إِهدَاء لمرضى الزهايمر وذويهم
رقية العلمي (فلسطين)
سافرت في رحلة بحرية … جميلة … حالمة.. لفيت من خلالها المعمورة… لكن هناك عند المسار… صور صغيرة بقت… تدل على أنّني لا سافرت ولا ارتحلت حتى ولم أركب سفينة في حياتي…
عروس تمر في الممر وفستان أبيض ودقات طبول …يوصلها الجميع إلى البوابة الكبيرة ويغيب الحفل وراء الأفق… ولِما الزغرودة…صوتها برأسي يدك!
تهتُ في زحام القاهرة …كانت ليلة عيد… أضواء وناس وفرح ومحال الحلويات متلألألة إضائتها…
هل سمعت تكبيرات العيد؟
بكيت من الخوف أين أبي؟…
وقفت مكاني… والناس تسألني:
“أين أهلك؟ يا بنت… أين أهلك؟”
ما تحركت من مكاني… فأنا علمت بإن أبي سيعود للبحث عني…أَلًم أقل لكم… ها هو عاد ومعه أمي وأختي..
“جيد جداً ما زلتِ في نفس المكان!”
فرحت: “قلت لكم أبي لن يتركني تاهئة… ها هو قد عاد!”
رجعت معه لكن هذه المرة أمسكت يده بقوة… لا أريدها أن تفلت خوفاً من الضياع مرة ثانية…
“هو ما تركني… ما زال معي!”
“لكنه مات!”
سمعت ابني يقول لي: “يا أمي مات والدك… فعلاً مات”.
“لا… أبداً أبي لا يموت… هو معي دائماً فلا تدعي بأنه مات!”…
“أفتح الباب أريد الخروج من هنا!”
“أفتح!”
“لن استطيع يا أمي السماح لكِ بالخروج!”
“أتوسل لكَ أسمح لي بالخروج، لماذا تقفل الأبواب؟ لا تحجز حريتي!…”
“أنا أحذرك: أرجع المفتاح إلى مكانه… وإلا… سأسرق المفتاح وسأخرج…المفتاح موجود، أعلم تماماً أنه موجود؟… أين وضعته آخر مرة؟ “
“يا ابني لقد نسيت، لا أدري أين مكانه المعتاد، خصصت له مكان كي لا أضطر البحث عنه وقت الخروج!”
” لم أنسى هذا فقط بل نسيت كل شيء: ما اسمي وأين عنواني ومع من أعيش؟ ” من أنا؟ أخرجني من هنا.”
” لا أريد أن أبقى محشورة في هذه الزاوية..” خائفة أنا!”… ألا يكفي خوفي المعشش في داخلي من غرفة ” الفئران “. هكذا قالت الراهبة:
” من يذنب سأحطه في غرفة ” الفئران ” غرفة العقاب!
صحيح أنه لم يسبق لأحد أن ذهب لغرفة ” الفئران”… كأنه قد كان تهديد وهمي من لا شيئ وكل شيء… مع ذلك تخيلت الغرفة كبيرة طويلة لا شبابيك فيها ولا هواء… ملأ بالقوارض، كأني سمعت صرصرة فئران وولولة جرذان… كلٌ يريد الخروج مثلي من هذا السجن الطويل العريض.
تذكرت الآن…
كنت هناك… ها أنا صغيرة أدخل الروضة في مدرسة الراهبات، هناك دير في الأروقة والليوان والكنيسة ورهبان وراهبات. الراهبة ترتدي ثوب أسود وغطاء رأس أبيض.
” [ جوزيف ] أين كنت؟ تعال هنا !”
جوزيف بالفرنسي يوسف بالعربي لكن ناداه الجميع [ زوزو]…
خطرت في بال [ زوزو] فكرة جهنمية، ألا وهي ضرورة الدخول الى الدير واكتشاف مكان غرفة الفئران؛
في فسحة الظهيرة دخلنا بهدوء إلى منطقة الدير وأخذنا نمشي في دهاليز معتمة نتبع صوت ترانيم … نحوه وصلنا وإذ نحن في الكنيسة الخاصة بالراهبات.
