النقد

بما ضاقت العبارة

الكاتب عبدالمنعم المحجوب.


عبدالمنعم المحجوب شاعر يطأطئ صورته الشعرية ما أمكن كي يشحنها بدهشة الاكتشاف و يكنزها بألق الغموض البكر الذي تتزين به عادة القصيدة (الذي هو ليس غموضاً وإبهاماً بالمعنى، بل هو الاختلاف غير المعهود والتطرف عن مسار الواقع والمتبع ) فعندما تلمع الفكرة في رأسه تعبق بالفداحة، انها من تلك القصائد ذات التضاريس الوعرة، المفخخة بالإيماءات والايحاءات، يجانس بين الأضداد و يوافق بين المختلفات لينوّع المعاني حيث لا حدود للمعنى، لذلك لا يمكن الإحاطة به ونسميه المعنى الطليق على حد الوعي، ويعمل على ابراز العلائق الصعبة بين المفردات و المكونات اللفظية، وصولا الى التناغم الخفي،  قصائد فائقة الواقعية، مكتومة جافة حينا، تتلوى في غنج، لا تمنحك نفسها الا بعد مراودة طويلة،  سعيا وراء إنصاف المجاز حقه، لذا فهو قد حرر ذاكرته من شبح المتلقي، ولم يصبح له وجود يذكر، واحتفظ بالناقد الضمني الذي في داخله. نأى بعيدا.. بعيدا عن المباشرة، والجاهز الخامل، بعيدا عن المألوف والسائد، لم يهادن على حساب الإبداع الحقيقي، لقد صفع المخيلة الكسولة، واستفز ذائقة المتلقي الساذجة بهوادة الموقظ، وتجاهلُ المعرفيّ، بروح قد قبلت بالتحدي وشككت في كل شيء، وخاصمت الروح التي لا تصنع سؤالها، راهنت على الغامض أعني راهنت على الغد.. النص الواحد متعدد الأبعاد.. يحث في كامل نصوصه، على المبادأة وعلى البدل، ومضاعفة التركيز وصولا الى التقرب من النص، واختراق العمق والتأمل في المحتوى كل ذلك لتغيير وجه الشعر. يأتي الكتابة مدججاً بالأفكار وبعض كلمات كي يرصّع بياض القصيدة. عندما يشع النبيذ بنسوته في رأسه تلمع الفكرة ويتجلى البال، ما يجعله يرغب في قول الشعر بلوغاً الى الدهشة الشعرية، بمنأى عن المؤثر البيئوي وايحاء المحيط فبيئته تعيش في داخله ومحيطه في مركزه، غنوصيا ” عرفاني ” في حالة من أحواله الصوفية كان، وكائنا من رمى!، يخترق الى عوالمه العصية المختفية في الأعماق ويضعك أمام أمرين (أمرّين) أمرّهما حلو، العجز أولاّ ثم الخطأ! لقصائده تماسها الشعري مع شعريات العالم، ويمكن ترجمتها بأقل خيانة ممكنه، وهو يعني أكثر مما يتكلم.

