المقالة

أوراق الصباح 2

من أعمال التشكيلي عبدالقادر بدر


أجبرت نفسي هذا الصباح على الجلوس لطاولة في ركن المطبخ، للكتابة.                         

منعتها بحزم بعد الإفطار من تأجيل مشروع أوراق الصباح؛ فقد كان شعوري أمس بعد إنجاز تسطير ثلاث صفحات كاملة شعوراً إيجابياً، صاحبني طوال النصف الأول من النهار، إذ وجدت نفسي، وأنا في الطريق إلى الجامعة، أكثر همّة وانتباهاً.. وأكثر استمتاعاً بجمال الطبيعة، والتفاتاً إلى ألوان الأشجار المصطفّة على جانبي الطريق الطويل، المحمرّة منها والمصفرّة.. القرمزية والبنية.. القليلة أوراقها والمتعرية منها كليّة.. إنّه الجمال الخريفي المتجلّل بشيء من الرهبة الخافتة التي تنشرها النسمات الخريفية الباردة.. حتى لقد خطر عليّ أن المبدع الخالق قد جعل هذه الأشجار متشابهة مع البشرفي هذه التحوّلات..

فعندما يدخل شخصٌ ما في مرحلة خريف العمر، فإن لذلك الخريف أيضاً رونقاً وجمالاً.. وهيبة واكتمالاً.. بعض الناس يبدو في مرحلة الخريف هذه مشدوداً قوياً ثابت الخطو، أقرب إلى مرحلة الكهولة ومنتصف العمر منه إلى الشيخوخة.. وبعضهم ما يفتأ الأمل وحب العمل يحرّكه فلا يكترث بالعمر، ولا يعيره اهتماماً.. وآخرون تزدان وجوههم بأنوار التقوى والقرب والرضا، وإن ضعفت أبدانهم.

يشبه هؤلاء أشجار الصنوبر والسرو والأرز والعرعر، التي تصمد أمام رياح الخريف وعواصف الشتاء.

أما البعض الآخر فيستسلم بسهولة لقانون الخريف المتعنّت، هذا القانون الذي ينتزع منه طعم الحياة ورونقها، ويمتص منه رحيق العافية وهمة الإقبال على الدنيا، ويحكم عليه بالذبول. فهؤلاء يشبهون أشجار التفاح واللوز والتوت.. وإن كانت لهذه الأشجار القدرة على استعادة أوراقها وثمارها عند عودة الربيع، بينما لا يملك البشر ذلك، لأن ربيعهم لا يعود!

أقول استمتعت بألوان الخريف التي طرّزت الطبيعة من حولي.. وبصفرة بعض الأشجار، وبقرمزية وبرتقالية بعضها الآخر، وتعجّبت من أن بعض الأشجار قد تحولت أوراقها المخضرّة إلى لون قريب من البنّي، وهو اللّون الذي أطلق عليه القرآن مفردة أحوى.. بل لقد استمتعت حتى بآلاف الأوراق اليابسة التي طردتها الطبيعة من أغصانها، وسلّطت عليها شامتةً الرياح تتقاذفها علي جنبات الطريق..

لقد وجدت نفسي أردد وأنا أقود السيارة جملة “البديع علاّم الغيوب”، التي قرأت في كتاب أسماء الله الحسنى للشيخ أحمد زروق، نزيل مصراتة، أنها تؤخذ ذكراً لمن أراد التأليف والتّصنيف.

على كلٍّ.. أظنّ أنّ موضوع كتابة ثلاث صفحات كل صباح، بدون تكلّف ولا تصحيح ولا شعور بالقصور، بل بعفوية لا رقابة فيها، هي فكرة ممتازة ومثمرة لمن صبر عليها والتزم بها.

تطلب المؤلفة جوليا كاميرون من طلابها وقرائها الإلتزام بهذه الوصفة لمدة اثني عشر أسبوعاً على الأقل، فهل أستطيع أن ألتزم كل هذه المدة؟ وهل سيغريني تراكم الكتابات طوال هذه الفترة، بما لابد أن تحتويه من أفكار وأحاسيس ومواضيع ذات قيمة.

بالأمس تلقيت مكالمة من الأخ عاشور الشامس مدح فيها مقالي الذي قمت فيه بمراجعة تقرير منتدى التنمية، الذي وقّعته باسم مستعار، واستأذن في نشره في العدد الثاني من مجلة المنتدى.. لم أكن بصراحة راضية عن ذلك التقرير كامل الرضا، إذ قد توجد به بعض الثغرات التي تتعلق بالسبك اللغوي أو المنهجية..

فهل تراه ذلك الناقد “المثالي” القابع بداخلي يوسوس لي بالقصور ودونيّة الإنجاز؟!

أم أنّ ما تتطلبه وسائل النشر والصحافة من مستوى فني وثقافي قد صار متواضعاً؟

ومن ناحية أخرى.. وبمناسبة النشر هل يجب أن ينشر الكاتب كل ما يسطره، حتى لا يتحسّر على أعمال ركنها ورأى تأجيلها حتى فات تلك الكتابات المقام والسياق؟

أم أنّ عليه أن يشحذ أدواته ويرتقي بصنعته ويتقن ما يقدّمه للنشر.. قبل النشر؟

ولكن قبل هذا وذاك، فإن نظرية جوليا كامرون لاشك مفيدة.. ألا وهي الكتابة ثم الكتابة ثم الكتابة.. الكتابة في أي موضوع.. وبأي مستوى..

أما الإتقان والإرتقاء والإبداع والنشر فلابدّ أن يأتي بعد ذلك.. ذلك أن تراكم الكتابات سيؤدي بلا شك إلى بلورة مادة لا تخلو من فائدة ، وإبداع.


كانتون- متشجن 4 نوفمبر 2005

مقالات ذات علاقة

مقالتان قصيرتان.. توتر العقل

محمد دربي

السلوك الدبلوماسي واللغة العربية

المشرف العام

الكتابة على حافر حمار[1]

عبدالرحمن جماعة

اترك تعليق