حوارات

الكاتب يونس الفنادي لبرنيق: الثقافة وطن مسكون بالتحدي.. تحدي المعرفة تجاه الجهل وتحدي الجمال في وجه صور القبح

حاورته/ منى بن هيبة (برنيق)

الكاتب يونس الفنادي.
الكاتب يونس الفنادي. الصورة: صحيفة الراي.


(إن المرأة قادرة …. فقط نوروا عقولكم) عبارة أطلقها ورددها وسيبقى يرددها في نصرة المرأة وقضاياها أدبياً واجتماعياً. عرفناه من خلال إصداراته في مختلف ضروب الكتابة حيث بدأ شاعراً متغنياً بجمال الوطن وكان باكورة إنتاجه أضمومة لعدد من القصائد والخواطر والإرهاصات جاء موسوما ب(لعينيكِ أغني)، تلاه إصدار ثاني بعنوان (قراءات أدبية)، ثم كتابه (الأدب الليبي في ثورة فبراير: قصص عزة كامل المقهور نموذجا)، وبعدها ولد كتابه (النص الشعري عند سعدون السويح)، وتبعه (طرنيش في القلب) حول الراحل محمد رجب طرنيش، ولم يبتعد عن مجال تخصصه الأكاديمي حيث أصدر كتاب (الأرصاد الجوية والتشريعات القانونية) وآخر إصداراته كان تحت عنوان (روايات ليبية نسائية)، فضلا عن عشرات المقالات التي كتبها وقدم عبرها العديد من الأقلام في مختلف صنوف الكتابة الأدبية الشعرية والقصصية والروائية ونشرها عبر أديم العديد من الصحف والمجلات المحلية والعربية، فضلا عن البرامج الإذاعية التي قدمها حول الفن والأدب وعموم الثقافة، ولعل انتشاره داخل الحدود مهد لشهرته خارجها حيث لم يقتصر حرفه على تناول أعمال الكتاب الليبيين فقط بل تجاوز هذا للكتابة عن الكتاب والأدباء العرب. هو قارئ يقرأ بوجدانه حيث يعيش النص ويغوص في أعماق الحرف ليستنبط منه الجماليات ومكامن الدهشة. صحيفة (برنيق) رحلت بعيون قرائها إلى عوالم الفنادي ودخلت محراب انفصاله وعزلته في التأمل والغوص في بطون كتب الطامحين ودواوين المتعطشين للارتواء من كوثر الحب والعطاء ورصدت الحوار التالي:

1) قبل حوارنا … هل لديك قراءة حول علاقة الأدب بالفن التشكيلي. هل كتبت شيئا عن هذه العلاقة الجدلية؟

ظل اهتمامي بالفن التشكيلي أساس ثقافتي المرئية البصرية التي علّمتني زاوية النظر والتأمل في اللوحة التشكيلية والغوص في ثنايا ألوانها وخطوطها بحثاً عن دلالات ومعاني تلك البانوراما التي تتشكل بها عناصر ومكونات اللوحة الإبداعية. أما الصورة الفوتوغرافية فهي كانت بالنسبة لي أسهل في التوغل والإختراق باعتبار أنها ناقلة لشيء مادي وحسي كائن وموجود، بينما لوحة الرسم التشكيلي السريالي والحروفي وحتى التجريدي بها نفحة من خيال ودفقة روحانية عميقة تحرك الوجدان والعقل لحظة الوقوف أمامها والتجلي في محرابها.

اقتصر تناولي للفن التشكيلي والتصوير الفوتوغرافي على مقالة صحفية قصيرة بعنوان (لستَ مجرد مصور) كتبتُها عن الفنان التشكيلي والمصور الفوتوغرافي أحمد السيفاو، شفاه الله، نشرتها في زاويتي الأسبوعية بصحيفة “أويا” سنة 2009 تقريبا، ومقالة قبلها حول حروفيات الفن التشكيلي بعنوان (تكوينات اسكندر السوكني والعناوين المطلقة) نشرتها في صحيفة “العرب” اللندنية سنة 1999، كما أجريتُ سنة 1995 لقاءً حوارياً مسموعاً لإذاعة صوت طرابلس مع الفنان التشكيلي عمر الغرياني والفنان التشكيلي التيجاني زكري حول تذوق الفن التشكيلي وحضوره في مشاهد حياتنا اليومية، ولقاءً تلفزيونياً حوارياً حول الفن التشكيلي مع الفنان الرائع الأستاذ علي العباني ضمن حلقات برنامجي المرئي (المشهد الثقافي) سنة 2010. كما نظمتُ بالتعاون مع الأستاذة/ أمال المغربي من مكتب برنامج الأمم المتحدة للتنمية بطرابلس والسيد/ سعد الغرياني من اللجنة العليا للطفولة سنة 1992 أول مسابقة دولية لرسوم الأطفال في ليبيا والتي فازت بها على مستوى العالم لوحة الطفل الليبي “أنذاك” خالد جانكو حين عرضت اللوحات المشاركة من جميع دول العالم بمقر هيئة الأمم المتحدة في نيويورك.

كل هذه النشاطات، في تصوري، تعكس أهمية الفن التشكيلي في تأسيس كيان حياتي الثقافية والتي لا أراها مكتملة بدونه، لأنه يمثل الصورة واللقطة المادية واللوحة الإبداعية التي بدورها تتطور وتتفاعل في العقل الباطن ومن خلالها تتخلق العديد من الصور المناظرة لها في النص الأدبي والذي هو سيرة حياة كل منا.