جن جنون الراهبة الأم فما هذه الجرأة الدخول إلى المحظور؟
أرادت أن تعرف السبب لكن [ زوزو] أَصَرَ على الإنكار وبأننا دخلنا هنا بالخطأ…
أما أنا فلكزته في قدمه… وهمست له: يا [ زوزو] لا تكذب!…
نقضت الوعد الذي عقدته معه، وقلت لها الحقيقة:
دخلنا نفتش عن غرفة الفئران!…
ساعتها جن [ زوزو] من إعترافي لما قلت الحقيقة،
” كيف أتريدني ان اكذب؟ “
كان شعار [ زوزو] في المدرسة:
[ اكذب اكذب حتى الناس تصدقك ]،
فقلت له:
“تعرف كان لازم أحكي الحقيقة وإلا الراهبة ستأخذنا الى غرفة الفئران!!
” وهل صدقتي بأن هناك غرفة فئران؟ هل سبق وان سمعتِ بأن الراهبة أخذت أحد هناك؟ أنا ذهبت لإستكشاف الحقيقة وأنهي هذه الأسطورة، وها نحن لم نجد لا غرف مغلقة ولا أبواب خلفها فئران “،
من يومها لم نعد نخاف من تلك غرفة.
… ما زالت تمسك الفراش وتشد الشرشف:
أعرف لغات كثيرة أتقن الإنجليزية والفرنسية ولغتي العربية لكن اللغات ضاعت مني.
بالأمس بكيت كثيراً لإني لم استطع كتابة ورقة بالإنجليزية.
حاولت جاهدة لكن ذاكرتي لم تسعفني، لا أعرف الإنجليزي، بكيت أكثر لأني لم أسلم الورقة في الموعد ولذلك شطب اسمي من لائحة المدعوين.
حاولت حضور المؤتمر فأنا أحبّ سيرة الأدب … فتحت جهاز الحاسوب لكني نسيت كلمة المرور … بداية كيف أشغل هذا الجهاز؟ لا أتذكر ما هي الطريقة للدخول إلى جهازي الحاسوب؟ وهذا كان سبب آخر فضاعت مني فرصة أخرى حضور المؤتمر الأدبي عن بُعد…
سمعته يسأل أخته: “ما بها أمك وما هو الحاصل معها؟”
لحظة سأدخل إلى الروضة… الأطفال يبكون في اليوم الدراسي الأول… أطبطب عليهم…
رأيت نفسي صغيرة أدخل مدرسة الراهبات هناك في الدير البعيد، ها أنا في أروقته وليوان الكنيسة أسمع التراتيل… ومعي كتب كثيرة بلغات متعددة… أقرا كل ساعة وكل وقت… واقفة على المسرح أمثل… أم ما مثلت… كم تمنيت التمثيل!.
معي علبة الألوان…ألون الأشكال في دفتر الرسم وامسح الزوائد بالقطنة، وما زلت أبكي فانا لا أحب الكرويشه ولا الحياكة ولا التطريز لكن الراهبة تريدني أن أتعلم فن المشغولات اليدوية.
يقع الدير بين أشجار السرو ويحاط بأكثر من حديقة، وبوابة المدرسة الكبيرة مغلقة لا تُفتح إلّا صباحاً عند الدخول وفي المساء وقت الخروج. هناك جنينة مزهرة وتمثال للمجدلية [ أشوف ]..
“أين علبة الخيطان كانت هنا كنت أحيك بالخيوط الملونة ملابسي؟”
أخذت المفتاح من ابني بل سرقته وهربت!
… هربتُ إلى الشارع ومشيتُ في هذا الطريق الطويل… شارع مزفت محاذاته جبل لا هو مستقيم ولا هو متعرج…. والبنايات حوله طويلة أطول من صخور الجبال والتلال… أشجار وسرو ونخيل… ركضت… هرولت… تأنيت… حتى وصلت الشارع الرئيسي… ركبت الباص وكل الناس تنظر إلي… “يبدو انها مجنونة!”…سمعت أحدهم يقول…
بقي الباص على الدرب… أنه باص السير السريع
” جدتي أريد أن أسافر الى القدس في باص السير السريع .”
“ليس اليوم “
” بل اليوم “!
أريد أن أرى هذا الباص الذي يسير بسرعة تفوق سرعة القطار…
في السبيل لا يوجد حواجز… ولا دوريات والطريق سالك…ها هو الباص يجمع الركاب من مدخل المدينة ويغلق الباب ويسير دون توقف حتى يصل القدس.. وها هي جدتي بجانبي والباص لم يمر على نقاط التفتيش.
سمعته يصرخ وهو يصوب البندقية نحوي:
” ممنوع العبور!”…
” من قال لي ممنوع العبور؟ فأنا أنتظر سيارة الأجرة”.
