طيوب عربية

قرية بوتيرو.. قِصَصُ الهُوِّية .. والنِّهَايَاتُ المَفْتُوحة

عُذْراً لِتُونِسَ إِنْ كَانَتْ مَوَاجِــــــــــعُــــنَا       أَعَاقَتْ النَّبْضَ فِينَا عِنْدَ شَكْوَاهـَــا
لَكِنَّــــــــــــــنَا اليَــــوْمَ بِالآلاَءِ نَغْمُـــــــــرُها      كَمُزْنَةٍ مَا هَمَّتْ إِلاَّ لِمَـــــــــــــــــــــرْأَهَا
قِفُوا لهَا .. وَاسْتَظِلُوا فَي دَوْحَتِهَـــــا       إِذْ كَيْفَ نَأْمَنُ عِنْدَ الخَوْفِ لَوْلاَهَا (1)

المجموعة القصصة بوتيرو

هذه وقفةٌ أدبيةٌ لتونس الخضراء تلبيةً لدعوة الشاعرة الفذة الراحلة زبيدة بشير (1938-2011م) التي عبّدت مشوار المرأة التونسية في مجال الشعر والأدب حين انطلقت إسهاماتها المتنوعة في فضاء الكتابة والثقافة والإذاعة منذ بواكيرها في بداية عقد الخمسينيات تحت اسم مستعار (لمياء) نتيجةً للظروف الاجتماعية في تونس آنذاك، وظلت سخية بجهدها وإبداعها وعطاءها حتى آخر حياتها، وقد اخترتُ أن أستهل هذه المقالة بأبياتٍ من قصيدتها المعنونة (كيف أنساها؟) التي نظمتها بتاريخ 11 مارس 2011م قبل وفاتها بشهور قليلة في 21 أغسطس 2011م.

كما تعكس هذه الوقفة التكريمية التأكيد على تلاحم وتعالق الأجناس الابداعية الأدبية الشعرية والنثرية كافة، وهي كذلك وقفة وفاءٍ وتكريمٍ للمرأة التونسية المبدعة في مجال الكتابة والأدب، وربط ماضيها العريق بحاضرها الراهن المتمثل في مكانتها المرموقة التي تحظى بها حالياً بالصف المتقدم عربياً، وتعتبر هذه الوقفة أيضاً نسجاً على نفس منوال القاصة الأديبة لمياء نويرة بوكيل التي صدّرت معظم نصوص مجموعتها القصصية (قرية بوتيرو)(2) بمقولات ومختارات لشعراء وأدباء وكتاب إحساساً وإيماناً بالقيم الإنسانية النبيلة المشتركة معهم.

وتتضمن مجموعة (قرية بوتيرو) الصادرة عن دار الآن ناشرون وموزعون بالعاصمة الأردنية عمان إثنتا عشرة قصة تسلسلت بالجدول رقم (1) الذي يمكننا من خلاله تتبع تواريخ كتابة كل قصة، وعدد صفحاتها، ومن ثم نستنتج منها طول النفس السردي للقاصة وعقد بعض المقارنات الأخرى.

معنوان القصةتاريخ الكتابةأرقام الصفحاتعدد الصفحات
1شركس10/1/20199-168
2كرمة شهلة1/201919-257
3جسد5/2/201929-368
4حب الصنوبر13/3/201937-448
5غربان1/4/201947-537
6أحباب الله15/5/201957-6610
7قطعة حبق12/6/201969-779
8النهر15/7/201981-899
9طلاقة النساء30/8/201990-9910
10الحكواتي29/7/2019103-11210
11ثالثاً وأخيراً8/9/2019115-12612
12قرية بوتيرو1/10/2019129-14416

الجدول رقم (1): تسلسل القصص الواردة في مجموعة (قرية بوتيرو) وعدد صفحاتها

كما يتبين لنا من خلال الجدول الإحصائي رقم (1) الذي تظهر فيه عناوين قصص المجموعة متسلسلة وفق تواريخ كتابتها، وكذلك حسب فهرسها، أن القاصة لمياء نويرة بوكيل قد عملت طوال عشرة أشهر متتالية على إنتاج قصة واحدة على الأقل شهرياً، بل نجدها أحياناً قد أنجزت قصتين في شهر واحد مرتين وهما (شركس) و(كرمة شهلة) في شهر يناير/جانفي 2019م، و(النهر) و(الحكواتي) في شهر أوت/أغسطس 2019م، وهو ما يجعلنا نزعم أو نظن أن كتابة هذه المجموعة بأكملها قد جاءت بتخطيط وعزم على إنجازها تامةً في مدة زمنية محددة، أو ربما أن القاصة استلذت الكتابة إثر البداية فدأبت واستمرت على تأثيت فضاءها المكاني بموعد معين لكتابة قصتها الشهرية.

وبالتعمق في استقراء الجدول رقم (1) متبوعاً بالرسم البياني التوضيحي في الشكل رقم (1) الذي يمثل النفس السردي حسب عدد الصفحات، يمكننا القول بأن القاصة لمياء نويرة بوكيل خلال مداومتها بالكتابة الشهرية عملت على تطوير نَفَسِهَا السردي وزيادته كمياً. فاعتماداً على عدد صفحات كل قصة، نجدها قد بدأت بكتابة قصة تقع في سبعة صفحات فقط، ثم زاد عددها تدريجياً ليفوق الضعف ويصل إلى ستة عشرة صفحة في أخر المدة خلال عشرة أشهر تقريباً، وهو ما نعده مؤشراً على تصاعد النفس السردي لدى الكاتبة، وزيادة المساحة التعبيرية لقصصها.

