قصيدة (مولد النور)، قصيدة بديعة من أهم قصائد المرحوم الدكتور “عمرو النامي” المفكر والأديب الفذ، وهي قصيدة همزية طويلة تتكون من 116 بيتا، في مدح رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يبث فيها شاعرنا الكبير أشواقه وشكواه إلى الحبيب المصطفى، ويشيد فيها بمكانته ورفعته وسمو خلقه، وفي جزء كبير منها يحفل بسيرة رسولنا العطرة وحياته المباركة التي لخصها من ميلاده إلى وفاته في هذه القصيدة العصماء.
وينقلنا أديبنا الفذ في قصيدته الرائعة هذه إلى محطات كثيرة من عظمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وقد كانت له عبر أبياتها أشجان بثها إلى حبيبه رسول الله فخاطبه بكل حب ورقة شارحا له أحواله وهو يتقلب في محنة السجن ويقاوم ويقف في وجه الظلم والجور، راجيا أن يكون من أحباب هذا النبي الكريم وأن ينال قربه وشفاعته.
وإذا ما قرأنا القصيدة قراءة متأنية وعشنا في أجوائها العبقة فإننا يمكن أن نقسمها إلى ثلاثة أقسام هي:
القسم الأول: المقدمة
وتحتوي المقدمة على 24 بيتا، تبدأ بافتتاح رفيع يخاطب فيها الدكتور: عمرو النامي رسول الله -صلى الله عليه وسلم – بمقامه العالي ومكانته السامية فيقول:-
علوت فليس يدركك الثناء
فأنت النور يسطع والضياء
وأنت الشمس ليس لها حجاب
وأنت البدر ليس به خفاء
وأنت المصطفى يجلوك فيض
من الأنوار جلله السناء.
وقد جعل النامي هذه الأبيات الرقراقة مدخلنا لقصيدته فأحسن أيما إحسان لما احتوته من تشبيه جميل ومعاني جليلة، ثم هو منها أنتقل -وبكل أدب – ليستأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم – في مدحه والثناء عليه والحديث عن سيرته وأوصافه، استمع إليه وهو يقول:-
رسول الله لست بذي بيان
فليس لما أكابده عناء
جلالك معجز وأنا عيي
وإن حاولت يصرفني الحياء
أحوم حول ذاك النور جهدي
فيبهرني بروعته الضياء
فإن تأذن بفيض منك نحوي
فأشرع في مديحك ما أشاء
وأبلغ منه ما أرجو وتأتي
روائع فيك يبدعها الوفاء.
وفي أبيات هذه المقدمة مع الاستفتاح الرفيع والأدب الجم في مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نجد حديث القرب والبوح الجميل من أديبنا إلى حضرة نبينا -صلوات ربي وسلامه عليه – يشكو له ما مسه من ضر السجن وسطوة الجلادين، فلنستمع بقلوبنا إلى هذين البيتين فإن فيهما الدليل على ما أشرت إليه آنفا.
أتأذن يا رسول الله إني
أضر بي التوجع والبكاء
وحيد ليس يؤنسني رفيق
وما جهدي وقد حكم القضاء
القسم الثاني من القصيدة
وهو لب القصيدة الذي أخذ مساحة كبيرة منها بلغت 79 بيتا وفيها يوجز الدكتور النامي سيرة سيد الخلق صلوات ربي وسلامه عليه ، وبقلمه البارع يجعلك تتنقل في محطات متنوعة من تلك السيرة الرفيعة وتعيش مع الحبيب -صلى الله عليه وسلم – كل أطوار حياته ،، ميلاده، طفولته، صباه، زواجه، أسرته، بعثته، هجرته، غزواته، معاناته في مسيرة دعوته، انتصاراته، أخلاقه، سموه ورفعته، تجليات وعبر من سيرته العطرة.
كل ذلك في 79 بيتا، يختصر فيها كل بيت فصولا من الصبر والعطاء، الجهاد والبذل، الجلال والجمال، الرقي والعلو من سيرة سيد الأولين والآخرين المبعوث رحمة للعالمين. ويقدم شاعرنا من خلالها عملا بديعا يجمع بين جمال العرض وسمو التعبير ويرسم فيها ملامح وضاءة لسيد الخلق -صلى الله عليه وسلم – ، ويصنع لوحة أدبية أنيقة.
وقد بدأ شاعرنا هذا الجزء المهم من قصيدته بمولد المصطفى –صلى الله عليه وسلم – في ربيع الأول، قائلا:
أهل هلال نورك في ربيع
بمكة واستفاض بها الضياء.
