الجزء الأول بناء الحكاية
مدخل ضروري:
تبدو الكتابة في لحظة مثل هذه وعلى شخص مفعم بالحيوية والشعرية والعواطف بعد موته شابا رائعا في حادث مؤسف، تبدو ضربا من تحدي صعب. كنت أمل وأتمنى أن أقول له هذه الأشياء عند لقائه، محمد ساسي العياط الذي تحصل على أعلى تقييم في سنوات مسابقة سيكلما الأربعة، ولكن قدّر الله وما شاء فعل وهذا أمر الله، ولا مناص من الرضى بحكمه، وليس لنا أن نقول إلا تقبله الله بالرحمة وجعله من أهل الجنة.
1.1 حكاية القصة
تحكي قصة (أه يا هند) لمحمد العياط قصة ولد وبنت جمعهما الهرب من المطر وخوف البلل إلى مدخل بيت سيدة غنية من الأسر الحاكمة، ويبدو انهما من المحتلين الطليان، وكان ذلك سنة 1939.م. السيدة كانت تنظر لهما من عين الباب. خرجت لهما فتوقعا أن تضربهما أو تعنفهما ولكنهما كانت لطيفة معهما، وبدل الضرب المتوقع ناولتهما السيدة الشكولاطة.
حاولت أن تحاورهما لكن لم يحصل. الراوي على لسان الولد/ الزوج سليم أخذ يحكي عن خجله ومشاعره نحوها وهو يبدو بذلك مختلفا عن هند التي يحاورها طول القصة، فهند لم تخجل وتناولت من السيدة قطعة الشكلاطة.
تصوير مميز لحميمية العلاقة بين الطفلين حيث الطفولة والفرح بالهدية (الشكلاطة) كان كبيرا بينهما ذلك الزمن القديم.
الخطاب موجه من سليم زوج الطفلة القديمة (هند) سليم في الحاضر، وقد اجتازا معا كزوجين عشرات السنين، نتابع ذكرياتهما حول أبنهما خالد، وننتقل للحاضر؛ حيث معهما الأطفال والأحفاد ولا زال يشعر بكون هند صديقة الطفولة والزوجة وهي الوطن.
تصوير رائع ولغة عالية التميز مع سرد لقصة عابرة للتاريخ وشعرية عالية وخطاب من الشخصية للزوجة ينطلق من زمن الطفولة ويتحسر بشكل جميل على أيام مضت، ثم الانتقال من الماضي إلى الحاضر؛ حيث الأحفاد وهند الرفيقة الزوجة.
تميز الخطاب بكونه مثيرا للمروي له، ولغة مناورة رمزية ومميزة وحسن تصوير للمكان وللحظة السرد.
2.1 بناء حكاية القصة:
تمّ بناء هذه القصة من ثلاثة مكونات تقريبا:
1. بناء الشخصيات الرئيسية وهما سليم وزوجته هند وهما يستذكرا ماضيهما من خلال خطاب سليم لزوجته.
2. بناء الشخصيات الفرعية والفواعل التي تدعم بناء الشخصيتين الرئيسيتين.
3. بناء الحميمية والود العالي وإبراز العواطف عبر فواعل وشخصيات ومواقف مختلفة.
ورد في هذه القصة ذكر أربع شخصيات أثنين منهما رئيسية واثنين فرعيتين. الشخصيتين الرئسيتسن اللتين ورد ذكرهما هي شخصية: الزوج سليم، والزوجة هند، وكانت الشخصيتين الفرعيتين هما : العجوز الإيطالية، والطفل عبدالحميد ابن سليم وهند، وكذلك مجموعة من الفواعل أهمها: المطر والتراب والضفادع.
أولا. بناء شخصية الزوج سليم وزوجته هند:
كانت شخصية الزوج سليم تبرز لنا عبر خطابه فهو الشخصية التي كانت تتكلم :
1. خجل سليم، وشجاعة هند
يظهر هذا من خلال تعامله مع الإيطالية وعدم قدرته على التواصل معها، هنا سليم يتحدث عن المرأة الإيطالية المسنة فهو لم يستطع تناول الكعكة من المرأة الإيطالية على عكس هند:
“هممتِ مسرعة، أحضرت كعكا خفيفا دافئا، رفضتُ بدوري، إلا أنك يا هند يا فتاتي أخذتِ قطعة كبيرة، وأصررتُ أنا رغم حنوها علي على ألا آخذ منها، لا أدري لم؟”.
