الدكتور محمد مصطفى بالحاج
سعادة هي أيما سعادة أن أتشرف مرتين بقراءة هذا العمل العلمي المتميز. مرة عند مراجعته استعدادا لمناقشة صاحبته، ومن ثم حصولها به على درجة الإجازة العالية في مجال الدراسات النقدية الأدبية عام (1995)، ثم هذه المرة لتقديمه إلى عامة القراء، المتخصصين منهم وغير المتخصصين.
في هذه القراءة الأخيرة، وجدت نفسي منفتحة ومتحمسة، لكأنها تلتقي بصديق قديم تعرفت عليه وأنست به، ثم لقيته بعد انقطاع طويل. فصرت أسترسل مع الصفحات بسلاسة، وكلما ابتدأت فقرة جديدة، أعادت إلى ذاكرتي ما كنت قد أفدته من معلومات وتفاصيل، مصوغة بلغة أنيقة سليمة ومنهجية محكمة.
إن أول انطباع موضوعي محايد يخرج به قارئ هذا العمل الجاد، هو اتسامه بالتفرد وسط تلك الأكداس من الكتب والأطروحات الجامعية للماجستير والدكتوراة التي صارت تفرّخ في جامعاتنا خلال السنوات الأخيرة تفريخ الكتاكيت دونما حسيب ولا رقيب. وعزاؤنا ما يناقش أو يصدر بين الحين والآخر من جهود قيمة محترمة، كهذه الدراسة، تشرح الصدر، وتقر العين، وتعيد إلينا شيئا من الثقة، في زمن افتقدنا فيه الانشراح وقرار العين والإخلاص لله والوطن والعلم.
وتتعدد مظاهر ذلك التفرد. فأولها توفيق الدارسة في حسن اختيار الموضوع. فقد اختارت شخصية، على الرغم مما أحيط بها من غبن وتجاهل من قبل وسائل الإعلام والثقافة الرسمية، خلال مراحل عطائها وتألقها، فقد فرضت وجودها بجدارة، وشهد لها نقاد كبار بمكانتها المرموقة. تلك هي شخصية الناقد الكبير أنور المعداوي (1920 ـ 1965)، أحد أعلام النقد الأدبي في مصر وسائر الديار العربية خلال النصف الأول من القرن العشرين.
أما ثاني تلك المظاهر، فهو إخلاص الباحثة في عملها، وتمكنها من الوقوف على كل أبعاد الموضوع وما يتعلق به من معلومات أصلية. وقد مكنها هذا من استيفاء الدراسة حقها، ومن ثم تقديم صورة متكاملة عن الناقد من حيث ترجمته الشخصية وتوضيح الظروف والعوامل التي شكلت عقليته وذوقه وزودته بالأدوات التي أبلغته ما بلغه من مكانة وتأثير في الآخرين.
أما ثالث هذه المظاهر، فهو الخطة التي سلكتها الدراسة والمنهجية التي التزمت بها؛ فجاءت هذه الدراسة مستوفاة للشروط الأكاديمية المطلوبة. ولا شك في أن هذا مرجعه لنضج الباحثة من جهة وتمكنها من أدوات البحث والعرض والتحليل والمناقشة والترجيح والحكم، ومرده أيضا من جهة أخرى، لخبرة الأستاذ المشرف وتمكنه وإخلاصه، وهو ما غدا في أيامنا هذه نادرا ندرة الكبريت الأحمر، نتيجة ازدحام الوسط الأكاديمي بالأدعياء المتسلطين والمتسللين!
ويأتي رابع تلك المظاهر متجليا في حضور شخصية الباحثة الواضح عبر سياقات الدراسة. وهو حضور فعال تمثل في حسن عرض الأفكار، وتوظيف الاقتباسات، وتحليل الآراء ومناقشتها، كما تجلى في اختيار المفردات والتراكيب الموفقة التي ألبستها تلك الأفكار والآراء، وصاغتها باقتدار متمكن وذوق متأنق ومؤثر. وواضح أن هذا الحضور هو نتاج صداقة متينة بين الباحثة والقراءات الأدبية المتنوعة، وثمرة تجربة ناضجة في مجال الكتابة والتحكم من ناصية البيان، وهو النقص الفادح الذي نلمسه في أكثر خريجي الجامعات العربية وأساتذتها في هذا العصر.
ونعود إلى المعداوي رحمه الله تعالى. إنه نموذج من الأدباء والنقاد العرب المرموقين الذين عرفتهم عقود النصف الأول من القرن العشرين. نموذج لذلك الجيل الذي انطلق من التراث والأصالة، وجنّح في آفاق الثقافات المعاصرة، وتفتح بوعي وحصانة على الآداب الأجنبية. نموذج لذلك الجيل الذي تأسس وتسلح بالموهبة والاطلاع، ولم يكن يجرؤ على تقديم نفسه كاتبا أو ناقدا إلا بعد مثابرة ومصابرة، وصقل شديد لتجاربه. فلما اكتملت أدواته، ونضجت تجاربه، دخل معترك الكتابة في أجواء لمعت فيها أسماء أعلام كالعقاد وطه حسين والحكيم والزيات والرافعي وأحمد أمين وزكي مبارك وعشرات أمثالهم، فتألق في آفاقهم، وفرض نفسه بكل تمكن واقتدار.