2) قال الأشاعرة في تعريفهم للثقافة إنها النضال، فكيف يعرفها الفنّادي يا ترى؟

الثقافة وطن مسكون بالتحدي. تحدي المعرفة تجاه الجهل، وتحدي الجمال في وجه صور القبح كافة. الثقافة هي السلاح الذي نردم به الهوة السحيقة بين واقعنا المتردي وتطلعاتنا المستقبلية، وهي الزاد الذي نعول عليه في استعادة صورة الوطن البهي الذي نعشق وننتمي إليه، والإنسان النبيل الذي نحب ونكونه. لا يمكن أن تكون للثقافة معاني غير جميع ما يمت لقيم الحياة الإنسانية النبيلة بصلة ووشيجة بكل ثنائياتها ومتناقضاتها.. فالثقافة والحياة اليومية جسم واحد منصهر في ذاته، بداية من ممارسة سلوكياتنا وحتى نسج وصياغة أحلامنا وطموحاتنا. مع التأكيد على أن جُلَّ ما نشهده الآن من انكسارات وترديات فكرية وسياسية واجتماعية في تصوري مرده إلى التصحر الثقافي الذي يعانيه الإنسان والمجتمع الليبي، وهو ما يستوجب بالتالي الكثير من الجهد والوقت لمواجهته وتجاوزه.

3) ما الذي يشكل الخميرة الأولى للمثقف الليبي والعربي بشكل عام؟

القراءة والمشاهدة هما أساس التكوين الفكري بكل تأكيد، وهما العجينة التي تتشكل منها وتتوالد كل الأفكار والتجارب. فللكلمة سحرها الآخاذ ودورها الفاعل في حياة الإنسان، ولولا ذلك لما كانت المبتدأ في النص القرآني الكريم، والدعوة إليها صراحة وعلى لسان رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام من المهد إلى اللحد. فالكلمة مفتتح أنوار المعرفة والفكر المستنير. والمعرفة هي من يعبد المسارات باتجاه الفهم الصحيح لمسيرة الحياة بكل أصنافها وأنماطها وأزمانها. تليها مباشرة الصورة سواء كانت المشاهدة مباشرة بشكل طبيعي، أو المنقولة فوتوغرافياً، أو المرسومة المتخيلة في لوحة تشكيلية، فالصورة تختصر آلاف الكلمات والجمل التي نحتاجها للتعبير عن حالة معينة أو موقف ما. إن المنحوتات القديمة الموجودة في جبال “أكاكوس” و”تاسيلي” و”تيبستي” في ليبيا وغيرها في مناطق أخرى من العالم، هي دليل على أن الرسم والنحت والتصوير شواهد مادية لها ارتباط قديم ووثيق بالحياة الانسانية وتسجيل أحداثها، وفي المقابل فإن تلك الرسومات والمنحوتات الصخرية هي أحد المراجع والبراهين البصرية المهمة لتتبع التاريخ والزمان في مكان تواجدها.

4) كيف تنظر للثقافة اليوم بين الثابت والمتحول؟

المتحول هو الثابت الوحيد في الكون، بمعنى أن التغيير هو أساس الحياة على جميع الأوجه والأزمنة والأصعدة. فكل شيء يتغير سواء سلباً أو إيجاباً، ولذلك فإن الأفكار والرؤى الثقافية تتطور، وتتعدل نسبياً، وتتبدل وتتغير كلياً أحياناً، لأنها تستمد أصولها من حركة التغير العام للمجتمعات. فما كان يصلح بالأمس قد لا يكون صالحاً في هذا الزمن. والثقافة لا تفارق هذا السياق، فهي فعل تراكمي زمنياً ولكنها تتفاوت فكريا مع زمنها. الثقافة تخضع للتراكمي وهو أمر يتجمع في أنساق متتابعة تحمل الكثير من المتغيرات مما يمنحها حياة ديناميكية وديمومة متواصلة لا تنتهي.

5) ما التحديات التي يواجهها المثقف الليبي اليوم؟ وكيف يحمي نفسه من التيارات السياسية والدينية المغيبة للفكر؟

كثيرةٌ هي التحديات، ولكن أبرزها هو ضرورة أن يثبت المثقف ذاته ويعزز حضوره التفاعلي عملياً في المجتمع وبين أطيافه، ويؤكد دوره التنويري مهما كلفه من تضحيات. فالثقافة ليست مهنة ذات وظيفة واحدة محددة بل هي رسالة فكرية متعددة الأدوار موجهة نحو المجتمع وتصب في رحابه. وكلما عبّر المثقف وأعلن عن موقفه ورأيه سواء الأيديولوجي أو الديني أو السياسي أو الفكري أو الاقتصادي، للأسف تترصده في هذا الوقت الكثير من المخاطر المادية والتهديدات الشخصية المباشرة، وهذا يجعل المواجهة غير متكافئة ولا منطقية، فالرأي المخالف لا يواجه بالسلاح أو الخطف أو الارهاب أو التهديد والقتل، بل بالرأي نفسه والحجة المقابلة، والحوار الموضوعي المتأسس على حق التصريح بالرأي المخالف، واحترامه، والقبول به بكل روح رياضية.

فالصحفيون والاعلاميون دفعوا في سبيل مهنتهم النبيلة ثمناً باهضاً وغالياً من أرواحهم وأمنهم وسلامتهم جراء إعلانهم ونشرهم أراءاهم وأفكارهم التي لم تجد للأسف من يقابلها أو يواجهها بالحجة المتزنة والكلمة الحاسمة، فاختار أساليب العنف والسلاح والخطف والتهديد والارهاب والقتل والتنكيل، وتلك بلا أدنى شك جرائم مادية تمثل مواجهات بشعة ضد الإنسان أولاً وضد رأيه وفكره وتوجهاته ثانياً. وكذلك المثقفون الأدباء الكتاب سواء في جنس الشعر أو القصة أو الرواية أو المقالة أو غيرها تعرضوا للكثير من الضغوطات التشريعية، والمسلحة المباشرة والمعنوية الضمنية، سواء بمنع إنتاجهم الأدبي والفكري، أو وضع العراقيل القانونية وتكبيلهم بخطوط توجيهية حمراء تحد من حرية إبداعاتهم.

أما أمر الحماية فهو حقيقة لا يمكن أن يتحقق بشكل فردي، وهو ليس من مهام أو مسؤوليات المثقفين أو الأدباء، لأنه من المهام الأساسية الأصيلة للمجتمع. فالمجتمع الذي يكفل حرية التعبير لأفراده يجب أن يتولى حمايتهم وتوفير الأمن والأمان لهم كما ينص دستوره وقوانينه النافذة. وعندما يعجز في مهمته هذه، فإنه لا تكون حياة المثقف وحده في خطر، بل الجميع سيعانون مثله، وسينجرون لحياة الفوضى والخراب المادي والفكري.