فهل هذا القول الشعري محطة مؤقتة، أم طور من أطوار نموه الثقافي؟  إنه شاعر تجريديّ كما ينبغي، شديد التفاعل ونشط يخلق قصيدته متبلة بالفلسفة من أبسط مؤثر بخيال طليق، وخيال مأسور (عروضي). معتمدا في شيء من قصائده على نواميس الطبيعة وقوانينها المنطقية (nomology) التي تحكم الكون ليس مقلدا ولا محاكيا لها، وفي جلها يقترح مستقبلا سمحا بكل تفاؤل، واعدا بخيال مؤجج. متعة الكتابة لديه لا تقل عن متعة التلقي. يملك قدرة على الاستيحاء والاستنطاق بعد أن تعددت أغراض الشعر واتسعت آفاقها وصولا الى الفن الخالص في محاولة لأخذ الشعر الى مستقبله الذهبي. ومنحه القدرة على الاستدرار ويلاعب مفرداته في وداعة والتي تبدو طيّعة منقادة له وتتهافت عليه، يقترح خلطة متجانسة من المفردات بغريزته السليمة ليمنحنا مقصدا يحمل نظامه الخاص به في داخله. وسط مجتمع لا يتقبل الفن الحديث ولا يلتفت اليه حتى!، بل يبدي نفوراً واضحاً من الحداثة وفي كثير يقاومها. هل يستقر به الحال في التغريد خارج الشعر كما يظهر لنا الآن؟ حيث ينصرف لدراسة التاريخ وخاصة تاريخ اللغة، لتظهر له فثنتها أكثر ويتجلى له سحرها ليستجلي كنهها، فيكون الشعر هو غواية اللغة، هو يرسم اللغة واللغة ترسم الشعر فيستفيد من اللغة الى الحدود القصوى، لكل لغة شعرها وإذا ترجم يبقى لنا بعض الشعر في أكثر الأحايين مهما بلغ تمكن المترجم. له محاذير أن يكتب شعر ردئ في نثر جيد،ولكن سرده بنكهة الشعر. هذا ما يوقفنا على مقال قد كتبه في أواخر الثمانينات كان بعنوان “الأشياء في الاسر والعالم مرمى الأدلجة” عبد المنعم المحجوب هذا الطاعن في الارجوان ( كتاب الإرجوان ) =  الفينيقيين  = الكلدانيين، السادر وراء وهمه ووهمه فقط، حيث الوهم بداية الحقيقة ( كتاب الوهم ) و محكوم عليه بالكتابة و لا شيء غير الكتابة بفنتازيا نخبوية، غير ممكنه لسواه، المهتم بكيف يكتب وليس كم كتب، والذي نلمس لديه تحد كبير لمجتمع يتمسك بماضيه أكثر من تطلعه الى مستقبله والتفاؤل به، فلا نحن ماضي قد يعود، ولا مستقبل مشرق سوف يأتي (كما نتفاءل بعشوائية محضة). نلمس عند هذا الكاتب تحدي النهايات، ومحاولة الاختراق.

   ذا غرورٌ ثقافي كبير مصحوبا برؤياه الجنونية (الجنون الايجابي) ” جنوني الوضي ” كما يسميه الشاعر في قصيدة (عندما يشع النبيذ) لذة النهر الثالث – حيث الرؤيا والرؤية ضدان وتبرز أحدهما على حساب الأخرى – لأجل البعث الشعري العربي من جديد بروح معاصرة تكسبه خاصية المنافسة والديمومة والاستمرار، فلا يقو على احتمال قلقه فيزبُد ما بدا له من فكر.  كانت بداياته موفقة واستطاع في وقت وجيز وقياسي ان يقنع الجميع بما يكتب (بما يوسوس له شيطانه) دون أن يلج متحف اللغة، ولا يضرب نواقيس المعنى هذا مأموله الشعري – قصيدة هذا الشاعر استطاعت أن تعمد نفسها، بطليعية انتقائية – اعتمادا على المماراة والتنافس الشريف وأحيانا التحاسد – حتى مع الزمن – عندما نجوع نلتهم الوقت نيئاً، ونمارس الأبدية مثلنا مثل الشاعر (علي صدقي عبد القادر) رحمه الله. يتبرأ دوما من أذناب الحداثة – لا ينزع الى الثرثرة والمحاكاة، يشاكس المخيلة التي تترجم الرؤيا، والرؤيا التي هي بنت الهام. فالشعر الحقيقي – عندما تخضعه للنقد – هو الذي يمنحك نصا آخر ينبت الى جوار النص الأصلي في حدائق اللغة ويتطاول عليه، أو هو مكملا له أو …..

