يشرع موقع بلد الطيوب في نشر رواية (الحرز) للقاص والروائي “إبراهيم عبدالجليل الإمام“، على أجزاء بشكل أسبوعي!! قراءة ممتعة للجميع…
36
قررت أن لا تضييع مزيدا من الوقت.. عليها طرق كل الأبواب الممكنة للوصول لغايتها.. لذلك قررت طرق أول باب.. إنه باب تلك العجوز التي صرعتها نوبة الوجد بالأمس.
أما ثاني الأبواب التي قررت طرقها فهو باب طالما ارادت ان تبقيه بعيدا عن هذه الاحداث… انه زوجها… سترسل إلى زوجها تخبره بمصابهما.. أما آخر الأبواب المتاحة فكان البحث عن القادم من كانو. سألت عن بيت العجوز أول امرأة صادفتها في ذلك العرش.. دلتها بإشارة من يدها الى سطح بيتها.. أضافت بعد ان همت بالسير إلى حيث أشارت:
– سمعت إنها مريضة جدا.
نزلت من إلى سطح البيت.. نادت طالبة الإذان.. بالكاد سمعت صوتاً واهناً يجيب دعوتها للنزول.
نزلت الدرجات القليلة.. كانت التمانحت معتمة.. كما أن فتحة التهوية العلوية مغلقة.. خيط رفيع من الضوء تسلل من شق صغير.. بالكاد يسمح للناظر تبين ملامح المكان.. من الواضح أن أحداً لم يزرها اليوم بعد.. سألتْ من أعلى الدرج قبل أن تشرع في النزول اليها:
– هل أنت بخير يا عمة؟
بصوت حرصت أن لا يبدو واهنا:
– من أنت؟
– جئت للاطمئنان عليك يا عمة.. هل أفتح فتحة التهوية؟
لم تنتظر ردها الذي وصلها بعد أن صعدت أول الدرجات الأربعة التي تعيدها إلى السطح.
– تحسنين صنعا إن فعلت.
أزاحت الغطاء الثقيل عن الفتحة المربعة.. انتشر الضوء في أرجاء التمانحت.. انقشعت العتمة.. نظرت من الفتحة الى أسفل.. لا يبدو أن أحداً يقوم بخدمة العجوز… ربما من يفعل ذلك لا بهتم للكثير من التفاصيل.. عادت لتهبط الدرجات.
جلست في فراشها عاصبة رأسها.. كانت تنتظر زائرتها الغريبة في الكوبت.. مدت لها يدها مسلمة.. لم تبارح نظراتها الكليلة وجه زائرتها بحثاً عن شيء تتبين منه هويتها.. جلست في مدخل الكوبت: – لابأس عليك يا عمة.
أومأت برأسها.. كانت تعصر ذاكرتها الواهنة دون جدوى:
– لا أعلم أين رأيتك.
– كنت في محفل العرس البارحة.
ازدادت حيرتها.. قالت:
– هل كان ثمة عرس البارحة؟
– رأيتك ترقصين.
– أرقص؟.. لا شك أنك تمزحين… أنا مقعدة كما ترين.
– مقعدة؟
– منذ سبع سنين.
– لكنك رقصت حد الوجد فنقلت لي رسالة.
– رسالة؟
– قلت لي علي التوجه للقادم من كانو.
خيم صمت بينهما.. سرت قشعريرة في كامل بدنها.. بدأت ملامح العجوز تتغير.. ازداد انكماش جلد وجهها.. ارتعش كفاها بشكل لافت.. حمرة مشوبة بصفرة كست بياض عينيها.. تماسكت.. فليس هذا وقت الخوف.. استرجاع الرضيع الضائع ليس بالأمر الهين.. سال زبد من طرف فمها.. قالت:
– دائما ما تفعل بي ذلك.. تتقمص جسدي المشلول لتستمتع بالرقص في مجالس الأنس… تعلم عشقي للحون.. هذا ما يسهل عليها أمر اقتيادي إلى المجلس.. ليس هذا فحسب بل تطرح عليا ثيابا زاهية لم يرى مثلها أحد.. قيل لي أكثر من مرة أني أظهر لهن في حلة انيقة باهظة الثمن.. لا تملكها سوى نسوة الأعيان أو كبار التجار.. ليس لمثلي أن يملكها مهما كد واجتهد.. إنها مزيج من ثياب الخز القادمة من بر السودان من وراء نهر كوكو.. ترقص بي أو من خلالي.. ربما الأفضل أن أقول أننا نرقص معا بجسدي.. نستمتع باللحون حتى تصرعني لأخر فاقدة الوعي.. استيقظ بعد نصف يوم وربما ليوم او أكثر.. أغيب في عن هذا العالم.. تكافئني على استعارتها لجسدي باصطحابي لعالم غريب.. عالم يختلف في كل مرة عن سابقه.
سعلت العجوز.. لهثت.. أسرعت لتجلب لها جرة الماء.. لكنها أشارت لها بيدها المرتعشة المعروقة أن لا تفعل..
واصلت حديثها:
– عادة ما تنقل رسالة على لساني لأحد الحاضرات لمحفل العرس..
كل الحاضرات ينتظرن رسائلي.. لهذا يحرصن على حضور أي محفل اكون فيها.. توقفت لتتنفس بصعوبة.. قالت لها:
– بالأمس كنتِ المحظوظة على ما يبدو..
– كافئتني هذه المرة باصطحابي معها إلى مملكة أخرى لم أرها من قبل.. رأيته هناك.. يلهو مع مربيته.
– من رأيتي؟.. هل هو ابني؟
لم تتمالك نفسها.. لم تفقد السيطرة على دموعها فحسب بل فقدت أعصابها فصرخت:
– هل هو بخير؟… كيف أراه؟… أخبريهم أن صبري قد ينفذ في وقت قريب .
أشارت لها بيدها المعروقة لتصمت… قالت بعد أن هدأت بعض الشيء:
– انه بخير.. لا تخافي.. لن يلحقه سوء..
– يا عمة كيف أراه؟… اشتقت إليه… أريد أن أراه ولو للحظة واحدة فقط.. لحظة واحدة ليطمئن قلبي وتهدأ ناري قليلا.. بالله يا عمة.. مرة واحدة فقط.
– لن يفعل ذلك سوى القادم من كانو… تقول لك عليك البحث عنه.
– من يكون هذا القادم من كانو؟
– غدا تعرفينه.. هيا غادري الآن.. لا تخبري أحدا بما رأيت وسمعت.
وقفت.. استدارت.. سارت خطوتين.. تذكرت.. أخرجت عدة قطع من كيس النقود.. وضعتها في كفها المعروقة.. قالت:
– سأرسل لك من ينظف لك البيت ويعيد ترتيبه يا عمة.
أشارت برأسها موافقة.
صعدت الدرجات المفضية إلى السطح.. استعادت العجوز شكلها الخاص بها.