6) هل أرهقت النخب الثقافية بالسياسة؟

في تصوري أن النخب الثقافية الليبية الحقيقية لم تمارس السياسة في بلادنا عدا نفر قليل من المثقفين والأدباء والشعراء أقحم نفسه في الوحل السياسي ظناً بأنه سيتمكن من الاسهام بدوره الثقافي عبر البوابة السياسية.. بينما النخب السياسية الليبية المتواجدة حالياً على ركح المشهد الوطني فهي للأسف غير مثقفة، ودخيلة على السياسة والثقافة معاً، تعاني تصحراً معلوماتياً وفكرياً انعكس بشكل واضح على قرارات مؤسساستنا التنفيذية والتشريعية، وما آلت إليه البلاد من تردي على جميع الأصعدة. السياسيون في ليبيا فشلوا في تخطي مستويات تفكيرهم السطحية الضيقة التي تستوطنها روح الإقصاء، والقبيلة، والغنائم، والمصالح المناطقية والجهوية والشخصية. السياسيون الليبيون لا يملكون رؤى استشفافية بعيدة للسياسات التي يتناقشونها والقرارات التي يتخذونها، وهو ما أدى إلى وصولنا إلى الحالة المتردية التي نعيشها في ليبيا حالياً. وطبعاً لابد من الاعتراف بأنهم لا يشذون عن الغالبية العظمى لبقية الليبيين الآخرين، فالجميع هو نتاج بيئة تعليمية وفكرية واحدة، ظلت لعقود من الزمن ترسخ مفاهيم الفكر الواحد، واللون الواحد، والرأي الواحد وعدم قبول الرأي المخالف، وعدم وجود قراءات مستقبلية دقيقة بعيداً عن الايديولوجيا تنحاز للوطن فقط، والايمان بأنه هوية وحضن وإنتماء ومحيط اجتماعي يسع الجميع بكل توجهاتهم المختلفة. عددٌ بسيطٌ من المثقفين جرّبوا التعاطي مع السياسة وحين اكتووا بلهيب نيرانها ومثالبها تركوها ورجعوا غير نادمين الى حضن الثقافة النقي.

7) انفصال الأجيال في قضية المثقف كيف تقرأها؟

هذا المنهج اشتغلت عليه سياسات نظام الفكر السابق الذي ساد أربعة عقود زمنية رهيبة، حيث سعى إلى طمس تاريخ ليبيا بكل عهودها وترسيخ مفهوم مغلوط لدى الناس وهو أن التاريخ الليبي يبدأ في سبتمبر 1969 فقط وكل ما سبقه.. لا شيء، وعلينا ردمه في مقبرة النسيان الفردي والجماعي. ذاك الطمس الظالم أدى إلى قطع أوصال الفكر الليبي من جذوره التاريخية الماضوية، ومحاولة صناعة قوالب وهياكل وإنبات جذور آنية مؤدلجة، بديلة عنه، لا تستطيع أن تعيش طويلاً أو تنمو في ظروف بيئة طبيعية، لأنها فقدت تواصلها وعمقها مع الماضي والتاريخ الوطني بكل ما فيه من شخصيات وأعلام ومواقف وأحداث إيجابية وسلبية. للأسف كثير من أسماء الشعراء والأدباء والمفكرين الليبيين أسقطت من التدوين في صفحات المجاميع المتخصصة، وبالتالي لا يعرف عنها هذا الجيل أي شيء. والعديد من الأحداث والمواقف الوطنية المهمة المسجلة في تاريخنا الوطني الليبي يجهلها الكثيرون، ولعلني في هذا السياق أذكر وأستدل بحكم المحكمة الدستورية العليا فيما يسمى الأزمة الدستورية سنة 1954 المتمثلة بإصدارها حكم قضائي ينص ببطلان أمر ملكي للملك الراحل ادريس السنوسي، وانتصار القضاء للمجلس التشريعي لولاية طرابلس الغرب ورئيسه المرحوم علي الذيب. تلك الحادثة يجب أن تضمن وتدرس في المناهج الدراسية الليبية كافة، لأنها تمثل احترام الدستور والقوانين والانتصار لها من جميع المستويات بالدولة بداية من الملك وحتى عامة الشعب. ففي سنة 1954 لم يظهر النفط في ليبيا حينذاك، ولكن كانت بذور الديمقراطية تزرع في أرضنا البكر وتسقى بعناية جماعية، وإلا كيف يمكن لمحكمة قضائية مستحدثة بُعيد استقلال ليبيا بفترة قصيرة، أن تلغي أمراً ملكياً، وتلزم الملك في حكمها المعلن بعدد من الإجراءات الأدبية والمادية وتحمل تكاليف ومصاريف الدعوى القضائية المرفوعة ضد أمره الملكي بعد أن خسرها. هذا مثال في الجانب السياسي، أما على الصعيد الثقافي فهل يعرف الليبيون بأن أهرامهم في “قرزة” بمملكة التخوم التليدة بمنطقة “بني وليد” هي أقدم وأعرق من أهرامات الجيزة بمصر الشقيقة؟ وهل يعرف الليبيون أن الجمهورية الطرابلسية هي أول جمهورية في العالم العربي والإسلامي تأسست في رحاب جامع المجابرة بمدينة مسلاته سنة 1918م؟ وهل يعرف الليبيون بأن صحيفة “طرابلس الغرب” هي أقدم من صحيفة الأهرام القاهرية بعشرة سنوات؟ صحيفتنا “طرابلس الغرب” تأسست سنة 1866م بينما جريدة “الاهرام” سنة 1876م.

كثيرة هي الأمثلة والشواهد الوطنية التي تثبت أن الفكر السابق عمل بمنهجية منظمة على طمس الهوية الليبية وقطع أوصال الوطن وتمزيق صفحاته المضيئة والعبث بكل إنجازات الرواد وتسفيهها والتقليل من شأنها بهدف الخلود الأيديولوجي المزعوم.. وعشق الخراب … والعبث بكرامة الإنسان!.