أتفرج على أرصفة الشوارع، وأطالع المارة، كل الممرات مزدحمة… حتى وصل الباص للمحطة الأخيرة… فنزلت على غير هدى فإذا بي في وسط البلد…
وجدت صبي ينتظر مساعدة الناس بالتحميل والتنزيل… معه عربة ذات دولابين …هذه إذن مهمته اليومية…
“ما اسمك؟”
“نعيم.”
“هَلُمَّ بنا يا نعيم،!”
دخلت الحسبة… خضار يانعة… فواكه بارقة…منها البرتقال… التفاح…الجرجير…الخس… الليمون… في السلال حبوب: فاصوليا جافة… عدس …حمص… ترمس… بهارات…
خبز بلدي من القمح الطبيعي مخبوز في فرن حطب… رائحة بن وهيل والمطحنة تدور وتطحن حبيبات القهوة… وأحلامها تدور كلما قرقعت المطحنة.
وما زال نعيم بصحبتها!
” لماذا لا تذهب للمدرسة؟ “
“بلى! أذهب ولكن فترة الدوام المسائي. تبدأ الساعة الواحدة ظهراً”.
“تساعد أبوك؟”
“لا، بل أساعد أمي.”
مشيت بحرية مطلقة… لفلفت في دروب ضيقة وأخرى واسعة… والناس تشرب العصائر: قصب مص برتقال… عرقسوس…
شربت ونعيم تمر هندي بارد!
من هنا وهناك: خياط… منجد… خطاط… أقفاص طيور وببغاوات… وقططٌ ضالة تحاول الإمساك بعصفور… منتظراً أحد يأخذه إلى بيت وشرفة… سجين قفص، بدل التحليق بحرية في فضاءات الأماكن وبين الأغصان…
دكان تطريز وأشغال يدوية تحيكها نساء… كل غرزة حكاية… ولكل رسمة مدلول كما ألوانها المتداخلة… بسطة هنا ومصطبة هناك…. شراشف مفارش…سجاجيد صلاة… مسابح ملونة… وقناديل معلقة.
تذكرت بيت عشت فيه عتيق…عتيق… عشت فيه بالقدم… من بدء التاريخ كان… بيت عمره يتجاوز المئة عام إن لم يكن أكثر… قبابه محدبة… أشكال هندسية مرتبة… جدران حجاراتها ضخمة قد يكون وزن الحجر ما يقارب الطن….كلّ هذا يشبه ما أشاهد الآن في وسط البلد…
جرتني الذاكرة إلى المجاور البعيد!
” قلت لك أفتح الباب… أريد الخروج…!”
” لكن يا أمي ضاع المفتاح! “
” ما ضاع بل أنت الذي سرقته وخبأته!!!….
وصلت مدينة عتيقة ….
دخلت كنيسة…صليت في جامع…
رائحة الشموع والبخور تملأ المكان… ” بسرعة قبل ما يلحق بكِ ويعيدكِ إلى البيت!”
“لا لن يستطيع، فأنا في حماية بيوت الله “.
نزلت الدرج مسرعة،، قفزت على البلاط… وصلت إلى كنيسة القيامة ومسجد عمر… هذا السوق هنا يشبه سوق الدباغة بممراته الواسعة… وبلاطه المرمري العريض … عبق الجلود … حقيبة ومعطف….
ذاك الصوب قابلت أمي…”: ها هي أمي، تراها ما زالت جميلة!
” أفتح الباب… أمي برة وتريد أن تأخذني معها في مشوار بعيد…”
” ولكن أمك قد ماتت”.
“لا كيف؟ ومتى؟ أمي لا تموت هي معي الآن في باب خان الزيت أشترت لي حلاوة الجزر وحلاوة القرع…طعمه مثل العسل”…
ترى ماذا أرى سوق العطارين بسقفه المقوس… أشم رائحة أعواد قرفة… والتوابل… صمغ …حنة…زعتر…
أرافق أمي إلى دكان أبيها،، دكان جدي… العطار… يبتسم لي… يحنُ علي… يضمني…
” لو أحد أزعجك علميني”!…
كريم جدي… مد يده إلى كيس خيش ممتلئ بالملبس والسكاكر… وجوز الهند والحمض حلو واللبان… أنقدني عشر قروش وأعطى أمي دراهم ودنانير…
يفقد ابني أعصابه ويصرخ:
” لا يمكنك الخروج أبقي هنا؟ نخاف عليكِ الضياع في الطريق؟”
” لا لن أضيع فأنا أعرف الطريق إلى أسواق نابلس القديمة، أسمح لي الذهاب هناك ليوم… يوم واحد فقط ثم احشرني في هذا البيت! “
رأسي يؤلمني وأخاف الليل والعتمة ومن هذا الذي يأتي كل يوم يوخزني بالأبر ويقيس درجة حرارتي… حاولت التكلم لكن العبارات خنقتني…. أنا أتألم ولكن احداً لا يعلم…!