وبقدر ما نحسب هذا التطور للنفس السردي مكسباً للقصة القصيرة، بصرف النظر عن موضوع الكتابة، إلاّ أنه قد يكون تمريناً وتدريباً للانتقال به إلى عالم الرواية الأدبية الأرحب، وهو حدسٌ ستجيبنا عنه السنوات القادمة.

أما بالنسبة لإجمالي إنتاج الأديبة لمياء نويرة بوكيل القصصي منذ بداية نشرها سنة 2015م وحتى اصدراها الأخير فقد تفاوت كثيراً كما يتبين من الشكل البياني رقم (2) الذي يثبت أنها بدأت بكتابة قصةٍ واحدةٍ خلال سنة 2015م، وخمسةَ عشرةَ قصة سنة 2016م، وتسعة وعشرين قصة سنة 2017م ثم جمعت إنتاجها الكلي خلال هذه السنوات الثلاثة والبالغ خمسة وأربعين قصة ونشرته بمجموعتها القصصية الأولى (سفر في قبضة اليد) الصادرة سنة 2018م.

ويتضح من الشكل رقم (2) كذلك أن ذروة إنتاج القاصة كان خلال سنة 2017م حين نشرت تسعةً وعشرين قصة، بينما لم تنتج أي نصٍّ قصصي طوال سنة 2018م، مما يوحي أنها -ربما- اكتفت بتخصيصها تلك السنة لمراجعة نصوصها القصصية المنشورة، وتقييم أداءها، وتسجيل ملاحظاتها للاستفادة منها مستقبلاً، وكذلك للاحتفاء بما حققته من إنجاز أدبي سواء على المستوى الوطني لتونس والمرأة الكاتبة، أو الشخصي ممثلاً في الاعتراف بها أديبةً قاصةً ضمن المشهد الإبداعي التونسي، خاصة بعد فوزها في الدورة السابعة عشرة لمسابقة صلاح هلال الأدبية في مصر سنة 2018م، ونيلها جائزة الترتيب الأول مكرر عن قصتها (رد لي وجهي) المنشورة بالمجموعة الأولى.

(قرية بوتيرو) العتبة والنص:

العنوان هو كينونة النص واسمه وتعريفه، والبوابة الأولى التي تقود عقل ووجدان القاريء إلى دهاليز الموضوع، ويعتبرأيضاًنصاً موازياً ومستقلاً بذاته، مكثفاً بالمعاني والدلالات الجلية القريبة والخفية البعيدة، لأنَّه “علامة لها مقوماتها الذاتية مثل غيره من العلامات المنتجة للمسار الدلالي الذي نكوّنه ونحن نؤول النّص والعنوان معاً، على النحو الذي يدخله في صلب اللعبة النّصية، ويمنحه فاعلية أوسع على مستوى التأثير”(3)، وهذا ينطبق على جميع العتبات الموازية للنص (العنوان، الإهداء، التمهيد، المقدمة، الحواشي، التوطئات، وغيرها).

ولذلك يمكن القول بأن بنية وتركيب عنوان المجموعة القصصية الذي تكوّن من مفردتين (قرية بوتيرو) يعكس جدليته الموضوعية، ومجازيته البلاغية، وقدرته على إثارة تأويلات عديدة يمكن أن يطلقها القاريء(4)، ربما من بينها الظن مثلاً بأنه إشارة إلى قرية ما من القرى التونسية تدعى “بوتيرو” لأن القاصة من تونس، وهكذا يتواصل التفكير والحدس والبحث في معنى عتبة العنوان ومحاولة تفكيكها وعلاقتها بالموضوع وصولاً إلى شيء من الاطمئنان وبعض اليقين، وبالتالي تكون عتبة العنوان (قرية بوتيرو) قد حققت غايتها المرجوة في جذب القاريء، وإثارة فضوله، وإدارة محركات عقله في محاولة لفهمها واكتشاف مدايات تعالقها مع النَّص.

وحين نكتشف أن العنوان (قرية بوتيرو) لا يمت لتونس جغرافياً أو أدبياً أو اجتماعياً بأية صلة، بل هو مجازيٌّ مقتبس من إحدى قصص المجموعة بالاسم ذاته، تصور فناناً اسمه (بوتيرو) يعيش في دولة كولومبيا بقارة امريكا اللاتينية، لا تتملكنا الحيرة أو الاندهاش، ولكننا نستغرب كيف تجاوزت القاصة عدة عتبات نصوص أخرى أجمل وأعمق دلالة منه مثل (شركس) أو (طلاقة النساء) أو (النهر) أو (ثالثاً وأخيراً) لتكون عتبة الغلاف المعنونة للمجموعة القصصية بأكملها، وبالطبع فإن هذا الاستغراب سيظل قائماً ولا يمكن توضيحه إلاّ بمساعدة الكاتبة نفسها.

