قصة

الرصيف

من أعمال التشكيلي العراقي سعد علي

كنا نقف متقابلين على الرصيف الممتد حين احتضنت حاسوبها، تأخرت خطوتين إلى الخلف ثم استدارت ورحلت. وقفت على الرصيف دون حراك حتى غابت عني تماما.. لم يبتلعها الأفق كما يقال، لكنها انعطفت سريعا بزاوية حادة في إحدى الطرق الفرعية.. التفت وعدت راجلا إلى الشقة…

كانت دقائق كفيلة بإنهاء عشرين سنة من العيش المشترك. لم تأخذ سوى حاسوبها وتركت كل شيء آخر خلفها.. بالطبع لي.

كنت قد جهزت قوائم في أربع صفحات بيضاء مرقمة قسمتها بالتساوي بخط مستقيم بقلم أحمر جاف. كتبت على جانب من الورقتين ما أملكه، وعلى الجانب الآخر من الخط الأحمر كتبت ما تملكه.

أما الصفحتان التاليتان، فسطرت على اليمين الأشياء المشتركة وفي مقابلها نسبت ما رأيته مناسبا لكل منا. اجتهدت كثيرا فيهما كي أكون منصفا. لا أخفى أنني فضلت بعض الأشياء لنفسي.

كنت قد انهمكت في هذه القسمة منذ أشهر، جردت كل شيء حتى أدوات المطبخ، وعلب الخياطة والكتب وأحواض النباتات، تركت لها البيانو وفي المقابل احتفظت بكل أضواء المنزل المتنقلة. قلت لها إن البيانو غالٍ وانا أكتبه في الورقة، لم ترد واعتبرت أن هذا تسليم وقبول منها.

كنت سعيدا بهذا العمل، يشغلني عن واقعة الفراق التي ستتبعها حتما إجراءات الطلاق.. فيما كانت هي مستلقية كعادتها على الكنبة الزرقاء تحت النافذة الواسعة. تفضل الأماكن المضاءة، تختار الأمكنة القريبة من النوافذ وتتجنب الجدران والأبواب المسمطة. فيما أنا أحب الأماكن المعتمة، أحب الليل والسهر وأضواء الشموع. أحب أن أسدل الستائر على النوافذ أو أنزل الساتر الخشبي وأترك بعض الشقوق التي تسمح بانزلاق خطوط الضوء على الأثاث والأرضية والجدران.. أحب الكنبة الزرقاء مزركشة بالضوء لكنها تحبها وهي تستحم به.

سررت كثيرا حين انتهيت من مهمتي، ولكنني انشغلت بعدها بأمر نقل أمتعتها التي تخصها. وددت لو خرجت عن صمتها وأفصحت ليّ عن وجهتها. الشقة ملكي ونحن بلا أولاد، كنت قلقا من أن تطالب بالبقاء لحين أن تجد مكانا يأويها. هذه مسألة لا تعنيني، سألت موظفا بالمحكمة، قال لي إنه سيستشير قاضيا ثم جاءني بالرد المفرح سريعا أن لا حق لها في الشقة، ابتسمت بخبث وأنا أتصور أنه كان بإمكانها أن ترثني في الشقة. استفتيت إمام الجامع الذي أصلي به الجمعة، فطمأنني، ثم انزوى بي جانبا وأمسك بذراعي وقال لي هامسا “لدي عروس جميلة وتخاف الله.. إن فكرت في الزواج”، ابتسمت وحرصت على فك ذراعي منه وشكرته.

لا أفكر في الزواج فورا.. أريد أن أمضي بعض الوقت، لكن فكرة الوحدة تؤرقني، كما يزعجني أن أخوض تجربة زواج جديدة بعد عشرين عاما عشتها معها…

ترى أين ستذهب وكيف ستعيش؟ وضعت كل الاحتمالات وأهمها أنها ستبيع كل مقتنياتها وتستأجر شقة صغيرة، هي لا تحتاج لأكثر من استديو في إحدى عمارات وسط البلد، لكنها لا تحب الصخب، ولا مزامير السيارات ولا صياح الباعة، تحب الصحو على شقشقة العصافير، والجلوس في الشرفة، والعناية بالنباتات في أصيصها. وحين أحضرت لها في إحدى المناسبات عصفورين في قفص رأيت على وجهها علامة الاستياء، لكنها أمسكت بالقفص وطبعت قبلة على خدي الأيمن كما تفعل عادة حين تفكر في تنفيذ أمر يزعجني لاحقا.