فقط ليوم وبعدها سأعود وسأبقى حبيسة هذه الغرفة… نسيت الطريق… لا تذكرت الطريق… سآكل
حلاوة طحينية وكنافة…
لا أريد الإستحمام إلا في حمام نابلس العتيق … وبالصابون النابلسي حتى العروس في الحمام العتيق يُفرك جسدها بهذا الصابون!
” تعرف يا نعيم… مرة ذهبنا وأنا صغيرة إلى نابلس وزرنا المصبنة ورأيت كيف يُطبخ الصابون بزيت الزيتون… كانت المصبنة كبيرة وفيها … بيت نار وزيت زيتون وحمالين وناس وزحمة وباب لحمام عتيق”.
” أيواه يا نعيم، امتلأت العربة!”
“هل اشتريت كل ما تريدين؟”
” أكيد.”
ودّعته وأعطته بضعاً من النقود.
قال لها مستغرباً: “شكراً، لكن هذا كثير!”
اِبتسمت قائلة:
” ليس كثيرٌ عليكَ وعلى أمك، سلّم عليها”.
أكان هذا فرحاً مؤقتاً؟ “
أفاقت من جولة جميلة… فإذا بها مراوحة في ذات مكان… أصبح كما أمسى…فأدركت بأن الحوائط ثابتة كما هي… وألوان دهانها قاتمة ومغبرة…
ما زاد من حزنها أنها لم تقابل نعيم ولم تعطف عليه ولا على أمه.
ربما كانت في القدس القديمة يوماً ما أو لم تزل.
في الأحياء الجانبية تسير وحيدة في ليوان…طويل… دون نهاية… تتعثر… تقع… تقف بصعوبة… تنزل الدرج… تدخل سراديب مظلمة… من أعلى إلى أسفل… لا تستطيع النظر الى الوراء…ثم تجري إلى مرقد خاتون…تصل إلى حاجز يمنع المرور… وصدى صوت من بعيد… يأتي من جندي يقف على رأس الشارع…
- “غير مسموح؟”
سُدت كل الطرق… وأصوات الباعة المتجولين تهفت… تخف… وتختفي…
يشتد الحزن … الوضع ذاته والأشياء مبعثرة هنا وهناك… صور معلقة تتموج معها الذكريات… في الزوايا صمت وجمود.
عندها فقط أدركت … فلا هي أتت ولا غدت… هكذا إذن…يزاحم ضوء خافت خرم الباب…يحشر نفسه بصعوبة محاولاً الدخول إلى غرفتها… هو ذاك أمل قد يوحي بأن ما ظنته لن يتغير… سيتغير.
” أتركها إنها نائمة لا تزعجها “
” كيف حالها اليوم؟ “
” هي على حالها لم يتغير شيء”.
كان هذا صوت ابنتي لما لاح الفجر…
فتحت عيناي بتثاقل… أردت أن أكذّب الواقع.. إلا أن الشراشف البيضاء والأسرة من حولي تغالط تفكيري وتصر على التأكيد… تضايقني الأنوار الخافتة التي تطل علي من الممرات.
لمحتها وبيدها جهاز وضعته على يدي… وأصوات الممرضات والعربات نزعجني
خلت نفسي وكأني هويت في نفق أسود طويل.. الغرفة تدور من حولي .. الدنيا تلف.. وأنا على وشك الوقوع على الأرض… رغم إني جاثمة على السرير…
ذكريات بعيدة في الكويت رمال… طوز… صحراء … وحر.. هناك في الصحراء الخالية البعيدة..