أما بالنسبة لقصة (قرية بوتيرو) وهي الأطول في نصوص المجموعة فقد جاءت في شكل حوارية فكرية ممتعة بين الرسام “بوتيرو” وراقصةٍ أسكنها إحدى لوحاته الفنية التشكيلية. وظل الحوار بينهما متصاعداً على الدوام ينثر الكثير من الجماليات في عقل ووجدان المتلقي ويمسك بحواسه كافةً، ولا يتركه يغادر فضاء القصة وشخصيتيها الرئيسيتين وهما الرسام “بوتيرو” والراقصة، مع إشارة عابرة لإبنه الصغير “بيدرو” وظهور قصير لزوجته “صوفيا” في نهايتها.

وظلت القصة ثرية بالحوار الجدلي حد المواجهة والصدام، والسؤال الفلسفي العميق والفكر المتسع للكثير من الرؤى والقضايا، كما يكشفه حوار الرسام والراقصة وأسئلتها الحادة (.. لماذا لم تصنعني تمثالاً، من المرمر أو الجصّ أو الخشب أو البرونز، على غرار أعمالك المعروضة في أماكن عديدة والتي تعدّ بالمئات، لماذا؟، لماذا لم تجعلني خارج جدران الورشة وهوائها الآسن، لماذا تحبس لوحاتك في البراويز والمتاحف أو منازل الأرستقراطيّين؟ ألا يجب أن يخرج  الفنّ إلى كلّ الناس، ويكون في متناولهم دون أن يستثني أحداً؟ يعرض في الأنفاق وعلى الجدران، في الأحياء الراقية والبائسة حيث الحياة الحقيقيّة واليوميّة والعارية من كلّ زيف، أليس الفنّ للجميع أيّها الفنّان العظيم؟”..)(5). ويتواصل الكشف عن مفهوم الفن حين يرد الرسام بوتيرو على راقصته (.. الفنّ يا صديقتي، هو الخلاص الوحيد، لأن يجعل الحياة ممكنة وجديرة بأن تعاش، ولولاه، لكان العالم قرية أطلال) (6).

ومن خلال هذه النص نستخلص أن عنوان قصة (قرية بوتيرو) هو إشارة مجازية إلى الورشة الفنية التي يتخذها الرسام بوتيرو مرسماً يصنع فيها لوحاته ويسكنهم فيها مؤقتاً بجميع أشكالهم وأحجامهم وألوانهم كقرية زاخرة بالجمال، وهذا ما يؤكده مشهد نهاية القصة التي كانت حزينة صادمة (.. في ساعته المعتادة من الصباح، فتح بوتيرو باب ورشته، وهو في تمام أناقته وهمّته وشوقه، خطا خطوتين وتوقّف فجأة، ثمّ خرّ على أقرب مقعد منه، فرجلاه الهزيلتان ما عادتا تقويان على حمله، وأمّا يده اليمنى فقد أصابها وجع، من منبت الذراع حتّى أصغر أصابعه التي شلّت حركتها بالكامل، وسرعان ما شعر أنّه قد بدأ يفقد أنامله شيئا فشيئا، لحظة كان يدوّر بصره في لوحاته الخاوية من عناصرها، ومجسّماته المفقودة، وورشته التي صارت شبيهة بقرية أطلال تبكي هجر ساكنيها.)(7)

وعند استعراض قصص مجموعة (قرية بوتيرو) يمكن تحديد العديد من أبعادها وملامحها وخصائصها الفنية التي ظل ظهورها متبايناً بين نصٍّ وآخر، ولكن يمكننا الإشارة إلى بعضها في هذه القراءة البسيطة على النحو التالي:

أولاً: الهوية الوطنية التونسية

تعدُ اللهجة أو اللغة العامية إحدى عناصر ومقومات الهوية الوطنية التي تميز العمل عن غيره، وتمنحه بصمته الفارقة وجنسيته الخاصة. ولما كان الأدب بأجناسه المختلفة هو أحد الأدوات التي ترسخ مفهوم الاعتزاز بالهوية والإنتماء الوطني، فإننا نجد أن الهوية التونسية هي التيمة الموضوعية في أغلب قصص المجموعة سواء من خلال لغة الخطاب الجدلي التي اعتمدتها على لسان شخوصها باللهجة العامية التونسية مثل: (شْنُوَّة إلّي موشْ عاجْبك يا لِلّة، آشْ تِتْمنَّى لِبْنَيّة غيرْ راجل مَقْدُودْ وبِفْلُوسُو. ماقْراشْ؟ آشْ عمَلْت بيها إنت قْرايْتِكْ وثقافْتِكْ؟ أكبرْ مِنْ بوكْ؟ الرْجال إلِّي في عُمرِكْ هاهُمْ  قاعْدين بطّالة، وشْهادتِكْ وشهايِدْهُمْ،، بِلْوها، واشْربُوا مَاهَا. عرّس برشا مرّاتْ؟ ومالو، المهمّ أنت آخر وحدة يعرّس بيها. وقتاش يا ربّي نرتاح من همِّكْ)(8).