8) يرى البعض أن مرجعية الانتماء الثقافي تؤكد مفهوم الهوية. كيف يراها الفنّادي؟

قضية الهوية في ليبيا بدأ الاهتمام بها فكرياً وثقافياً والتلميح إليها والعمل عليها جدياً منذ أن وضعها الأديب والشاعر الراحل الأستاذ عبدالحميد البكوش رئيس وزراء ليبيا الأسبق ضمن أولويات البرنامج السياسي والفكري لحكومته بهدف تأسيس مفهوم (الشخصية الليبية) وفق عناصر (الهوية الليبية) المحددة، وذلك لمواجهة المد الناصري القومي الطامس أو المذيب للهويات العربية الوطنية الفردية. للأسف في تلك الفترة كان التيار القومي مسيطراً عاطفياً وعقلياً على الليبيين، فعارضوا طرح موضوع الهوية والشخصية الليبية كفكرة وطنية ترسخ حب الوطن وتعزز الإنتماء الحقيقي لليبيا، والتي في إطارها لن يتخلى الليبيون عن دورهم وإسهاماتهم القومية، ولكن يظل الاهتمام بالشأن الليبي هو الهدف الأسمى الأول الذي يتصدر حياتهم على الأصعدة كافة. فالانتماء لوطن معين هو الأساس الذي تنطلق منه كل الابداعات والسياسات التي ترتقي بهذا الوطن وتعمل من أجل تميزه وتفوقه. الإنتماء هو أقصى جذور الهوية التي هي المحرك الأساسي للعمل للرقي بالوطن. وبالتأكيد فإن الإنتماء إلى الوطن يتأسس على موروث ثقافي وفكري متنوع ومتعدد تكون جذوره ضاربة في أعماق تاريخ المكان والزمان، حيث تتشكل أنسجته ومعالم أطيافه المتعددة من كل ذلك، لتصنع هوية وطنية تكون هي المرجعية الفكرية للوطن، والهوية الليبية بالتأكيد لا تخالف هذا المبدأ فكل مكونات المجتمع الليبي العربية والأمازيغية والتارقية تنصهر بكل ما فيها من تباين ثقافي، وتتوحد في بانوراما وطنية جميلة تؤسس معالم الهوية الوطنية الليبية الحقيقية والشاملة.

9) اشتريت كتابا لا يقرأ. هل تؤمن بوجود كتب لا تقرأ !

لا أؤمن بعدم قراءة أي كتاب. فالكتب تقرأ لكي يتم الحكم عليها موضوعياً ونقدها فكرياً. كم أتمنى أن تتاح لي قراءة كل كتب الدنيا، فالكتب هي المعرفة، والمعرفة هي إجابات كل الأسئلة .. وبالتالي فهي الحياة بمعناها الأشمل.

10) ما هي الآفاق المفتوحة أمام الكاتب أو الأديب الليبي؟

بكل أسف ومرارة أقول بأنها محدودة جداً حد الانعدام كلياً. فالصحافة معطلة، والنشر أمامه تحديات اقتصادية وتسويقية صعبة جداً حسب الأسعار المرتفعة وكذلك سعر صرف الدينار المتدني، وفضاءات المنتديات والندوات والملتقيات الأدبية والفكرية بائسة نتيجة لحالة الاحباط المهيمنة على الناس كافة، وكذلك الظروف الأمنية والسياسية بالبلاد.. بكل مرارة أقول بأن الآفاق صارت ضيقة جداً، وقد تقتصر على بعض الحضور الطفيف والتقييم الضعيف للنصوص والإبداعات القليلة، نتيجة تواري وابتعاد القدرات المتمكنة في الأدب والنقد والشعر والكتابة بجميع أصنافها عن المشهد الأدبي والفكري. أمل أن يكون المستقبل مزهراً وربيعياً أمام الكاتب/ الكاتبة والأديب/الأديبة لأنني أؤمن بامتلاك الليبيين القدرة الإبداعية على التواجد والتألق والتفوق أثناء المنافسات النزيهة.

11) الرواية والفكر مجالين يصعب أن يكون عليهما قيد أو رقابة. كيف تجد هذا الأمر؟

من الناحية النظرية والافتراضية هذا كلام صحيح، حسب الأساليب الفنية المراوغة التي تكتب بها الرواية، وقدرة الروائي على التحايل أو التخفي خلف رمزية معينة، أو استنطاق شخصيات تاريخية، أو استحضار الموروث الديني والاتكاء عليه أو غيرها من الأساليب الابداعية لطرح أفكاره الجرئية أو المضادة لما هو سائد في الوطن سواء كان سياسياً أو دينياً أو إيديولوجيا فكرياً. ولكن من الناحية الواقعية والعملية فإن الأمر مخالف لكل ذلك، فالكثير من الأفكار الجرئية حوكمت ومنع تداولها، وتم وصمها بتهمة الأفكار الهدّامة للمجتمع، كما أن عدداً لا بأس به من الأعمال الروائية منعتها الرقابة قبل أن ترى النور وتصدر، وأخرى صدرت ثم تعرضت للمصادرة والمنع من التداول، بل امتد الأمر إلى تهديد المؤلف والناشر والبائع كذلك. للأسف إن الفضاء الابداعي يعاني الكثير من الضغوطات التي تحد من التعبير بالحرية التي نتوقعها أو نتصورها في أخيلتنا أو أمنياتنا، فالواقع مخالف لذلك تماماً، وبالتالي لابد من الترفق بهذا الكائن الذي نصفه بالمبدع أو الكاتب أو الأديب وتقدير الظروف الحرجة والتحديات النفسية والمادية التي يتعامل معها. وما يتعرض له الروائي والأديب والشاعر يتعرض له الناشر والبائع .. وحتى القاريء !!

