خديجة رجب رفيدة
الحكاية حكاية من؟ حكايتي أنا؟ أم حكاية أمي؟ إنني لا أعرف على وجه التحديد، لربما كانت حكايتنا جميعا، ثم السؤال الآخر؛ منذ متى بدأت الحكاية؟ عشت سنين طفولتي وأنا متأكد من أنها ابتدأت منذ ابتدأ الخلق، ولكن لخالي رأي آخر، لقد قصّ عليّ البداية ذات يوم.
حين جئت بأمي من الشارع وهي حاسرة عن رأسها وتهدد جارنا الطيب الذي لم يهتم ولو يوما واحدا لمضايقات أمي لها شرعت أبكي، أبكي من فرط تعبي، خوفي، حزني، كنت في العام الخامس عشر من عمري، ثم جاء خالي، وحين وجدني أبكي جلس بجانبي، سألني عن الذي يبكيني، ومسح دمعتي بيد حانية أعرفها كثيرا.
قلت له أني ضقت ذرعا بتصرفات أمي، ولا يهون عليّ أن أسجنها، طفرت دمعة من عينيه وقال: هل تصدق أن حالك أهون من حالي؟ منذ عرفتَ أمك عرفتها بهذا الشكل، لا تعرف أما غيرها، المرأة الدرويشة التي لا تعرف من العقل شيئا، تخرج غير مرتبة الهندام، وبغير وجهة، وتهدد رجلا لم يؤذها في حياته، فقط لأنه اشترى جزءا من قطعة أرض بنى عليها بيتها، تدور في بيوت الحي وتقول كلاما غير معقولا، وتهتف بأسماء لأشخاص غير موجودين، يخاف منها الصغار أو يضحكون عليها، وتسمع أنت الوشوشات من وراءها، ويقول لك جارك الطيب “إنها باب جنة مفتوح لك يا مفتاح، باب مفتوح من أوسع أبوابه” وتحتذي بما يقوله لك، وتبرها ولا تهتم لما يقال، تصير ابنا بارا، لا تعرف أن الأم تربي، وتحن، وتعاقب أحيانا، وتفرح للنجاحات، تعرف أمك وهي عبء عليك فقط، لا تعرف أي شيء آخر، أما أنا يا “مفتاح” فقد كنت أعرف أختي التي أستشيرها في كل شيء، في أمور عملي حتى، بل وتساعدني فيه، رغم أن الناس يقولون أن النساء لا يفهمن في التجارة، إلا أن أختي – زمان – كانت تعرف كيف تساعدني، وكنت حين أضيق ذرعا بالدنيا وهمومها أذهب إليها، وتبتسم لي، وتحن علي، وتعد لي غداءً أو عشاء طيبا، وتغسل لي ملابسي، وتصلي صلاتها، وتخاف أن يرى رجل غريب شعرة واحدة من رأسها، لقد كانت تخاف الله جدا، وحنونة جدا، إنني أعرفها وهي تعد موائد لضيوف كثيرين أتوا من مكان بعيد، وأعرفها وهي تحن على أطفال الجيران والعجائز اللواتي فقدن أولادهن في الحرب، إنني أعرفها وهي سريعة البديهة، تحل المشاكل بسرعة لا مثيل لها، إنني أعرفها وهي تسير في الحي رافعة رأسها في زهو وثقة عالية بالنفس، ولماذا لا تثق وكان اسمها “الناجمة”.
آه لو تعرف يا ولدي كم أشتاق لها، أشتاق للناجمة، استبدلها الزمان بالمهبولة، بات اسمها “عيشة المهبولة” منذ ذلك اليوم!
كانت تلك أول مرة أعرف فيها أن أمي لم تولد هكذا، سألته عن ذلك اليوم، وماذا يقصد بتلك الإشارة، فبكى ثم قال:
منذ أن بدأت علامات البلوغ الظهور على الناجمة بدأ الخطاب يتوافدون على بيتنا، لكن أبي قال أنه سينتظر إلى أن تكمل العشرين عاما، وكانت هذه الإجابة منقولة عن الناجمة نفسها، كان هذا ردها لأبي، لكنه لم يقل هذا للناس، لأن الناس في تلك الأوقات لا يسألون بناتهم عن الزواج، ويرون أن الرجل بإمكانه أن يزوج ابنته متى ما يشاء ولمن يشاء، أما أبي؛ ومن شدة حبه للناجمة؛ ومن فرط ثقته بها وبعقلها يسألها، وقالت أنها تود البقاء في البيت حتى أتزوج أنا أو تبلغ العشرين، ثم تزوجتُ أنا، وبعد زواجي بأشهر قليلة تقدم لخطبتها رجل من حي آخر بعيد عنا، حزن الجيران، كانوا يريدونها للبقاء في حينا، أشيع خبر خطبة “الناجمة” في عرس “مختار” ابن عمي، فلما دخلت “الناجمة” على النسوة رددن (وين ضني عمك يا بنية .. اللي حازوك البرانية) كتعبير لغضبهن، أو خيبة أملهن، وحين جاءت للحاجة “فاطمة” بدأت الحاجة تبكي، وتردد من لي بعدك يا “ناجمة”، رجعت “الناجمة” للبيت وبقيت في السقيفة تنتظرني أنا وأبي، وبدأت تبكي، لقد شعرت في تلك اللحظة بالذات أن شيئا ما سيقتلع من حياتها، حينا، العجائز، كل شيء تعرفه “الناجمة”، كل شيء لها فيه يد وذكرى وأثر.