2. صورة جسم سليم فهو قصير.
“كنت قصيراً آنذاك لم يكن بمقدوري تغطية عدسة التصوير الصغيرة عند الباب”.
3. عمر سليم وهند.
وهنا يحدثنا سليم عن عمره وعمر هند صاحبته فهما طفلان في حدود العاشرة من العمر:
“إننا فقط، طفلان صغيران لم يبلغا العاشرة بعد في طريقهما للبيت بعد أن غادرا بيت الجدة”.
4. تحولات سليم وهند عبر الزمن
الراوي هنا عبر صورة مميزة يرسم لنا تحولاته وتحولات زوجته بعد زمن طويل لنتابع ذلك هنا:
“كبرنا اليوم، لم نعد نختبأ عن المطر اليوم، بدأ المطر يهطل من تشققات مآقينا .. وصارت وجوهنا ضفادعَ مجعدة”.
كما تابعناه وهو يرسم التحولات الحاصلة على وجهيهما وعلى حياتهما وقد مرا بأحزان كثيرة في حياتهما.
– ثانيا. . بناء الشخصيات والفواعل المجاورة التي تبرز أكثر الشخصيتين الرئيسيتين:
1. الشخصيتين الفرعيتين:
اشتغل الراوي على الشخصيتين الرئيسيتين من خلال شخصيتين ثانويتين وهما المرأة المسنة الإيطالية وأبنهما عبدالحميد، وكذلك على مجموعة من الفواعل التي تساهم في إبراز الاحداث وأبعاد الشخصيات.
أ. شخصية المرأة الإيطالية المسنة:
قام الراوي/ الشخصية بتصوير المرأة الإيطالية المسنة من خلال من خلال تصرفاتها، ولم يرد بخصوص شخصيتها إلا كونها امرأة مسنة، لكن التصرفات تعكس طيبتها؛ فهي لم تعنفهما وقدمت لهما الكيكة، لنتابع ذلك هناك:
“لكنك يا سيدتي في الحقيقة كنت على غرارهم ظللتِ تبتسمين. دعوتِنا للدخول إلا أننا قد رفضنا، كيف تطلبين من طفلين ذلك، هممتِ مسرعة ،أحضرت كعكا خفيفا دافئا”.
ب. بناء شخصية الطفل عبدالحميد:
كان ابنهما عبدالحميد اداة لإبراز العلاقة بينهما، ( مادة للحميمية)، وكذلك مادة للتذكر، فلطالما تذكر الوالدان ما يصاحب أيام المولود الأول من أحداث:
“هل تذكرين حين كنا نهز سرير ابننا خالد، كنا ننظر بعينين ملؤهما الحب ممتزجا بالأسى، لم نكن نستطيع الهدهدة كنت تبكين كلما انتبهت لصوتنا الطاعن في الطفولة !”.
2. الفواعل الداعمة لبناء الشخصيتين ولحصول الأحداث:
أ. المطر:
كان للمطر الدور الأهم في بداية القصة فهو قد جعل الطفلين يجتمعان عند بيت السيدة الإيطالية، وحدث ما حدث من خصوصية في هذا اللقاء، وكان للشتاء وطبيعة البخار المنبثق من الفم ورسم أشياء على الأسطح الزجاجية دورا في إبراز حميمية تلك اللحظة التي لن تعاد بنفس النمط، ولكن ستتكرر في صورة زواج طويل ناجح.
“ هند ،هل تذكرين ذلك اليوم في شتاء عامِ تسعةٍ وثلاثين تسعمائة وألف، حين استدرجتنا الأمطار لعاصفة من المشاعر ، فاختبأنا – والماء يقطرُ منا – عند سدّة البيت العتيق كان البيت شاهقا،”.
وهنا نتابع صورة الحيطان محمومة برائحة المطر في نهاية المطاف
“المطر خفّ ..بدأ المزارعون بالخروج شيئا فشيئا.. هم أيضا اختبأوا. مضينا نُذرع الحيطان المحمومة برائحة المطر تجاه منازلنا”.