      ثار الشعر على نفسه أي على أغراض الشعر القديمة، وتوصيفاته، وأصبحت القصائد صناديق مقفلة أو مجاهل مفتوحة وقد استعاضت بشيء عن شيء دون أن تفقد من قيمتها سوى ما يعيبها، وأصبح الشاعر عبد المنعم المحجوب لا غرض له الا الشعر نفسه ( الجمال الخالص ) اذ أصبح دائم الإيمان ب (فوق كل جمال جمال ) ووراء كل جميل أجمل، انه ذاتي الشعر في  منجزه الشعري – مفاهيمه النقدية – صور مكتملة الأجزاء مستوفاة التفاصيل، حيث تظهر لديه قيم التحديث في متعة القول الشعري، ونصه يحقق ذلك التوافق الذهني الذي لا يخدش الذاكرة أو الذوق ولا يؤدي الشعور حيث يسر لك ببعض بهائه ويحتفظ بالباقي لعودة ثانية ! .

   رغم بساطة لغته وبعدها عن التقعير ووضوحها الا أن الصور تبدو غامضة، وتحتاج الى وقفة تأمل عميق – الخيال يتنبأ بالواقع وينجزه، شعره لا ينطوي على نظرة كلية للوجود ربما لمحاذير نعرفها إنه السؤال الفطري الذي يلازم بإلحاحه كل نفس متوثبة، متطلعة …شعره يلون الحيا بألوانه الراقصة. يعمل بشدة التفكير وعصر الذهن كي يقطر له ما يمكن – عند خوض مغامرة الكتابة – من تجانس الخواطر. يعمل بما أوتي من قوة ودهاء على إحداث قطيعة كي يفصل ما بين الميت والحي دون أن يغفل الضرورة والحاجة الملحة الى الارتباط بالتراث الحقيقي ” الهوية “. له بيانه المتفرد. صاحب رؤية ان لم نقل مشروع، إذا ما واتته الظروف نلمس ذلك في السحر الخفي الذي يتمثل فيه، يشيد بالشعر على أساس أنه طارئ حالة ذهنية خاصة لا تتأتى دائما ولا نتواعد معها وفق رغبة. لكننا ندرك أن كل جهوده ستظل تهدف الى تطوير الشعر والى المناداة بالتخلي عن كل ما عفي عنه الزمن. لا يجتر الصور ولا يكرر المألوف، نقف أمام نص مهيب، يمثل الوجه الآخر للشعر العربي، الذي تجيزه الذائقة الذوق هو (حاسة معنوية يقوّم بها الأثر الأدبي أو الفني). تحس ببقايا قصيدة سابقة قد اندغم تلقائيا في قصيدة لاحقة، فعندما تداهمه شهوة الكتابة، يستبقي فائض جهده للنص القادم، فالحياة لديه قصيدة واحدة متواصلة. فلا نحن ماض قد يعود ولا مستقبل مشرق سوف يأتي. كم من مرة أصطدمُ ببعض نصوص هذا الشاعر وأمنحها التفسيرات المتأتية والتي تظهر مبدئيا في الذاكرة وتصادق عليها الذائقة، ولكن بعد كثرة اعادة للقراءة وطول تمحص أقف على حقيقة النص، وأجد أن العلة لا تكمن في النص. التجأ الى هكذا نوع من الكتابة لشعوره بأننا نعيش فراغا ثقافي (تثقيفي) مشين، غير المحكوم بمنطق ولا يقيّده عقل، ذا عقل ناقد يقف مستفهما هل الشعر سؤال شاف أم إجابة محيرة؟ يظهر في القوة التعبيرية الكامنة في النص، والطاقة الابداعية المتدفقة منه. يصطحبك الى أعتاب نصه وينسحب، ليتركك في حوار جديّ مع هذا النص. لأن هذا الشاعر دائما نتوقع منه المزيد. يضيء ظلام الأعماق. يميل الى تشكيل صور بلاغية غريبه وغير ممتحنة (غير مسبوقة)، حيثما يقصر الشعر تطول قامات المعنى، يعزف على أوثار الهواء ويغني بلا حنجرة. من مفتتح النص الى مختتم الحكايات، الوهم مبتدأ الحقيقة. هذا النص المطلسم كما يعتقد البعض هو الذي يضيء ظلمة دواخلنا ومجاهل النفس لما يحتوي عليه من تحريض وحث على وضع الاحتمالات الواردة والتنقيب في الذاكرة. حتى اضغاث الأحلام لا تأتي من العدم بل تتركب من مجموع أو بعض المخزون المعرفي والركام المعلوماتي في الوعي واللاوعي (الباطن كما يسميه الصوفيون) من المنسي والمستذكر، فمثلا يحلم المبدع أحلاماً متصلة بما كان يكتب ويعثر على ضالته في المنام وتكتمل فكرته وكأن مخ الإنسان لا يتوقف عن العمل، رغم عدم التجانس والانسجام الواضح فيما بينها، ورغم فسح التقاطعات والقواسم المشتركة. عندما يمتلك الانسان اللغة يصبح قادرا على كل شيء. نبني الحداثة الشعرية في كثير أو قليل على رميم الشعر الجاهلي. يقف بين الحاح السؤال وحتمية الإجابة، وحيث أن مصادر إلهامه شتى لا يهمه يتفق مع أذواق الآخرين أم لا، لم يضعف عزمه على التغيير وانشاء التجديد، فهو الأكثر حداثة، انحاز الى الشعر الذي سوّلت به نفسه اليه، أسوة بالنخبة المتفلسفة التي برزت في الثمانينات. يخترق الى أعماق النص، كان يكتب الشعر بضراوة محاولا تعميم الحال على ما يمكن والتبشير بالطائل ألأفضل، ويوهّج أسئلته كلما خبأت بنصوص غير متاحة، وكأنه يسعى تبديل قواعد اللعبة ويحرر القصيدة ويلغى الكثير من شروطها وقيودها والقصيدة (لحظة أيقونة) نادرة ستبقى عالقة بالذاكرة ما بقي الشعر، هكذا بوأها المكانة المرموقة، وهذا هو الشعر بالنسبة للشاعر / عبد المنعم المحجوب. 