أو أسلوب الحوار الثنائي والمتعدد بين أبطال قصصها حيث ظلت اللهجة العامية التونسية بارزة فيه بكل وضوح مثل:

(سألتها مينا باستغراب: “ميمهْ، شْتعمِلْ” ؟. قالت بصوتها الرخيم والنابض بحكمة السنين: “باشْ نطيّب عصيدة السُنّة والعادة، عصيدة الجدود والأصل، لَعْصيدة البيضاء”)(9).

وفي مشاهد أخرى ظلت اللهجة التونسية حاضرة حتى وإن تنوعت لغة الحوار تارة باللغة الفصحى وأخرى بلغة وسطية مختلطة تجمعهما معاً في نفس السياق مثل:(قالت تسأل حماتها في حيرة: “يا حنّة، هذا الديك الذي عندك، أمره عجيب ما أقْوى صوتو، بجاه بْرَبّي شْيُقْصُدْ بِصْياحو، يسكت يسكت ويعاود يصيح؟”)(10).

ولم يقتصر توطين الهوية الوطنية التونسية في المجموعة القصصية على استعمال الحوار باللهجة العامية فقط، بل توسع ليشمل تأثيت الفضاء السردي بكل ما يمت لعناصر ومقومات الهوية التونسية بصلة بداية من أسماء الأمكنة التي تنتمي إلى بيئة تونسية صرفة مثل (جبل السرج، القيروان، سوق لعراوة) وأسماء شخصيات أبطالها مألوفة الانتشار في المجتمع التونسي وتحيل إليه بكل صراحة (المنجي، شادلية، شهلة، بوراوي، سيدية، فطوم، مينا، بختة، حدِّي) ومسميات الملابس أيضاً (الشاشية، مجول ستايني، بلوزة الخضار، الطفطفة)، واستحضار العادات والتقاليد والاكلات والأطعمة (عصيدة الزقوقو، عصيدة بيضاء، الكرد، كرات حلوى “الدنيا” الفضية، وقطع “القنفيد” الملونة، شاشية حمويا)، وبعض ما يتعلق بالفرش والأثات والزينة (الزربية، بيت القعاد، الحرقوص الأسود) وكذلك تضمينها كلمات دلالية منفردة، أو عبارات عامية تونسية خاصة مثل (جارة الساس) و(الفدلكة) و(البلانصي) و(الحراقة) و(عِينِكْ عَالنَّصْبَة) وأيضاً الأمثال والعبارات الشعبية مثل (لحبق إِلِّي يِنَحِّي لِقْلَقْ، يِفُوحُ ويِرُدْ الرُّوحْ)(11) و(بنت الشيح والريح)(12) والأغاني الفلكلورية الشعبية التراثية مثل (أم القد طويلة صالحة، قدك بابور آ … صالحة)(13)، وأيضاً (الكبش يدور الكبش يدور، وقرونو نطاحة)(14) وكذلك أغاني القصائد الفصحى والتي من أبرزها قصيدة الشاعر التونسي الراحل أبي القاسم الشابي (ألا انهض وسر في سبيل الحياة، فمن نام لم تنتظره الحياة)(15).

إن كل هذا الحضور للهجة المحلية التونسية يؤكد أن القاصة لا تكتب نصوصاً عبثية لقتل أوقات الفراغ، أو تعتبر انتاجها مجرد لحظات تنفيس فكرية تمنحها بعض الانبساط والمتعة، بل هي تجذر هوية تونسية وتوطن عشقها والانتماء إليها، وهذا بلا شك رسالة وطنية هادفة ومهمة، رغم ما يتعرض له تضمين اللهجة الوطنية في النص الأدبي من انتقادات وبعض الاعتراضات، إلاّ أن أنصار العامية يرون في استعمالها، استجابة للمذهب الواقعي المعاش، والتعبير عنه سردياً بنفس اللغة المتكلم بها، وأن الحوار بالعامية يمنحُ حيويةً وتأثيراً ونبضاً، ربما لا تحققه الفصحى، لأنه يقرب وقوع أحداث القصة للقاريء، ويجلعه يظن أو يحس بأنها قد جرت فعلاً.

ثانياً: البعد الجغرافي أو المكاني:

ظلت تونس بكل مدنها وشوارعها وبيوتها وأسواقها ومعالمها الرحبة الواسعة هي الفضاء القصصي للمجموعة، وإن عبرت القاصة خلاله للإشارة إلى أصقاع أخرى من العالم مثل البلدان التي تحتضن المهاجرين التوانسة، أو عند تناول قصة الراقصة في لوحة الفنان “بوتيرو” في دولة (بورتريكو) بأمريكا اللاتينية أو جزيرة (اللامبدوزا)(16) الايطالية، أو مدينتي (بوقوتا) و(ميديلين) الكولومبيتين أو “سجن بوغريب” في العراق(17).

ولكن لابد من التأكيد على أن جلّ مضامين قصص (قرية بوتيرو) لها امتدادات فسيحة وواسعة كونياً ويمكن التعرف عليها حتى خارج الفضاء الجغرافي التونسي لما فيها من روح إنسانية، وقيم ودلالات معبرة عن أنماط الحياة المتعددة، وحين أسبغت عليها القاصة النكهة المحلية التونسية، أضفت عليها بُعداً شمولياً واتساعاً إنسانياً إيجابياً يعزز الترابط والتعالق الإنساني كافةً الذي يتخطى حدود الجغرافية القطرية الضيقة وإن اتسعت أحياناً في نظر البعض.