عاصفة رملية تحجب أشعة الشمس الحارقة… الأرض ملتهبة… الحديد يكاد ينصهر، والماء يغلي… كل شيء بدا مشتعلاً دون نار… بالأمس كان الكون ساكناً… راكداً.. لا يتحرك حتى الشجرة تقف كالتمثال سيظن الناظر بأنها شجرة صناعية… الطوز يغطي كل شيء داخل البيوت وخارجها…
أنا الآن في سكن المعلمات الداخلي…
وصلت هناك لما حملت أشيائي القليلة وسافرت إلى المجهول… الظلام ينزلق في الغرفة… وأنا هنا في الصف أدرس الطالبات وأصرخ منفعلة وأنا أقرأ الشعر… وأكتب على سبورة سوداء
لكني هنا أمام شاشة سوداء تفحص الأشعة كأني ما كنت هناك!
ثلاثون عاماً مرت !
هكذا سريعا مرت الأيام رغم الكدر… والأهل ينتظروني والهدايا..
إحساسي برائحة البحر يدغدغ أنفي… أمشي على الشاطئ وأصوات مدرسات..
لم تزل تتحسس الألم…جراح العملية مؤلمة لكنها ليست أكثر وجعا من ألم الحرب.
هل كان هناك حرب؟ أبداً سلام، ورخاء، وإبتهاح، من قال ان هناك حروب؟…
العالم مسالم… تبقى أم تغادر؟
دون إرادة تطلعت حولي … الأهل من حولي… أراهم ولا أميزهم… أسمع أصواتا غير مفهومة… الزحام لا يطاق… لا أستطيع التحمل… والموت بات قريباً… ولا أذكر شيئاً إلا ملابس الصغار وضحك الأطفال … وجسمي منهك من الوقت والزمان..
الصحراء الخالية… السراب يلوح في الطريق… تحاول المساك به… تود البقاء… إلا أن الأطباء ينصحون بغير ذلك…
” عملنا كل ما في وسعنا والباقي على الله.”
” لا فائدة “!
أهكذا نهاية الأمور؟ أكان وهماً؟
عند الغروب شرعت راحلة في صمت… أبحث عن شيء خلفي… أحرك يدي بصعوبة… أرفعها إلى وجهي أحاول قراءة الفاتحة قبل الولوج إلى ” الغيبوبة الأخيرة” !
أريد أن أخبرهم برغبتي أن أدفن في بيت العائلة تحت شجرة التوت التي زرعتها أمي… لتحميني من أشعة الشمس.. ولكن أَنَّى لي ذلك … وصوتي يضيع إلى الأعماق…
“…أنا أسمعكِ! أرى بأنكِ تحاولين الكلام… ماذا تريدين أن تقولي؟”
أطبقَ الصمت المكان… إلا من آهات الوجع……
” يبدو إنها دخلت غيبوية “!
غبت إلى سرمد الغياب…
قبلها بدقائق كنت أسمع صوت الطناجر والملاعق والصحون… أشم رائحة طعام …أعلم بأنه طيب لكن ما هو؟ وماذا كان؟…
أين الصور المحفوظة في الجارُور؟
” أرجو أن لا تُهمل؟ إعتني بها بعدي ففيها ذكريات اِستأنس بها!”…
في صباح اليوم التالي كان هناك في صحيفة محلية نعي صغير عن موتي…
جاءت جموع من النسوة إلى بيت العائلة ودُفنت في قبر مقابل قبر أمي… طل قبري على جبال مشجرة وحولي مزارع…. المقبرة هدوئها مرعب والوحشة تعمّ المكان… لكني اِستأنست بصوت القرآن… تراتيل أعرفها جيداً… أشعر براحة الآن وها أنا استرجع شريط حياتي فبعد الموت تذكرت جثة أبي… صوت أمي… ميلاد أطفال… كُتب هنا وكُتب هناك …أوراق بالية وملفات!
خانني الوقت والنسيان، كنت أريد أن أوصي بأن توزع كتبي على المكتبات وأن تُنشر اقاصيص عمري الجاهزة في دفتر الذكريات…
” أناديكّ هل تسمعني؟ “
لكن صوتي غرِب مع السراب!
” تعالي… اِرجعي… إنا لله وإنا إليه راجعون “…
ما هذا التجمع؟ مظاهرة أم أجتماع؟
قهوة سادة… وجامع… وأنا مرفوعة حاولت أن أعرف من هؤلاء وراء جنازتي ولكن ما تذكرت أحداً منهم…
إذن هذا كان مشهد موتي، لكن لا… متوهمة أنا، فأنا ما زلت هنا على السرير في المستشفى البعيد لا أعرف شيء سوى أني لم أمت بعد.
تشرين الأول/ اكتوبر 2020