وحين تنبهت لخرس العصفورين في الشقة، بحثت عنهما في الشرفة فوجدت القفص الأصفر خاليا، دخلت إليها متوترا كالديك، فأجابتني بشيء من الخوف أن الأنثى طارت منذ يومين ولا بد أن الذكر قد تبعها.. رأيت وجهها ينطق كذبا حين ارتعشت رموشها وحاولت اصطناع ابتسامة. حينها توجس قلبي وكظمت غيظي وفكرت بعمق في مغزى ما حدث. يا الله كم نحن مختلفان؟

انهمكت مجددا في جرد محتويات الشقة.

– ”هل لديك حقائب كافية لأمتعتك..؟“

لم تجبني.. لكنه أمام إصراري بالوقوف في مواجهتها أجابت…

– ”لا تقلق سأتدبر أمري“.

– ”علينا أن نبدأ في ترتيب أشيائك“.

ما زلت أتذكر جيدا نظرتها التي تسمرت وسط حدقتي لبرهة ثم قالت بإصرار…

– ”سأرتب أشيائي بنفسي“.

كنت قد ضقت ذرعا حتى بأشيائها، فرشاة أسنانها، أو مساكة شعرها على الطاولة، أو صوتها وهي تخاطب أحدهم بالهاتف أو حتى نقرات أصابعها على حاسوبها تزعجني.. أشعر بالشقة ضيقة بها وأنه برحليها ستتسع كحلبة رقص أو مدرج مطار.

وفي كل عودة لي ظهراً أدعو أن تكون قد غادرت أو أنها بدأت في المغادرة أو استعدت لها.. لكنها لم تفعل.. تتصرف بطريقة عادية كأنها لن ترحل.. لكننا اتفقنا ورأتني وأنا أجرد حتى الكؤوس والسكاكين.. لا شك أنها قرأت الأوراق التي أتعمد تركها على الطاولة إلى جوار الكنبة الزرقاء.

سألتني ذات يوم…

– ”لماذا تريدني أن أرحل؟“

– ”مضى وقت طويل على فراقنا الفعلي منذ أن سكنت الكنبة الزرقاء“.

واسترسلت بحزم وأنا أحرك أصبعي أذكرها…

– ”كان قرارك أليس كذلك؟“

– ”نعم أن أنتقل إلى الكنبة فقط لا أن أترك الشقة“

ضحكت بصوت عال ومستفز على ردها، واستأنفت عملية الجرد…

– ”سأترك لك الكنبة.. خذيها معكِ.. لا أريدها“

لذا، حين عدت اليوم من صلاة الجمعة، رأيتها في هيئة جميلة، وقد صففت شعرها وتعطرت وارتدت فستانا مزهرا، وحذاء قماشيا يغلف قدميها الناعمتين، كأنها تهم بالخروج. رأيت الطعام جاهزا على الطاولة كالمعتاد عند عودتي من الصلاة. كانت تتحاشى رؤيتي كعادتها منذ اتفاقنا على الانفصال…

ثم سمعت الباب يغلق بهدوء.. تكة واحدة خفيفة أيقظت كل حواسي، فانتفضت من استلقائي في غرفتي، وأسرعت نحو الكنبة.. وجدت الستائر مسدلة والكنبة والعتمة سواء.. كان كل شيء في مكانه حتى البيانو، شعرت بالاطمئنان ونقلت حواسي إلى الكنبة محاولا أن أتبينها، لكنها لم تكن هناك ولا حاسوبها.. خرجت إلى الشارع مسرعا.. رأيتها تخطو واثقة وهي تقطع الطريق نحو الرصيف المقابل.. وصلت إليها لاهثا…

– ”إلى أين؟”

– ”ألم نتفق؟“

– ”نعم.. ولكن أمتعتك.. حاجاتك.. البيانو“

– ”تركتها لك“

صرخت وأنا أقترب منها بغضب…

– ”لكنني جهزت كل شيء.. عملت لأشهر وأعددت القوائم.. كنت منصفا معك، حتى أدوات المطبخ قسمتها بالعدل“.

لم ترد.. احتضنت حاسوبها، تأخرت خطوتين، ثم استدارت ورحلت. وحين عدت.. جلست على الكنبة الزرقاء وبكيت بحرقة.

(14.3.2021)

مقالات ذات علاقة

الدهليز…

أحمد يوسف عقيلة

اثــنـان….

محمد العنيزي

صندوق الوارد

سعاد الورفلي

اترك تعليق