ثالثاً: البعد الزماني:

هو زمن الأحداث الذي تدور فيه قصص المجموعة، والتي جاءت كلها معاصرة، منتمية إلى الزمن الراهن، وإن استذكرت بعض الأحداث الماضوية التاريخية البسيطة وألمحت إليها بشكل عابر غير متعمقة في تفاصيلها، مثل الاشارة إلى (سجن بوغريب) بكل ما يحمله من دلالات للمكان والزمان والمعاناة القاسية المصاحبة له.

رابعاً: البعد الموضوعي:

ظل هذا البعد متفاوتاً في أحداثه ضارباً جذوره في الواقع التونسي والإنساني المعاش ليسمو متعالياً بفسحات واسعة من الخيال الممتع، يشكله أسلوب بسيط واضح وصريح متقن جداً بلا رمزية أو إشارات غامضة، تفاوت في لغته وتقنيته بين عرض بلاغي ظاهري متماسك، وتوغل وغوص في معالجة موضوع القصة وتحريك شخصياتها بكل ما يحتاجه ذلك من وصف وحوار وأسئلة. إن معظم القصص والحكايات غلب عليها الالتقاط الضمني من واقع الحياة مطعمة بخيالات ورؤى وأفكار متنوعة نسجتها القاصة في تناغم مبهر زاخر استطاعت بلغتها السردية أن تبعث الدلالة القصصية بإتقان وترسم أحلاماً تقترب من قبضة الزمن أو تجاريه. ولابد من التأكيد على أن قصص المجموعة تناصر الإنسان أينما كان مثل قضية (حقوق المرأة) التي عبّرت عنها قصة (طلاقة النساء) بكل صراحة مرسخة شعار (المجد للمرأة، نساءُ بلادي نساءٌ ونصف) تأييداً لقضية حرية المرأة وحقوقها التي تعبر عنها القاصة وهي قضية لا تقتصر على النساء التونسيات فحسب بل تشمل غيرهن في أصقاع العالم، ولكن القاصة صبغت نصها بمعاناة وطنية خاصة التقطتها من صميم بيئة تونسية، وأسبغت عليها أنفاساً أنثوية محلية.

وكذلك تناولها قضية الزنوجة في قصتها (النهر) وطرحها الممتع الذي رحل بي لإعادة مراجعة كتاب (التعددية الثقافية في الجماعة الوطنية: الأقليات في تونس البربر واليهود والسود)(18) وموقفه من قضية الزنوج السود في تونس، والمطالبة بحياة أكثر عدالة ومساواة لهذه الشريحة الاجتماعية. كما أبانت هذه القصة القصيرة تعالقاً صريحاً بينها وبين الشعر من خلال تضمينها أشعاراً مترجمة للشاعر الفرنسي الجنسية الكونغولي الأصل “إيمي سيزار” منقولة من كتاب (كراس العودة إلى أرض الوطن)(19)، تضامناً مع نضال الزنوج في العالم ومناصرة حقوقهم في الحرية والعدالة، وبذلك تستعير القاصة من الشعر صوتاً يثري نصها السردي القصصي ويعزز التعالق الإبداعي بينهما.

ومن الملامح الأخرى التي برزت في المجموعة قضية العلاقة مع الحيوانات والطيور بشكل لافت، بل وصلت قوة الترابط الإنساني مع الحيوان إلى إضفاء عدة صفات حبيّة حميمية على القط (شركس)، فجعلت مكانته تحمل صلة القرابة العائلية الإنسانية وتصل إلى مخاطبته (وليدي) وهي تصغير لكلمة (ولدي) كنوع من التدلل والمحبة القوية، وتارة أخرى وصفه (كبدي) وهي اعتباره بمثابة الجزء الأساسي من جسد وكيان الذات الإنسانية، وثالثة مناداته (صديقي العجوز)، وكل هذه مراتب لا تعد ملاصقة للقلب فقط وإنما تستوطنه أو أقرب من ذلك كثيراً. وبذلك نجد القاصة في بعض نصوصها قد أعادتنا إلى أجواء (كليلة ودمنة) وحكاياتها بلسان الطيور والحيوانات كما ظهر في تضمينها قصصاً موازية، داخل القصة، اختارت أبطالها من الحيوانات والطيور كما نراه في (النهر) و(الحكواتي).

خامساً: البعد الفني

ظلت المعايير الفنية للقصة القصيرة متوفرة بغزارة في هذه المجموعة سواء من حيث شاعرية اللغة وبلاغتها، ووحدة الموضوع الوطني أو الإنساني، ووحدة الشخصية المرسومة بكل اعتناء واقتدار، وصرامة البناء الهيكلي وإشارات الإيحاء والرسائل الدلالية والمقصدية العميقة التي تبعثها، وهذا ما يميز جنس القصة القصيرة. ويمكن هنا تسجيل بعض الملاحظات على عدد من المقومات الفنية بالمجموعة كالتالي:

