قصة

الـــجادور

من أعمال التشكيلي جمال دعوب.
من أعمال التشكيلي جمال دعوب.

حتى بعد أن بلغتُ من العمر عتيًا، ما زلت أتوق لمعرفة قبر (بركان) جوادي الذي مات ذات صباح أشعث .. مات ودفن دون أن أعلم حتى اليوم مكان دفنه .. كل ما علمته من جدتي أنه لفظ أنفاسه الأخيرة، فيما ظلت عيناه شاخصتين إلى شجرة اللوز، حيث أدس في العادة شكيمته .. لم يكن بركان جوادًا عاديًا، كان يقطع السانية بالطول والعرض في نفس واحد، أينما سار ترك أثرًا لحوافره .. في شراك[1] الفلفل، في المسرب المؤدي لفم الرملة، قرب الساقية، على الطابية .. في كل مكان، كان له أثر وآثار .. عندما ألفُ الصرعَ على راحتيّ لأحدَّ من سرعته، تمهيدًا لوقوفه، كان يدفع بمنخاره إلى السماء، ليفتح في السحب طريقًا .. لم يكن أحدٌ سعيداً بوجوده .. مرارَا كان صهيله المجلجل، يفسد على الجيران قيلولتهم، وحوافره التي تشبه الصوان، أفسدت مزروعاتهم مرات عديدة .. يبدو أن جنًا قد تلبسه .. هكذا قالت جدتي .. فهو جضران في كل وقت وحين .. لا شيء أحب إليه من مسابقة الريح .. أما المنافسين من أقراني حينها، كنا نتركهم يأكلون الغبار ولا شيء غيره .. لقد كان الأجمل بين خيول أترابي .. صنعتُ له بنفسي سرجًا، وقلادة، من مخدة قديمة، قالت جدتي أنها تحصلت عليها من خالتها في ليلة زفافها .. قصصتُ حواف المخدة، وهي شرائط فضية مزركشة، كأنها سنيبلة[2]، وألصقتُها بالصرع .. كان بريقها يزيد الجادور سطوةً وغروراً.

 سانية جدتي هي الملاذ الوحيد الذي كنتُ أهرب إليه، فور انتهاء العام الدراسي، كانت هي وحيدة ولا تؤيد فكرة الانتقال للمدينة، وكنا نحن خمسة إخوة تضيق بنا الشقة التي انتقلنا للعيش فيها .. كلانا كان بحاجة للآخر، غير أن دخول بركان على الخط، قد أزعجها كثيرًا .. حاولت مرارًا إقناعي بأنه يمكنني الجري أكثر من أي طفل في القرية، دون الحاجة للركوب على جريدة من نخلتها .. والصهيل طوال اليوم كالأرعن، بشكل يزعج جميع سكان القرية.. ومع ذلك حاولتُ، حاولتُ أكثر من مرة أن أكونَ حتى في المرتبة الثالثة، فلم استطع .. أخبرتُ جدتي أنَّ بركان ليس مجرد جريدة من نخلة البكراري .. إنه كائنٌ حقيقي، يعرفني وأعرفه، يعرف متى يقرن[3] مع العقد[4]، ولا يتقدم شبرا واحدًا عندما يكون العقد في حالة استعراض .. ويعرف متى يفتك المقدمة عندما يتعلق الأمر بالمنافسة.

رجوت جدتي مرارًا قبل وفاتها، أن تخبرني أين دفنت الجادور، ووعدتني بذلك حين أكبر، ولكنها ماتت قبل أن تفعل .. مازلت أحن إلى بركان .. أشتاق صهيله المجنون .. وضربه بقائمتيه الأماميتين للكنار[5].. كم أنا بحاجة لأن أمتطيه من جديد، وأن نتبختر سويًا أمام بنات القرية.

الزاوية: 30/07/2020


[1] قطعة أرض صغيرة تستخدم للزراعة

[2] قلادة تقليدية

[3] الإقران: لفظة باللهجة الليبية تعني تساوي الخيل عند سباقات الميز الشعبي

[4] مجموعة من الخيول مع فرسانها

[5] قناة من الاسمنت تستخدم لنقل مياه الري

مقالات ذات علاقة

الخرساء

أحمد يوسف عقيلة

العزف على أوتار الوجع – متى سيفتح سمسم؟

المشرف العام

الغولة

المشرف العام

3 تعليقات

د/عبدالهادي 9 أكتوبر, 2020 at 19:00

بركان/الجادور رمز الطفوله التي عاشها الليبيون..طفوله تملأها المحبة ويزينها صفاء القلوب ..ابدعت كاتبنا الرائع جلال..اعدت لنا ذكريات لفها النسيان وطواها الزمن..واجتاحها الفيس بوك وتويتر والانسجرام وبفية القائمة ..

رد
المشرف العام 10 أكتوبر, 2020 at 18:42

أشكر مرورك الكريم

رد
جلال عثمان 10 أكتوبر, 2020 at 18:56

دكتور عبد الهادي .. شكرًا لكرم قراءة نصي المتواضع .. لقد تركت كلماتك الأثر الطيب في نفسي .. وسأعمل جاهدًا أن أكون في مستوى الإطرأ الذي غمرتني به

رد

اترك رداً على المشرف العام