12) يرى بعض الروائيين أن وجود رقابة على حركة نشر الرواية تحديداً شيء مسيىء للأدب. فكيف ترى هذا؟

من الناحية النظرية والشكلية أتفق تماماً مع هذا الطرح، ولكن هؤلاء البعض ألا يرون أن للرقابة دور مهم في الحفاظ على تماسك المجتمع وثوابته الدينية والوطنية والإنسانية، وأنها صمام الأمان للمحافظة على كيانه العام!!! كلامك صحيح بأن وجود رقابة مسيء للأدب ويحد من حرية الابداع في جانب، ولكنه في الجانب المقابل يضمن لنا المحافظة على حياة متأسسة على مباديء أخلاقية ووطنية وإنسانية تحترم الديانات والأخلاق وتسمو بالسلوك بدل الانحطاط به، كما أنها ترتقي بالإبداع وتمرر النصوص التي لها قيمة وتنشر ثقافة خيرة، وتمنع لغة الإسفاف والعنف والكراهية وغيرها. إذاً هذه إشكالية كبيرة تواجه المجتمع ولكن إجمالاً، في تصوري، أن المشكلة ليست في الرقابة ذاتها، بل في فكر وعقل الرقيب، وقدرته على تفسير النص الابداعي ورؤيته العامة له، وحيادية قراءته المتعمقة لظاهره وباطنه، والتعرف على حقيقة رسالته. لذلك يظل السؤال المهم هو: من يراقب من؟ فمن هو الرقيب؟ وكيف يتم اختياره؟ وما هي مستوياته الفكرية؟ هذا هو السؤال المهم جداً في هذه المسألة، فسقف التعبير كما تصرح به القوانين النافذة مقبول وفسيح نسبياً، ولكن التضييق يبرز من عقلية الرقيب وقدراته المتواضعة أو حتى المتدنية في فهم النصوص الإبداعية وبالتالي محاكمتها وفقاً لفكره المحدود وأفقه الضيق.

13) سمعنا مؤخرا بمشروع الترجمة العربية. هل نحن مترجمون؟

للأسف على الصعيد الوطني موضوع الترجمة غائب كلياً أو شبه كلي عن المشهد الابداعي والثقافي العام. فالمؤلف لا يهتم بترجمة إنتاجه الإبداعي والفكري، ولا الناشر، ولا المؤسسات الحكومية. الجميع لا يعطي أدنى أهمية لدور الترجمة في التعريف والتواصل مع الأمم الأخرى الناطقة بألسن غير العربية. كما أن مؤسساتنا لا تضع في برامجها أو ترصد ميزانيات مالية للصرف على ترجمة ما يكتب عنا بلغات أخرى وتقديمه للقاريء الليبي. فعلى صعيد المؤسسات الخاصة فإن الدار الوحيدة التي تولت هذه المهمة ولازالت رغم التحديات التي تواجهها هي (دار الفرجاني للنشر) حيث قامت بترجمة العديد من الكتب التي ألفت حول ليبيا بلغات أجنبية وأضافتها للمشهد الأدبي والفكري والثقافي الليبي، أما على الصعيد الفردي فإننا سنظل مدينين للأستاذ الراحل الدكتور خليفة التليسي على ما قدمه لنا من إبداعات مترجمة خاصة عن الايطالية وشكلت إضافة مهمة للمكتبة الوطنية الليبية. أما على الصعيد العربي فإن المؤسسات العربية على امتداد الوطن العربي الكبير منذ أن أسست وهي تعاني مشكلة التمويل المالي وتظل الجهود التي تبذل في مصر والكويت ولبنان والمغرب في هذا المجال متواضعة جداً قياساً بدول وأمم أخرى.

14) برأيك. إلى أي مدى تؤثر الترجمة في تعطيل الفكر؟

تعطيل الفكر!!! .. غريب وصادم جداً هذا القول، فالترجمة تمثل إضافة للآخر وإثراء للمشهد الإبداعي والثقافي الوطني والعربي عامة. الترجمة تنقل فكرنا وإبداعنا للآخرين غير الناطقين بالعربية، وتضيف إلينا إنتاج أولئك الآخرين للتعرف على آدابهم وأفكارهم وتطوراتهم كافة. الترجمة عملية تبادلية، ولا يمكن أن تكون معطلة للفكر، بل هي عكس ذلك تماما، تتيح لنا الاطلاع على أفكار جديدة والعمل على الاستفادة منها سواء بالتعرف عليها أو اقتباسها أو استحضارها في أدبياتنا العربية.

15) هل الأدباء من المظلومين على الأرض؟

أظن ذلك. فمثلما قيل (لا كرامة لنبي في قومه) فإن الأدباء والمثقفين لا حظوظ لهم وسط أهاليهم وأوطانهم وأحياناً حتى خارج ذاك المحيط. ومرد ذلك، في تصوري، هو الجهل بقيمة ما يسهمون به من إبداعات أدبية وشعرية والتي تشكل إضافة للفكر الجماعي، ولذلك يظل الناس يعتبرونهم لا يؤدون دوراً مهما في المجتمع فلا يعيرون جهدهم أي اعتبار ولا اهتمام.

16) كيف يحمي الكاتب نفسه من الانهزامات والانكسارات التي تهدد صموده واستمراره؟

الحماية لا تكون إلا بالاستمرار في الكتابة، فالكتابة هي إحدى الحيوات المتداخلة في مسيرتنا المعيشية، ولابد على الكاتب ممارسة ومواصلة الكتابة والتعبير وتطوير أدواته وتقنياته، فهي الآلية الوحيدة التي تمنحه الاستمرارية الابداعية، وتحدي ومواجهة الإنكسارات والاحباطات التي يشهدها في حياته، وتحاول الاقتراب منه والسيطرة عليه. الكتابة هي المضاد الحيوي ضد كل تلك القلاقل والمنغصات الفكرية والنفسية وحتى المادية.