1) اللغة: ظهرت حكايات مجموعة (قرية بوتيرو) كلوحة فنية تشكيلية زاهية بخطوط رسوماتها وألوانها الجذابة، موشاة بعذوبة وجماليات وافتنان النص السردي، ومفرداته اللغوية الشاعرية الخالية من الأخطاء النحوية والبعيدة عن الغموض أو الرمز، والمنتقاة بكل عناية، متلبسة وحاملةً مضامين ودلالات أفكارها المتنوعة، ومعبرةً بكل دقة وحرفية عن موضوعات وغايات رسائلها لتنصهر كل عناصرها في سلاسة سردية تنحاز فيها القاصة لتوطين معاني وقيم الخير والمحبة والبهاء. ومن أبرز ما يلاحظ على لغة المجموعة خلوها من مفردات اللغة الفرنسية الدخيلة التي تعج بها لهجة العامية التونسية خاصةً والمغاربية بشكل عام، وهذا بلا شك يعيد للعربية الفصحى اعتبارها ويمنحها الكثير من التبجيل والتقدير من القاصة التي تؤكد بهذا المنحى انحيازها الصريح إلى لغتها العربية الأصيلة.

2) الشخصيات: إذا كان القاص والأديب الإيرلندي (فرانك أوكونور) يعرّف القصة القصيرة بأنها الفن الذي يحكي عن شريحة المهمشين البسطاء في المجتمع، وعوام الناس الذين يمكن أن يقال إنهم بلا بطولة(20)، فإن القاصة لمياء نويرة بوكيل قد جعلت كل شخصياتها من البسطاء أبطالاً يحملون رسائل تعبيرية تسهم في إثراء الفكر وبهجة النفس وإمتاعها، ويستحقون من القاريء الكثير من الاهتمام والمتابعة والثناء حيث استطاعت القاصة أن تشكل أفكارهم، ووصف هيئاتهم، وصياغة حواراتهم، بكل المهارة والمتعة التي تحقق تلك الرسائل الهادفة. ولابد من التأكيد على أن القاصة قد خلقت معظم شخصياتها من رحم الحياة اليومية البسيطة والعفيفة في المجتمع التونسي.

3) الأسلوب: اعتمدت القاصة في أسلوبها السردي الممتع على تقنية الراوي أو السارد بصوت المتكلم غالباً، وهو بالطبع يعتبر الأنا الثانية للكاتبة، ويشكل “الواسطة بين العالم الممثَّل والقاريء، وبين القاريء والمؤلف الواقعي، فهو العون السردي الذي يعهد إليه المؤلف الواقعي بسرد الحكاية والذي يعده رولان بارت كائناً من ورق وجميع الشخصيات التي يصورها”(21). كما نلاحظ أن الاسلوب السردي في هذه المجموعة لا يضيق بالكثير من القضايا والموضوعات الإنسانية العامة، حيث ظل متسعاً لها ويستحضرها من خلال المشاهدات والشخصيات التونسية وهو ما يؤكد مجدداً ترابط الانشغالات والمشاعر الإنسانية وتجاوزها حدود الجغرافيا الوطنية.

  وقد وفقت القاصة في الامساك بمسارات أسلوبها السردي المتعدد فجاء منسجماً ومتوافقاً مع صوت الراوي وشخوص القصص، وثرياً بمفرداته وكلماته وعباراته، وغزيراً في تركيباته وصوره الفنية كافة، خالياً من الإغراق في الرمزية أو الايديولوجيا أو السياسة أثناء عرضه ووصفه، وبعيداً عن الغموض الفلسفي أثناء مناقشاته البسيطة، ولكن بساطة هذا الاسلوب وانسيابيته لا تعني أنه سطحي أو تقريري أو خطابي مباشر، بل هو زاخر بالبلاغة والعمق والفطنة والعذوبة، ويتطلب التركيز والتأني والتوقف لتأمل الكثير من جوانبه ورسائله المتعددة للتمعن فيها.

4) الحوار: ظهر الحوار في معظم قصص المجموعة بشكل غير متعامد أو متتابع رأسياً، بل غلب عليه الترتيب الأفقي المزروع في ثنايا سطور السرد النثري ليتدفق انسيابياً بين كلمات النص فيبعث إحساساً بتوحده مع كيان السرد القصصي ولا يبدو منفصلاً عنه أو مجاوراً له. وقد عمل حوار الشخوص القصصية كافة سواء باللغة الفصحى أو اللهجة التونسية على بعث الكثير من التشويق والجاذبية، بالإضافة إلى تأدية دوره الرئيسي في نشر رسالة القصة وتقديمها بشكل حواري سواء بصورة ثنائية أو جماعية أو فردية عبر المونولوج الداخلي للشخصية.

5) الوصف: هو بلاغة النص، والمؤشر الذي يعكس ثراء القاموس اللغوي للكاتب. وتكمن أهميته في النص السردي بأنه يسهم في صياغة الأشياء لتبدو مكتظة زاخرة وعامرة بالألوان والخطوط والايحاءات والمشاعر والأحاسيس وتقريبها وتفعيلها في فكر ووجدان المتلقي من خلال نقل حالة الذات، والشخوص، والأمكنة، الموصوفة بلغة نثرية وتفاصيل دقيقة، تعد أساس التلاقي مع خصائص ومهمة السرد، من حيث استخدامها لنفس المفردات والتراكيب اللغوية والنحوية(22)، ويطلق على هذا الترابط أو التداخل بين الوصف والسرد مصطلح (الصورة السردية) وهو نقل جامع مؤثر يختص بوصف ملامح الأشخاص، وهيئاتهم، أو سلوكياتهم، وعلاقتهم بالأمكنة الثابتة(23)، كما يعتبر الوصف هو عين السارد المعادلة للقطات صور الكاميرا بنوعيها الفوتوغرافية الثابتة أو السينمائية المتحركة(24).

