه بالنحاس وحصنوه بالزجاج حتى يحير الداخل من كثرته وجودته ودقته ومهارتهم في استخدامه.
أبنائي :
إذا قدمتم فلا تدبروا حتى تصرعوا اللبوة في عرينها وتشقوا عنها صدرها الذي ليس كالصدور سعة و قوة ومنعة .. فستجدون حينها ما يرضيكم وسيرضا حينها من لا يرضاكم .. حينها تكونون انتم انتم وحينها يرضون عنكم ويرضون عني .. يعلمون أنكم من صلبهم قد خرجتم وإلى حضنهم قد عدتم ولرفقتهم قد اشتقتم وحينها يعود لكم اسمكم الذي به تتسمون .. ورزقكم الذي تستحقون .. وتقسمون معهم مالكم الذي لكم ومالهم الذي لهم فيصير شيئا واحدا كما كان .
الفقير لمالك يوم الحشر و الدين
سعدالدين بن محمد البشير
بن سعدالدين بن يوسف
كان الله لنا ولكم آمين.[6]
يستمر إبراهيم مناقشا الوصية التي مع الجدة إلى أن يجد المكان المقصود ويستكشف ما هو مخبوء في ذلك المكان وهو ما يثبت دون ادنى شك أن كاتب الوصية لتلك الجدة هو العم سعدالدين يوسف.
خلاصة عن الرواية
تابعنا فيما سبق المكونات الإجناسية والنوعية لرواية رسالة من الرجل الميت للروائي إبراهيم عبدالجليل، وعلى الرغم من بساطة السرد في الرواية؛ إلا أنها كانت رواية مشوقة مميزة، وظف فيها الكاتب معرفته بالمكان وأهله، فكانت سجلاء لتفاعلات تاريخية في مدينة غدامس منذ زمن بعيد، وقد تناولت الرواية عمارة المدينة، وطرق تفكير سكانها، وهواجسهم، مع سرد لا يخلو من أسطرة لأهل المكان، كما أجد فيها محاولة تأملية جادة لقراءة الخلفيات النفسية، والاجتماعية لكل تصرفاتهم المختلفة، في عمارتهم، أو في وصاياهم، أو في تعاملهم مع الغرباء، أو في تعاملهم مع باقي اهل الصحراء.
كان في الرواية مادة تاريخية رُسمت بدقة، ونحن نتابع حركة الجد سعد الدين يوسف، ونتابع العلاقات المختلفة بين أهل المكان، وهذه المادة كانت تتراوح بين التخييلي، والتاريخي.
احتوت الرواية – أيضا- على سرد أقرب في أسلوبه للسرد البوليسي، أو سرد حل الألغاز البوليسية، عبر الوثيقة المخبأة في عرين اللبوة في أحد بيوت غدامس. ساهم في تنويع أبعاد ودلالات الرواية توظيف الوثائق المختلفة سواء منها التي كانت في صورة وصايا، أم تلك التي في صورة رسائل موجهة إلى أشخاص بعينهم، كما ساهم السرد السهل والانتقال السلس بين العناوين المعبرة والمقاطع المميز في جعل الرواية مشوقة ومميزة.
[1] ابراهيم الإمام، رسالة من الرجل الميت/ ص. 29، 30، 31
[2] ابراهيم الإمام، رسالة من الرجل الميت/ ص. 35، 36
[3] ابراهيم الإمام، رسالة من الرجل الميت/ ص. 20
[4] ابراهيم الإمام، رسالة من الرجل الميت/ ص. 39
[5] ابراهيم الإمام، رسالة من الرجل الميت/ ص. 51
[6] ابراهيم الإمام، رسالة من الرجل الميت/ ص. 58