لينطلق بنا من هذا البيت في رحلة رائعة مع الحبيب -صلى الله عليه وسلم – ويتنقل بنا كما أشرت من محطة إلى محطة في رحاب سيرته المشرقة، حتى يصل بنا إلى نهايتها بانتصار دعوة الإسلام ودخول الناس في دين الله أفواجا، والتي يقول فيها:-
وأعلى الله حجته وسارت
بها الآيات نور يستضاء
كتاب محكم وبيان صدق
يبين الحق ليس به خفاء
وسار الدين تظهره جموع
مطهرة ويظهره البقاء
فذكرك يا نبي الله عال
يردده على الكون النداء.
القسم الثالث والأخير: الخاتمة
الخاتمة تتكون من 13 بيتا، ونستطيع أن نقسمها إلى جزئين. الجزء الأول:- يتكون من 5 أبيات فيها يؤكد شاعرنا المبدع على رفعة مقام رسول الله وعلو قدره، ويقدم لمسة اعتذار لحبيبه المصطفى لأنه خاض غمار مديحه والحديث عنه وهو الذي يرى نفسه أصغر من أن يكون أهلا لهذا الشرف الرفيع.
فيقول:-
نبي الله قدرك فوق قدري
بما لا يستطاع له اجتلاء
وشأنك لا يحيط به مقال
وهذا النور ليس به وفاء.
الجزء الثاني من الخاتمة:- ويتكون من 8 أبيات وفيها يعزف النامي من جديد معزوفة الحب والاحترام لنبي الله -صلى الله عليه وسلم – ، ويكرر مناجاته وبث أشجانه وشكواه له ذاكرا له ما يلاقيه من معاناة الأسر في السجن، وقد سبق لأديبنا الكبير أن فعل هذا في مقدمة قصيدته هذه، وهو بهذا يخلق تناغما بين فاتحة واختتام القصيدة، وفوق هذا يجسد حالة القرب الكبير التي يحياها مع حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
لنستمع لبوحه وشجنه وهو يقول:
نبي الله إني جئت أشكو
إليك وكل أنفاسي رجاء
نبي الله ضقت هنا وإني
ليرهقني بذا الحبس العناء.
وفي ختام الختام يتوسل النامي بمحبته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم – راجيا أن تكون تكون سبيلا لتفريج كربته وأن ينال بها شفاعته ومرافقته في الجنان، فكانت هذه الأبيات العذبة الندية التي يقول فيها:-
رسول الله جئتك من بعيد
يرافقني مديحك والثناء
ببابك قد وضعت اليوم رحلي
وعندك راحتي وبك الشفاء
أؤمل فيك إفراجا سريعا
وفوزا لا يكدره شقاء
وعونا عند ضيق الحشر يغني
ويشملني ودادك والحباء
فجودك غاية ونداك فيض
سخي النبع ليس له انقضاء
أحبابي القراء الأفاضل وبعد هذه الجولة المتواضعة معكم في هذه القصيدة الغراء وقبل أن أنهي هذا المقال حولها لا بد أن أشير إلى النقاط التالية:-
1- جمال القصيدة وشرف مقصدها وعلو كعبها فنيا وإبداعيا لا تخطئها عين باصرة فتظهر فيها بجلاء الصور البلاغية والمحسنات البيانية مع وضوح العبارة وحسن السبك والترتيب.
2- يظهر بوضوح عاطفة الشاعر الجياشة تجاه الحبيب -صلى الله عليه وسلم – وحسن خطابه معه والقرب الذي يحياه بمعيته فهو من عنوان السورة يوجه الخطاب له مباشرة بكل أدب وذوق وينقلنا معه إلى دوحة معيته وجلال ورفعة حضرته -صلوات ربي وسلامه عليه – ، وهو يفتتح السورة ويختتمها ببوح جميل لهذا الحبيب القريب والرسول الطبيب يبث له شكواه ويلتمس عنده دواء لما ألم به من أدواء.
3- ونجد في هذه القصيدة تأملات عميقة في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ووقفات على مواطن العظة والعبرة فيها واسقاطات لدروسها على الواقع، مما يظهر الجانب الفكر والديني، التأصيلي والعلمي لهذا العالم المفكر المستنير بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
رحم الله المفكر والأديب الكبير الدكتور “عمرو النامي” ورفع مقامه في عليين ورزقه مرافقة إمام المتقين.