  وفي هذه المجموعة يتجاوز الوصف لدى القاصة طابعه المجرد والمحايد للأمكنة خاصة، بكونها مسرحاً للأحداث القصصية فقط، بل تجعله اللغة السردية عنصراً مشاركاً إضافياً سواء في موضوع القصة أو طبيعة تخلّق الشخصيات ورسم صورتها وإسماع صوتها في ذهن المتلقي، وجعل كل ذلك يتعايش ويواكب الكيان السردي بشكل هارموني متجانس وشيق. ويمكن أن نسجل مظهرين من مظاهر حضور الوصف المتنوع في المجموعة، الأول الوصف الساكن الثابت ويشبه لقطات التصوير الفوتوغرافي غير الناطقة أو المتحركة، الذي ينقل تفاصيل جامدة وثابتة، مثل (.. تأملّته وهي تغالب حيرتها، إنّ كلّ ما فيه يحمل الشكّ واليقين في ذات الوقت، قامته الصلبة والعينان العميقتان هي ذاتها، ولكنّ تقاسيم الوجه متغيّرة، لقد صارت أكثر صلابة، وعظام الفكّ أشدّ نتوءا، والشفاه أزيد امتلاء، والجبين أكثر اتساعا، وأمّا الأعجب من كلّ ذلك، هو أنّ بشرته باتت سوداء، معتمة بالكامل)(25).

  أما الثاني فهو الوصف المتحرك الذي يشبه مشاهد تقنية التصوير المرئي المتحرك الذي يتكامل جزئياً بتتابع متلاحق، ويغوص ويتجول أحياناً في أبعاد عميقة في المشهد ساعياً إلى استنطاقه (استأنف الحديث، قال:”انطلق العصفور الصغير، بأقصى حدود التحدّي، وهو يدوّر أجنحته الطويلة، ثمّ هوى كالصاروخ نحو صفحة النهر، والتقط بمنقاره المدبّب الممتدّ قطرة ماء”، قوّس الحكواتي ظهره وذراعه، ومدّ سبّابته وإبهامه، وأرخاهما نحو الأسفل، ثمّ ضمّهما إلى بعض، موحيا بالتقاط شيء، رفعه في الحال نحو الأعلى، ودفع بيده نحو الشمال، وسرّح إصبعيه، ثمّ أعاد الكرّة، محرّكا ذراعه، فإذا هي تروح وتجيء كالنواس، فتفشي إيقاعاً لا مسموعاً، يحرّك بنغمته رؤوس الصبية، ويشدّهم إليه بحبل سرّيّ خفيّ، استأنف القصّ بصوت خفيض، قال: “ارتفع الطائر بالقطرة عاليا، مدوّرا جناحيه نحو الخلف، وألقى بها بكلّ بسالة في وجه اللهيب، ثمّ عاد إلى النهر، وكرّر ذلك بعزم لا يفتر، وألقى بقطرة ثانية وثالثة ورابعة…”)(26).

الكاتبة التونسية لمياء نويرة بوكيل

  وقد تعدد تنوع الوصف في المجموعة ليشمل الوصف الباطني للشخوص وما يختلج في نفوسهم من مشاعر سواء كانت تفيض بهجة وفرحاً وسروراً أو تتكحل بسواد حزنها وظلاميتها المريرة، مثل (كان في غداته، متعب النفس، كثير الهواجس، ومثقل اليدين من عبء الزربيّتين، وذلك على خلاف حاله عند رواحه في آخر النهار، فلقد كان طيّب المزاج، ولا يشعر أبدا بثقل ما يحمل من أدباش وحلوى ولعب، بل كان يحسّ، بأنّ أجنحة قد نبتت له، وبدأت تنمو، وتستعجل التحليق به إلى شهلته الحبيبة، فلكم كان يتوق لرؤية بريق الفرحة في عينيها، وإلى ثغرها وهو يرسم هلاله المبتسم، كان يكفي أن يلمح ذلك في وجهها، حتّى يتحوّل قلبه إلى فردوس من النعيم)(27)

  وكذلك الوصف المادي الظاهري الثابت كهيئات الشخصيات والشوارع والأمكنة وتأثيتها مثلما جسده التصوير الهندسي الإنشائي والعمراني لحجرة الجلوس التي تعرف في بعض أرجاء تونس “بيت لقعاد” ونقلتها لغة القاصة بتفاصيلها (كانت “بيت لقعاد” غرفة زائدة الاستطالة، تطلّ على البهو “وسط الدار العربي”، وتنقسم إلى جانبين حيويّين، جانب للجلوس أو لاستقبال الضيوف شتاء، وجانب آخر به “سدّة” عالية، بها حشيّة من صوف، ينسدل عليها ستار يحفظ لكريم خصوصيّاته عند نومه.)(28)