17) ما الفرق بين أن يكون الكاتب أو الأديب كاتبا للنحويات وأن يكون مدافعا عن قضية ما؟

الكاتب الحقيقي هو من يحمل قضية ما يدافع عنها. والدفاع عن قضية احترام مباديء وأحكام النحو في اللغة العربية مثلاً تلقى بلا أدنى شك الكثير من الإشادة والتقدير لأنها تجسد الغيرة على اللغة العربية المقدسة لغة القرآن الكريم، وكذلك تأكيداً على ضرورة الالتزام بمهنية الكتابة وأصولها واشتراطاتها المطلوب توفرها في الكاتب والتي أساسها إتقان اللغة واجادة قواعد النحو والصرف فيها، فأنا أؤمن بأنه لا يستقيم المعنى ما لم تستقم اللغة. وهذا المبدأ هو ركن أساسي أنقله لطلبة كلية الأعلام والفنون بطرابلس خلال محاضراتي الفصلية التي تستضيفني فيها شعبة الصحافة كل فصل دراسي لإلقاءها. إن مفهوم الكتابة لدى الكاتب لابد أن يكون قضية ومسئولية وليست لحظة تنفيس أو مجرد ترف فكري.

18) ما هي القضية التي يتبناها الفنادي؟

أزعم أنها ليست قضية واحدة، بل عدة قضايا على رأسها الدعوة لحرية التعبير بما يعزز القيم الأخلاقية النبيلة ونبذ السلوكيات المتطرفة والابتعاد عن خطاب العنف والكراهية. وكذلك ضرورة الانحياز لترسيخ مفهوم الهوية الليبية الوطنية في أدبنا وشعرنا وإبداعنا وصور حياتنا اليومية كافة، ودعم المرأة لإطلاق إبداعاتها وفق قدراتها الخاصة، والتأكيد على مسئولية المثقف في تنوير المجتمع، والانحياز إلى الثقافي بدلاً من السياسي لأنني أؤمن بأن كل مشاكلنا جذورها الأساسية ثقافية بحتة وليست سياسية أو اقتصادية، لذلك فإن الإنشغال بالشأن الثقافي هو أهم القضايا التي يجب الاعتناء بها.

19) متى ظهرت المرأة المثقفة الليبية من وجهة نظرك؟ وكيف تطور هذا الظهور؟

أظن أن العصر الحديث هو المجال الزمني الذي برز فيه دور المرأة الليبية الفاعل في المجتمع من خلال اشتراكها في الجمعيات الأهلية الخيرية، والتي بدأت مبكراً في ليبيا، ممثلة في جمعية “نجمة الهلال” التي تأسست سنة 1908م بمدينة طرابلس في أواخر العهد العثماني الثاني وقبيل الاحتلال الايطالي لليبيا سنة 1911م، أي أن المرأة الليبية بدأت في الحصول ونيل قسطٍ، وإن كان بسيطاً، من التنوير الفكري وتعلم أسس التدبير المنزلي مبكراً جداً قياساً بالمرأة في بعض الدول العربية من خلال هذه الجمعية النسائية. ثم بعد ذلك كانت ريادة الأستاذة الراحلة خديجة الجهمي للفكر التنويري الذي استهدفت فيه المرأة والرجل معا، باعتبارهما الركنين الأساسيين في الأسرة، وعملت في كل وسائل الاعلام لإيصال رسالتها التوعوية، فكانت برامج الإذاعة المسموعة، والصحافة النسائية من خلال مجلة “المرأة” و”البيت” و”الأمل”، ثم برامج التلفزيون الليبي منذ انطلاقته في 24 ديسمبر 1968. كل تلك الإسهامات جعلت المرأة الليبية تنال نصيباً معقولاً من المعلومات وتتدرج في الارتقاء بمستواها الفكري والثقافي الذي بدأ بالأسرة والبيت، ثم ظهر حضورها لافتاً في المجال التربوي التعليمي والصحي، تلاه الإذاعي والصحفي والأدبي في شكل كتابة ونشر أجناس متعددة شعرية وقصصية وروائية وفكرية إجمالاً، ثم اتسع حضورها ليشمل الانضمام للحركة العامة للكشافة والمرشدات وغيرها من المناشط المتقدمة لاحقاً. وبلا شك فإن هذه التطورات تعكس المراحل الطبيعية لانتقال المرأة الليبية من خانة التهميش إلى مرتبة المشاركة في الحياة  الاجتماعية بكل أوجهها وتحمل العبء والمسئولية الأسرية مع الرجل وتقاسمه حلو الحياة ومرها، وبالتالي تأدية دورها الإضافي المهم بجانب الدور الأساسي والأهم وهو الأمومة وتنشئة الأجيال.

20) هل تؤيد ما يسمى بالأدب النسوي؟

لو حاولنا الخوض في إجابة هذا السؤال حول الأدب النسوي كما وصفته في سؤالك، فإننا سنجد أنفسنا أمام تفرعات عديدة يمكن أن يشملها هذا المصطلح الفني. فالأدب النسوي هل المقصود به الأدب الذي تكتبه المرأة سواء عن نفسها أو غيرها؟ أم هو الذي يكتبه الرجل عن المرأة وقضاياها؟

أنا أؤمن بأنسنة الأدب والإبداع، أي أعتبره إبداعاً إنسانياً عاماً بصرف النظر عن جنس كاتبه أو مبدعه. ومن هذا الأساس يجب تقييم العمل الإبداعي موضوعياً وفنياً وليس وفق جنس الكاتب أو الكاتبة.

21) وكيف وجدت حضور المرأة في المشهد الأدبي؟

المرأة الليبية لها حضور بارز في المشهد الأدبي منذ منتصف القرن العشرين الماضي تقريباً حين أصدرت الأديبة الراحلة زعيمة سليمان الباروني أول مجموعة قصصية بعنوان (من القصص القومي) سنة 1957م، وبالطبع فإن قصص هذه المجموعة كانت قد نشرت، قبل صدورها في كتاب جامع، بجريدة “طرابلس الغرب” خلال سنوات أسبق من سنة 1957 وهو ما يؤكد قدم وعراقة مشاركتها في المشهد الصحفي والأدبي، وكذلك مجموعة (ليبية في بلاد الانجليز) للراحلة خديجة عبدالقادر كانت منشورة على حلقات في الصحيفة نفسها. ومنذ تلك البدايات العريقة لازالت المرأة الليبية تسهم بإنتاجها الأجناس الأدبية كافة، بل تفوقت أحياناً على ما يسهم به الرجل، والدليل على ذلك أن رواية (زرايب العبيد) للكاتبة نجوى بن شتوان حققت ما لم تحققه الروايات الليبية التي ألفها الروائيون الليبيون حين ترشحت للقائمة القصيرة لنيل جائزة البوكر العالمية للرواية العربية في دورتها سنة 2017م، وكذلك تواجد أديبة أكاديمية ليبية ضمن عضوية لجنة التحكيم في تلك الدورة وهي الروائية الدكتورة فاطمة الحاجي. كل هذا يعزز الثقة في الحضور الايجابي للمرأة الليبية في حياتنا الأدبية.