 يُفسَر شعرُه بعد الجهد بالشعر، يسبق المستقبل ويشرحه، فالغد ماض آت نحكمه ولا يحكمنا، من هنا نستطيع أن نفعل فيه ما نشاء، والماضي نفعل به ما نريد متى توفرت الإرادة. فالتراث يتطور مثلما يتطور عقل الإنسان وتفكيره، ويأخذ مداءات وآفاق غير المدى المبدئي، وقابل للاستجابة والتمظهر بمظاهر جديدة أخرى مختلفة دون أن يُمس جوهره، ما يهمنا الكائن والذي سيكون. لا يتوقع القارئ انه سيتحصل على الصورة الكاملة التي تنطبق تماما على ما يرمي اليه الكاتب، ولكن تتداخل عدة مؤثرات في صياغة الصورة المتحصل عليها (القراءة الحقة لون من ألوان الإبداع) من أهم هذه المؤثرات حالة المتلقي ذاته لحظة قراءته للنص والهواجس المهيمنة عليه، فلها نصيب كبير في تشكيل تلك الرؤية والوعي بها. لا وظيفة للشعر غير خدمة الشعر نفسه. لكنما عند محاولة وصف أصحاب المواهب العليا يفلتون كلما ضّقت على استيعابهم، ونجد أنفسنا لا نهدأ على فهم ثابت لهم. والاقتراب منهم ومن أعمالهم يظل مستمراً ومجرد اقتراب فقط.

مقالات ذات علاقة

رحلة الزاهي: من صقيع دبلن.. إلى نار فزان (1-2)

عبدالسلام الفقهي

روزويل

أحمد الفيتوري

صلاح يوسف وفوزي الشلوي.. شاعران في حكاية اوان الشدو!!

المشرف العام

اترك تعليق