سيرة

للتاريخ فقط (27)

يشرع موقع بلد الطيوب في نشر سلسلة (للتاريخ فقط) للشاعر “عبدالحميد بطاو“، والتي يروي فيها الكثير من الأحداث التاريخية والسياسية.

الشاعر عبدالحميد بطاو والكاتب والأديب كامل عراب (الصورة: عن عبدالحميد بطاو)

الحلقة: 27/ كــيف كـانوا يفسـدون الأنقياء الطيبين

عام 1987م تم تعيين صديقنا القديم (المرتضى العلوانى) صاحب صالون رمزى في الشركة الوطنية للملابس، وسلموه معرضًا بشارع ابراهيم الاسطى عمر يبيع الملابس والاحذية، كان المرحوم نقيـًا وصادقـًا وطيبًا لا يعرف الغش ولا الكذب ولا الزيف، وكان يأتينى كل صباح في مقر منشأة النشر نتحدث عن الأدب والشعر.

وكان بين الحين والحين يهمس لي بحذر أنهم يحاولون إفساد ذمتى ويريدون إرغامى على الدخول معهم في الاختلاسات والسرقة وتزوير الفواتير وزيادة الأسعار، وكنت أقول له إياك أن تفقد مثلك وقيمك ومبادئك فتفقد أجمل مافيك إيـاك أن تتورط مـعهم في هذه الممارسات القذرة.

وكان فعـلا يقاوم ويرفض ببسالة وكنت أتابع صراعه معهم، وعلى اى شكل سينتهى صراع الحق مع الباطل وهل يستطيع الشعر والحب والصدق والنقاء ان يصمدوا أمام سطوة الاختلاسات وتشويه أجمل قيم الإنسان، ولكنه جاءنى بعد أيام يرتعش مرعوبًا وقال لي:

لقد أثبتوا أن على عجزًا في عهدتي المالية و أعطوني مهلة محددة لتغطية هذا العجز وإلا سيضطرون لإحالتي على الرقابة ويشهرون بى.

كنت أعرف العلوانى جيدًاو واثقًا أنه لم يسرق ولكنها كانت محاولة منهم لتوريطه في جرائمهم فاختلقوا له عجزًا وهميًا كما حدث معى في المنشأة العامة للنشر والتوزيع والاعلان، وانقذنى الله من دسائسهم وابتلاءاتهم. وبعد فترة التقيت بصاحبى وسألته كيف خرج من أزمة العجز…؟

قال لي لقد اتفقت معهم مرغمًا على زيادة أسعار البضاعة وتزوير بعض محاضر استلامها لكى أخرج من هذه الورطة التي وجدت نفسى بها، وقد مشت الأمور كما يجب بعدها وسويت معهم كل أمورى لم أجد حلا آخر الله غالب. فضحكت وقلت له: هى فعلا مشت الأمور ولكن مشت معها أشيا جميله كثيرة كانت تميزك عنهم.

أيضًا اشتغل معى في النشر والتوزيع (على اللافي) وسلمته مكتبة ابراهيم الاسطى عمر حينما كنت مدير فرع المنشأة بدرنة، وبعد إحالتي على المعاش جاءنى في البيت وقال لي: أمس استلمت عهدة كتب من مكتب البيضاء لأبيعها في مكتبتى وحين أعدت جردها وأنا أنظمها في الأرفف وجدت انها أكثر من الكمية المدونة في الفاتورة المرفقة معها.

فقلت له: بلغ رئيس المكتب عن هذه الزيادة لكى تبرئ ساحتك.

وبعد مدة التقيت به فقال لي: ان مدير مكتب البيضاء كان معى في منتهى الأريحيه والكرم فقد قال لي: ليش اتحرش على روحك، ما دامت الزيادة في صالحك خلـّى الأمور ماشية.

ولما سألته متلهفًا: وماذا فعلت أنت؟

قال لي وهو يتمتم محرجًا: خليتها ماشيه!!

من كل هذه الحوادث لاحظت أن هذه (المنشآت الاشتراكية التجارية التي اقامتها الدولة) كيف تحول الانقياء الطيبين الى فاسدين ومرتشين وسـرّاق، وكيف تفننت في إفساد كل العاملين معها لكى يعم الفساد ويفسد كل المجتمع.

ولعل جماعة النشر والتوزيع والاعلان، حينما لم تنجح وسائل إفسادهم معى أحالونى مرغمًا الى هيئة الأمن الداخلى لأكون عبرة لغيرى، وكانت هذه هى المرة الثالثة خلال عملى الوظيفي على مدى اكثر من ثلاثين عامًا التي احال فيها للعمالة الزائدة بهذه الصورة الانتقامية القاسية، فقد كانت الأولى من الاعلام الى جدابيا أول عام 1972م، والثانيه من الكهرباء للمواشى واللحوم في منتصف عام 1985م، والثالثه خلال عام 1989م من المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان إلى الأمن الداخلى. وفي نفس هذا العام أعلن فوزى بالجائزة الأولى في مسابقة التأليف المسرحى التي أقامتها أمانة الثقافة والأعلام في ذلك الحين وقيمة الجائزة خمسة آلاف دينار.

(بكى الأديب المرحوم كامل عراب حينما شد على يدى مهنئًا لي بالجائزة باعتباره رئيس لجنة تقييم المسابقة وكان يعرف أنني نقلت عمالة زائدة إلى الأمن الداخلى) وقال لي:

ملعونه دولة لا تعرف قيمة مبدعيها

أيها الأصدقاء… والله أنني أكتب ما كتبته في كل هذه الحلقات ليس من باب استعراض قدرتى على مواجهة المواقف المؤلمة التي تعرضت لها إلا إن كان للبؤس والمعاناة ما يستحق الاستعراض و البطولة والتفاخر، ولكننى كما قلت كنت في البداية أسجل موقفي من حركة القوميين العرب ولكن أخذنا الحديث ولم استطع التوقف وكان تشجيعكم ومتابعتكم تغرينى بمواصلة الكتابة.

قلت في نهاية الحلقة السابقة اتفق معى الفاضل المرحوم صالح سعيد الشلوى ان احضر كل صباح إلى إدارة الأمن الداخلى وأوقع لأثبت حضورى وأعود لبيتى وكان هذا الحل مغريًا ولكنه لم يعجبنى فكيف استلم راتبي كل شهر ولا أعمل، وأيضًا حينما فكرت في أن اتقدم بطلب نقل لأى جهة أخرى تصورت زملائى في العمل الجديد يصمتون حينما أدخل عليهم باعتبار أنني ربما أكون مكلفًا من هيئة الأمن التي انتقلت منها اليهم وشعرت بحجم الكارثة إن بقيت معهم وإن انتقلت الى جهة أخرى وإن استقلت وتركت العمل ستضيع قدامتى التي تجاوزت الثلاثين عامًا ياله من موقف محير ومؤلم ومربك.

دعونا نتوقف هنا لاحدثكم في الحلقة القادمة عن أصدقاء العمر الذين وقفوا معى ووجدوا لي حلا لم أجد غيره مناسبًا لي في حالتي هذه رغم انه ضايقنى أول الأمر وتحرجت ولكن كالعاده لابد مما ليس منه بد.

مقالات ذات علاقة

محمد رشيد قامة فنية ليبية عصيّة على النسيان

رامز رمضان النويصري

للتاريخ فقط (24)

عبدالحميد بطاو

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (14)

حواء القمودي

اترك تعليق