والباحثة الدكتورة فريدة المصري، إذ تقدم هذا الأديب الناقد المتميز إلى عامة القراء، ومن بينهم أدباءنا المعاصرون من الشباب بمختلف اتجاهاتهم ومستوياتهم الفنية؛ فهي تقدم نموذجا وقدوة لما ينبغي أن يكون عليه شبابنا من المبدعين والنقاد والكتاب بعامة، ممن تغلب على أكثرهم الهشاشة الأدبية، وفقر الدم المعرفي، والكساح اللغوي، فقد تحصرم كثير منهم قبل أن يبلغ عن جدارة مرحلة الزبيب!!
إن مما يعزي المرء دائما استحضاره تلك الحكمة العظيمة والسنة الكونية الخالدة التي تؤكد لنا أن “الزمن هو خير دواء لاعوجاج الأمور”. فالزمن نهر جارف طام يطوي كل ما أمامه، لكنه في النهاية يفرز الأشياء، مصداقا لقول الله تعالى:( فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما يفيد الناس، فيمكث في الأرض). فقد عرفت الحياة الأدبية خلال القرن العشرين مئات الأسماء التي أتاحت لها الظروف أن تلمع ذاتيا أو يلمّعها غيرها؛ ثم طواها الزمن ونسيت، وبقي نجم أنور المعداوي لامعا متميزا تردد ذكره الأيام.
كان المعداوي، كما يصفه الأستاذ محمد إبراهيم نجا، واستشهدت به الدارسة هنا، ذا نظرة ناضجة ثاقبة مكنته من اكتشاف كثير من المواهب الكبيرة التي اهتم بها وشجعها وقدمها إلى قراء العربية، متنبأ لها بمستقبل أدبي زاهر؛ أمثال علي محمود طه، ونجيب محفوظ، وسهيل إدريس، ونزار قباني، وسعيد تقي الدين، وغيرهم كثير. ومضى قطار الأيام، وتتابعت السنون، وتحقق ما توقعه المعداوي لتلك الشخصيات من مجد وشهرة وخلود.
وجدير بالتنويه هنا ما أشارت إليه الباحثة من اهتمام المعداوي الشديد في مقالاته النقدية بشروط التفوق الأدبي وتحقيق التألق. فقد كان يدعو ويلح على ضرورة الارتواء من منابع التراث، وإتقان اللغات الأجنبية، والتفتح على مختلف الثقافات الإنسانية، والدأب على التجريب والممارسة والتجويد، حتى تنضج الموهبة وتكتمل الأدوات. وما أحرى شبابنا اليوم وأجيالنا الصاعدة بمعرفة تلك الشروط والالتزام بتحقيقها!!
لقد استطاعت هذه الدراسة تجلية كل جوانب التفرد لدى هذا الناقد. فقد ذكرت أنه كان يفتح قلبه وبيته لكثير من الأدباء الذين يبثونه آلامهم، فيحدب عليهم، ويجتهد في تذليل صعابهم وحل مشكلاتهم. وكان حريصا على التواصل مع أدباء عرب في عدة أقطار عربية وفي المهجر، يقرأ أدبهم ويتابع قضاياهم ويكتب عنهم، وتصفه الباحثة هنا بأنه أول ناقد مصري اهتم بتناول الأدب العربي خارج مصر بالنقد والتحليل والمناقشة. ولأجل هذا اختير ليكون عضوا في أول رابطة للنقاد العرب في العصر الحديث.
ويعد المعداوي ، على حد تعبير الباحثة ،” مؤسس مدرسة الضمير الأدبي التي تأثر بها عدد من أصدقائه من الأدباء آنذاك . فقد كان غيورا على الإبداع الفني والنقد المؤهل لمواكبة هذا الإبداع، وكان شجاعا في الذب عليهما ومتابعة المتطفلين “، في عهود كان فيها النشر أمنية الأماني الغالية لكل شاد متطلع وكل كاتب يرتقي سلم الصنعة الأدبية بتدرج وتريث.
ترى ماذا سيقول المعداوي لو بعثه الله بيننا اليوم وتابع ما تطفح به صحافتنا ومنشوراتنا الثقافية من غثاء مزر، وغثاثة مؤسفة. هنا تأتي أهمية نشر هذه الدراسة، علها تنبه ذوي الأقلام الجادة الصريحة إلى ضرورة إحياء تلك الغيرة المعداوية على حرمة الإبداع وقدسية الكتابة، وذود المتطفلين عنها، وفرض رقابة ذاتية على حركة النشر، فلا يسمح بها لكل من هب ودب.
وبعد، فإن صاحبة هذه الدراسة الدكتورة فريدة المصري، ومن نعرف من زملائها الأكاديميين من الباحثين والباحثات الذين تأهلوا بعرقهم واقتدارهم، وقليل ما هم، مطالبون اليوم بضرورة متابعة حياتنا الإبداعية في بلادنا وما يواكبها من محاولات نقدية للمشاركة فيها بجدية وشجاعة وصراحة، من أجل تطهيرها من مختلف الأوضار والطحالب والطفيليات.
أرجو كل الرجاء أن يطّرد عطاء هذه الباحثة الجادة، وألا تبتلع طاقاتها العلمية مشاغل الحياة اليومية التي عطلت كثيرا من كفاياتنا الوطنية العالية، وحرمتنا من عطائها المتميز الجاد.
وختاما:
وما من كاتب إلا ســــيفنى *** ويبقي الدهر ما كتبت يـــداه
فلا تكتب بكفـك غير شيء *** يسـرك في القيـــامة أن تراه
طرابلس 2010.6.3