والمطر تصير دمعا نازلا من المآقي في ظروف صعبة شديدة مرا بها معا:
“كبرنا اليوم، لم نعد نختبأ عن المطر اليوم، بدأ المطر يهطل من تشققات مآقينا”
2. البخار
بينما هنا يعمل البخار دوره في رسم الحميمية والتفاعل بين الشخصيتين، لنتابع ذلك وهو ينفي كونهما ضفدعين، لأن الضفادع لا تتنفس مشدوهة من البخار، لنتابع ذلك فيما يلي:
“… أترانا كنا ضفدعين ، لكن الضفادع لا تقوم بالتنفس على سطح زجاج الباب ، لا تتنفس مشدوهة بالدخان المنبعث منها إثر البرد،”
3. الضفادع
أستخدم الراوي الضفادع بتوظيفين مختلفين، فهما في البداية أداة للتعريف بالشخصيتين باعتبارهما يشبهان الضفادع وهما يلهوان بالطين باعتبارهما يلعبان في الطين كالضفادع:
“بعد أن تقافزت وزخات المطر على برك الماء كضفادع خضراء مبتهجة برطوبة الجو الشاعري بالنسبة إليها، أترانا كنا ضفدعين ، لكن الضفادع لا تقوم بالتنفس”
بينما في آخر القصة يكون وجهه ووجه هند زوجته مجعد:
كبرنا اليوم، لم نعد نختبأ عن المطر اليوم، بدأ المطر يهطل من تشققات مآقينا .. وصارت وجوهنا ضفادعَ مجعدة “
ثالثا. بناء مشاعر الحميمية بين الزوجين
تم ذلك عبر تقنيتين هما: لغة الخطاب الحميمي الموجهة من طرف لآخر، وأسلوب ولغة الحوار نفسها.
مارس الراوي رسم حميمية العلاقة بين الزوجين بعديد الأساليب، بعضها ضمن بناء الحكاية من خلال الشخصيتين الفرعيتين وكذلك من خلال الفواعل الحاضرة المؤثرة، والثاني من خلال اللغة المحتوية داخلها على كم كبير من العواطف والمشاعر المبثوتة، وكذلك من خلال طبيعة الاستعارات التي تخدم الغرض الأسلوبي اللغوي السابق.
أولا. أسلوب الراوي الذي يخاطب الزوجة بلغة عالية الود:
من خلال اللغة المحتوية داخلها على كم كبير من العواطف والمشاعر المبثوتة، وأول هذه الاساليب ، أسلوب الراوي في مخاطبة الشخصية هند على لسان زوجها سليم على طول القصة، فقد كان الخطاب في أغلبه موجها إلى هند، حميما نحوها متحدثا عن أجمل خصالها بائحا بمشاعره نحوها، لنتابع ذلك في آخر النص وهو يمازحها ويحرص إلا يجرحها:
لقد أصبحتِ تشبهين تلك السيدة العجوز جدا، سأمازحك قليلا. أنت لازلت نظِرة رغم هذا الخفوت . انظري إلينا، كبرنا وكأننا طفلان في المهد تهدهدنا الأم بعينين مشفقتين حانيتين ترتجي فينا أملا !”
مازحها في البداية بكونها مسنة كتلك العجوز المسنة التي التقياها يوم قديما، وعاد وأوضح أن هذا مجرد مزاح، وأنهما كطفلين تهدهدهما الأم/ الحياة.
ثانيا. رسم الحميمية عبر مفهوم الزوجة عنده ودورها في حياته:
وهنا نتابع في آخر القصة تلك اللغة المميزة وذلك الأسلوب اللغوي الفائق في تميزه وهو يحدثها بكونها وطنا وبكون لغتهما هي الصمت وبكونه لا غنى له عنها لأنها خلقت له، وينهي الرسالة موضحا هنا أن العلاقة زوجية شرعية.
“أرجوك، لا يخفت نور هذا الوجه، لا تفقديني هذا الشعور بالوطن، فإنني وإن حفّ بي الصغار بصراخهم من كل اتجاه، ليس لي لذة تضاهي صمتنا معا، حسيسنا، ابتساماتنا عميقةِ الجروح حبيبتي، لا تتركيني، إن غادرتني فعلا، لن يعود للقصص والحديث والصمت والضجة… معنى، من يشاطرني الصمت بعدها!.
هند.
زوجك المخلص دائما.. سليم”