لم تهن دمعتها لا عليّ ولا على أبي، أما أمي فقد نهرتها، (تبي بوك يولّي في كلامه!! ما تنكتبش علينا) فرد عليها أبي أن رجال الدنيا بأجمعهم لا يساوون دمعة تسقط من عيني “الناجمة”! وبذلك، وبعد صلاة الفجر تحديدا أخذني معه، وأخذ عمي، وذهبنا للحي الذي يقطن فيه خطيب الناجمة، وقصدنا بيته ونحن نتوقع أسوأ النتائج، ولكن –وليته لم يحدث– تم فض الخطبة بكل سهولة.
في اليوم الثاني من العرس أشيع خبر أن “الناجمة” لا زالت عزباء، ورآها ابن عم لنا قادم من سفر، لكنه ما دام ابن عمنا، فإنه رجل جيد وشهم، هكذا تعودنا وهكذا استقينا! خطبها، وتم العرس في شهرين.
عاشت “الناجمة” كما عاشت من قبل، تعرف الحي كما تعرف تفاصيل جسدها، تعد الناس الذين بحاجة للمال والأكل كما تعد أصابعها، لا تخطئ أبدا، تتذكر وعودها التي قطعتها للأطفال كما تتذكر صلواتها، لا تنسى منها شيئا.
ثم حبلت الناجمة بك، وأنجبتك وقرت عينها، وحين بلغت العام والثلاثة أشهر ولدت أخوك فتحي، لا تعرفه طبعا، كان رضيعا، لم تنم ليلتها لأنكما لم تناما، أحدكما مريض –لا أتذكر من منكما– وحين جاء الصبح أعدت إفطار زوجها، وذهبت للحاجة “فاطمة” أيضا، وقالت الحاجة أنها تريد الغداء اليوم بازين، رجعت لبيتكم، وبقيت أنت عند الحاجة، وضعت قدر الماء على النار ليغلي، واستيقظ أخوك ليرضع، وحين بدأ في الرضاعة باغث النوم أمك، فاختنق الولد، ومات، جاء أبوك ووجد فتحي أزرق الوجه، امتلأ غيظا، وذهب للمطبخ وجد أمامه قدر الماء المغلي، سكبه على أمك، وتلك اللحظة على وجه التحديد، تحولت فيها “عائشة” من “الناجمة” إلى المهبولة!
سألت خالي عن الشخص الذي أخبره القصة، فقال إنه أبي، أبي الذي لا أذكره إلا لماما، اختفى بذنبه الذي ظل يرافقه تلك السنوات القلائل التي بقي فيها في البيت معنا، أما الحاجة “فاطمة”؛ فقال أبي أنها ماتت كمدا بعد رؤيتها لأمي ملطخة بلحمها الأحمر المحروق.
لما وجدتُ خالي مسترسلا في حديثه عن تلك الأيام استغليت الفرصة وسألته عن أبي، فقال إنه اعتذر لأمي، لكنه ضاق ذرعا بذنبه وبها، حمل نفسه في ليلة دون أن يخبر أحدا، تاركا رسالة مكتوبة بخط يشبه (تبربيش الدجاج) وورقة مسجلة من السجل العقاري تثبت ملكية قطعة الأرض والبيت المبني فوقها –بيتنا– باسمي وباسم أمي، ودكانه الذي عهد به إلى صديق له يثق به، ليعطينا أجرتنا كل أسبوع نعيش بها، وكيس مال، موصيا خالي بنا.
عشت بكل هذا، لي بيت وقطعة أرض ودكان، وخالي فوق رأسي يربيني، استبدل بيته ببيت جارنا مع بضع نقود، ليبقى ملاصقا لنا، ولتبقى زوجته ترعى أمي وترعاني.
ثم ختم خالي كلامه بالخلاصة: أحب الجميع عائشة لأنها “ناجمة”، وسموها “الناجمة” ولأنها كذلك؛ استيقظت باكرا وتعبت وهي ترضع أخاك ذو الشهرين فمات تحت صدرها اختناقا، فغضب أبوك، وحرق جسدها وعقلها ونفسها بماء وضعته هي بنفسها على الغاز، فتحولت من الناجمة التي يحبها الجميع؛ إلى المهبولة التي يخافها نصف الحي، ويشفق عليها النصف الآخر.
الآن؛ عمري تسع وعشرون عاما، أعمل محاسبا في شركة اتصالات، وخاطب لابنة خالي التي تحمل نفس اسم أمي، حالي ميسور جدا، ويسر لي بعض من أصدقائي أنه يحسدني أو يغبطني، فلي بيت وأرض ودكان، ولا إخوة لي يشاركونني في الإرث، وأخطب ابنة خالي وبذلك لن يشترط عليّ مهرا يثقلني، وما قلت لأحد أبدا أني أحسده على أنه عرف أمه كما يجب أن تعرف.