22) المتتبع لمسيرتك يرى بوضوح تبنيك لقضايا المرأة. فكيف تصف لنا حضور المرأة في أدبك؟

أشكرك على هذا القول، فكل ما أقدمه إنما هو جهد متواضع لإبراز ما أرى أنه واجب عليّ تجاه المرأة ، وأن المرأة الليبية تستحقه بجدارة سواء الإعلان عن مشاركاتها أو التعريف بجهودها أو الإشادة به ودعمها أو غيرها، وأعتبر أن كل ما أنجزته بسيطاً أمام جهود ونشاطات آخرين يفوقونني فكراً وعلماً وتجربةً. وفي هذا السياق قدمتُ خلال شهر يونيو الماضي 2018 وبدعوة كريمة من منتدى السعداوي الثقافي بطرابلس عرضاً بعنوان (مبدعاتٌ ليبياتٌ وعربياتٌ في مشواري الصحفي والأدبي والإعلامي) تناولتُ فيه دور المرأة كملهمة إبداعية أولاً في كتاباتي الأدبية، ثم ظهورها في مقالاتي الصحفية وقراءاتي الأدبية، ثم ضيفة برامجي الإذاعية المسموعة، وكذلك ضيفة برامجي التلفزيونية المرئية، والتعاون معها كزميلة في بعض النشاطات الأخرى. ومن خلال هذا التتبع التاريخي والسرد للعلاقة تبينتُ أن المرأة حاضرة في كل أعمالي، وهذا ليس غريباً، منذ بداياتي المبكرة أثناء الدراسة الجامعية حين فزت بالترتيب الأول في كتابة المقالة الأدبية على مستوى كليات جامعة طرابلس سنة 1981 حيث يبرز تأثيرها في عنوان مقالتي الفائزة (رسالة إلى حبيبتي) حين تمثلت الأمة العربية هي المرأة الحبيبة التي أناجيها وأكتب إليها رسالتي، ثم كتابي المعنون (ثورة فبراير في الأدب الليبي: قصص عزة كامل المقهور نموذجاً) الصادر سنة 2013 عن وزارة الثقافة والمجتمع المدني وهو قراءة في قصص مرحلة زمنية مهمة في تاريخنا الوطني، وكتابي (روايات ليبية نسائية) الصادر سنة 2017 عن مكتبة طرابلس العلمية العالمية، والذي أهديتُه إلى الأستاذة مرضية النعاس صاحبة أول رواية صادرة في ليبيا، واخترتُ أن تكتب مقدمته الدكتورة فريدة المصري أستاذة النقد والأدب العربي بجامعة طرابلس، وأن تصدره الناشرة فاطمة حقيق مدير مكتبة طرابلس العلمية العالمية، كل هذا يؤكد ثقتي في قدرات المرأة الليبية ودعمي لها في جميع المناشط.

23) مارست الكتابة النقدية، كيف ييدأ النقد لديك وبأي مفهوم له تعمل؟

حقيقة أنا لا أدعي بأنني ناقد، ودائماً أصرّح بأن ما أكتبه يندرج تحت القراءة الانطباعية العاشقة التي تستوعب أفكار النص وتتشبع بجمالياته فتنقل مشاعر تأثرها به سلباً أو إيجاباً مع بعض الملاحظات التي تخص اللغة والفكرة والخيال والأسلوب والتساؤلات وغيرها من العناصر الفنية التي يتأسس عليها العمل الأدبي وفق كل جنس ومصطلح فني إبداعي. إن هذه القراءة العاشقة، في تصوري، تغير كلياً صورة القاريء النمطي الاستهلاكي التقليدي الذي يستقبل النص ويلتهمه فقط، دون أن يبيّن لنا مدى أو شكل تأثره به أو درجة تفاعله معه، وتقدم لنا صورة قاريء آخر مغاير لذلك كلياً، قاريء بإمكانه أن يضيف للنص بعض المعلومات أو المقاربات، أو يفتح بعض مغاليقه ويشرح طلاسمه، أو يبرز بعض جمالياته أو سلبياته. أكرر تأكيدي بأنني لستُ ناقداً بالمفهوم الاصطلاحي الذي يلتزم بمنهج نقدي معين وأدوات فنية محددة عند التصدي للنص الأدبي الذي يكتب عنه.

24) إذا طبقنا هذا المفهوم على قراءتك النقدية للشاعرة حنان محفوظ فماذا ستخبرنا عنها؟

كتابتي وقراءتي الانطباعية حول ديوان الشاعرة حنان محفوظ (زهرة الريح) لا تختلف من حيث المبدأ عن غيرها من قراءاتي الأخرى لأني كما ذكرتُ أعتمدُ منهجيةَ التأثير والتأثر، والتقاط َبعض الجوانب الموضوعية والفنية التي تشدني في العمل الذي أكتبُ عنه. ففي ديوانها (زهرة الريح) لاحظتُ تكرار مفردة “الحلم” في عناوين نصوصها الشعرية بالديوان فكانت مقالتي (الحلمُ في “زهرة الريح”) هي رصد وتتبع تكرار هذه المفردة وتنوع ظهورها بصيغ ودلالات لغوية متعددة، وأطلقتُ تكهناتي لبعض إجابات الأسئلة التي طرحتها حولها. وهذه الآلية أتبعتها غالباً في جُلّ قراءاتي المنشورة والتي أبرزها حول المجموعة الشعرية (قصائدُ الظل) للشاعر الراحل محمد الفقيه صالح، ونصوص الأستاذ محمود البوسيفي (لعلها شجرةٌ بعيدة)، وكذلك ديوان الشاعرة تهاني دربي (يعربدُ بِكَ)، وأيضاً ديوان الشاعرة الأردنية سُهى حدادين (لرُوحِكَ ألملمُ حُرُوفي)، وأيضاً ديوان الشاعرة الأردنية غدير حدادين (سأكتفي بعينيكَ قمحاً للطريق)، ونصوص الشاعرة العُمانية آمنة بنت محمد البلوشي (حاراتٌ تشبه قصورَ “آليس”)، وديوان الشاعرة العُمانية فتحية الصقري (قلبٌ لا يصلحُ للحرب)، والدواوين الثلاثة للشاعرة التونسية نجاة المازني رحمها الله (أشرعةٌ في السحاب) و(طيفُ اللقاء) و(مضيقُ الإنتماء)، ودواوين الشاعر الأردني عاطف الفراية في مجموعته (أنثى الفواكهِ الغامضة) وغيرها. كما كانت هذه منهجيتي في كتابي (النصُّ الشعري عند سعدون السويح) الصادر سنة 2013 عن دار الرواد، وكذلك كتابي (إبداعاتٌ أردنيةٌ وقراءاتٌ ليبيةٌ) الصادر هذا العام 2018 عن مكتبة طرابلس العلمية العالمية. ولكن حتى وإن اعتمدتُ آليةً أو منهجاً ثابتاً فإن الكتابة لا تكرر نفسها، لأن الإصدارات أو النصوص التي أختارها للكتابة عنها مختلفة، وتحمل تباينات عديدة في مواضيعها وتقنياتها السردية، أو إيقاعاتها ومضامين رسائلها الشعرية.

25) ما التحولات النقدية للتحرر من القواعد الكلاسيكية للنص الأدبي من وجهة نظرك؟

هذا السؤال يحتاج إلى متخصص في النقد للإجابة عليه، وأنا كما أسلفتُ لك بأنني لستُ ناقداً ممارساً ولا متخصصاً، وبالتالي فإنّ ردي لن يفيدك كثيراً في الوصول لإجابة هذا السؤال!! ولكن يمكن القول أن النقد الأدبي للأسف لم يتطور ليواكب النصوص الحديثة، وظل يسقط عليها أدوات ومعايير واشتراطات النقد التقليدية القديمة التي تجاوزتها النصوص الحداثوية سواء السردية أو الشعرية، وبالتالي لم ينتج النقد إسهامات قيمة بمكن أن تضيف لتلك النصوص. أمل أن تتطور الأدوات والمنهجية النقدية الأدبية لكي تتمكن من تشريح النصوص الحداثوية على اختلاف أجناسها الأدبية، وتكون فعلاً مؤهلة للتصدي لها ومن ثم الارتقاء بالعمل الإبداعي من خلال ذلك. أما أن يظل الحال على ما هو عليه فإن النص الأدبي ومبدعه لن يستفيدا من الدراسات النقدية لأنها لا تمت لهما بصلة فنية.

26) كيف تصف لنا تعاطيك مع مواقع التواصل الاجتماعي؟

هي بلا شك نافذة الكترونية حديثة للتعبير والتبادل والتواصل مع الآخر. بها الكثير من الايجابيات وكذلك العديد من السلبيات، ولكنها إجمالاً هي صورة تقنية من صور التكنولوجيا الحديثة التي نضطر لمواكبتها والتعاطي معها لغرض المعرفة والتواصل الاجتماعي. أحياناً تستنزف مني الكثير من الوقت الواجب استثماره في جوانب أخرى أهم، ولكنها في المقابل تقدم لي تسهيلات كبيرة في التواصل مع الآخر سواء الحقيقي أو الافتراضي، وتختصر أزمنة عديدة في إيصال رسائلي واستقبال الردود عليها.

27) ماذا يعني لك سطر البداية؟

جميع البدايات بكل ما فيها من مغامرة وتردد تظل تكتسي لذتها الخاصة. سطرُ كلِّ بداية هو المحرك الذي يدفع بنا إلى الأمام حتى نهاية الأسطر كلها … سطر البداية لولاه ما اكتملت الكتابة.

28) نقطة آخر السطر؟

آخر السطر شيء عادي لأن كلَّ بدءٍ له آخر، أما السطر الأخير فهو مبعث مسرة الاكتمال وبهجة الانجاز. آخر السطر يعني توقف مسيرة البوح والتعبير والكتابة .. هو شهقة الروح وتنهيدة الوصول لمحطة النهاية ثم تجفيف العرق واستراحة الحروف والكلمات استعداداً لشحذ القلم والفكر لإنطلاقة جديدة.

29) تفضل بالقول ختاما لبرنيق:

صحيفة “برنيق” ترجعني إلى تاريخ “قورينا” و”بنغازي” الحبيبة. وتذكرني بزميلي الصحفي والإعلامي وصديقي النبيل الشهيد (مفتاح بوزيد) رحمه الله، وهو رئيس تحريرها ورمز التضحية الصحفية والفكرية في بلادنا. “برنيق” منارات يستنير بها الجميع في بلادي، وقناديل تشع بالمعرفة ونهتدي بأنوارها على الدوام. شكر خاص للأستاذة الصحفية منى بن هيبة على هذه الأسئلة التي شكلت حوارية فكرية أمل أن تنال الاستحسان، والشكر لجميع طاقمها الفني والإداري والصحفي على الجهود التي تبذل في زمن تراجع فيه الكثيرون، وتواروا خلف المناصب والمناطق والمغانم … بعيداً عن مفهوم الوطن .. أما “برنيق” فقد كانت وستظل نبض الحرف .. وصوت الضمير … ووحدة الوطن والمصير المشترك …. فألف تحية لكم جميعاً.

مقالات ذات علاقة

حوار مع كاتبة رواية “زرايب العبيد” الليبية

المشرف العام

معتوق أبوراوي : مدينة غرناطة كوّة الإلهام بالنسبة لي

مهنّد سليمان

القاص والروائي الليبي سالم الهنداوي: الرواية هي ديوان العرب

المشرف العام

اترك تعليق