6) الأسئلة: هي ليس شرطاً أن تكون علامة على الجهل، بل تسعى لطلب المعرفة أو مزيد التوضيح والاستزادة المعلوماتية. والنص الذي يفتقر إلى الأسئلة فهو يفقد الكثير من الحيوية، لأن أسئلة العمل القصصي تؤدي دوراً مهماً لتفعيل حركية السرد، وبعث الرسائل، ونقل العديد من الأفكار، والمواجهات المتقاربة والمتباعدة بين الشخصيات. فالأسئلة تصدر عن نفوس تواجه معاناة بأوجه متعددة، وتستقبل كذلك بهجات ومسرات تمنحها قسطاً من الراحة للتأمل والتدبر والتفكر بطرح أسئلة متباينة مفتوحة ومغلقة، ولكن جميع الأسئلة المتناسلة خلال الحوار الظاهري المباشر أو الباطني الخافت تعكس حالات قلق وانشغال الذات الإنسانية سواء ممثلة في الكاتبة أو الساردة أو الشخوص، وبحثها الدؤوب عن لحظات ارتياح من خلال إجابات مطمئنة قد تظهر أو تظل غائبة في النص.

  وقد تنوعت في هذه المجموعة أدوات الأسئلة كما تعددت أماكن تموضعها، حيث نجدها تارة في مستهل القصة منذ سطرها الأول مثل (“أكان لزاما أن أكون أنا، من يقوم بهذه المهمّة؟” تساءل شكري ضجِرا، ثمّ أضاف، وهو يتنهّد: لماذا يا رحمة، لماذا، ما الذي غيّرك فجأة، وبدّل من عاداتك؟”.)(29) وكذلك (ما هذا؟ ماذا أرى؟ ما الذي حصل لي؟ وكيف يمكن لهذا أن يحدث؟ ولماذا؟)(30)، وتارات أخرى تطرحها الساردة في متن القصة أو وسطها أثناء حوار شخصياتها مثل (.. ما هذا الزيّ الذي ألبستنيه؟ هل رقص الباليه هو رقص الكولمبيين؟ لماذا حرمتني من أجمل وأبهى رقصة في الوجود، أتعرف ما معنى أن تحرمني من رقصة الصالصا؟…) و(…كيف ذلك يا صديقتي، أرجو أن تشرحي لي أكثر، قالت: “ألم تتزوّج ثلاث مرّات متتالية؟ هل يعني ذلك شيئا غير أنّك لا تطيق ألم الوحدة، ألم تمجّد ذلك السكن والألفة في العديد من لوحاتك المتكرّرة ومنحوتاتك ومجسّماتك البرونزيّة والجصيّة، حيث آدم وحوّاء جنبا إلى جنب، بجسدين عارمين ممتلئين، وأنا، ماذا عنّي؟)(31).

(قرية بوتيرو) والنهايات المفتوحة:

إذا كانت القصة هي فن الإيجاز والتكثيف البليغ الذي يمنح القاريء مساحة رحبة، لإطلاق أحصنة خيالاته وتوقعاته للنهايات المرتقبة الممكنة والمستحيلة على حد سواء، فإن القاصة قد استجابت لهذا المعيار المعرفي الفني تماماً وجسّدته في معظم نصوصها القصصية بالمجموعة، والأمثلة حول هذا الجانب لخواتم بعض القصص نجدها كالتالي: (وما أن ألقت بالقادوم حتى برقت عيناها، وصرخت وهي تمسك ببطنها: “المخاض، آآآه”، فصاح الهادي بأعلى صوته: “حدّي، خالة حدّي، اجرِي لي”)(32) تتركنا القاصة مع هذه الخاتمة معلقين أمام عدة أسئلة من بينها هل ولدت البطلة “شهلة” وعاش مولودها أم فقدته مثل سابقيه؟ وهل استطاعت اقتلاع الشجرة الهدية غير المرغوبة من “مدام سميرة”؟ وهل فعلاً كانت الهدية بها بعض السحر الذي يمنع عنها الولد؟ وغيرها من النهايات التي يظل القاريء يخوض التفكير فيها بعد انتهاءه من قراءة القصة الممتعة.

وأيضاً توطن القاصة فينا شخصية “صفية” صاحبة المشهد الختامي للقصة حين (رأت آثار أقدام أختها تضيء العتمة، فابتسمت وهي ترفع عينيها إلى السماء، وارتفع الآذان، وهزّ بصوته رداء الليل)(33) متضمناً عدة دلالات مثل الابتسامة وهي اشارة إلى الفرح، وصوت الآذان اشارة إلى الحق، واندحار الليل إشارة إلى النور، وكل هذه الاشارات والاحالات تعد تأملية وإيجابية، ولكنها لا تجيب عن أسئلة النهاية المفتوحة التي تتركها القاصة في ذهننا مثل: هل هربت “صفية” كذلك ولحقت ببطلة القصة أختها “ماريا”؟ أم أن آثار “ماريا” كشفت عن مكان وجودها؟

وتتواصل الخواتم والنهايات المفتوحة لقصص المجموعة لتعمل على إذابة جليد أفكارنا، واستمرار دعوات القاصة المتكررة لإكمال قصتها بتحريك عقولنا وصناعة نهايات مناسبة تليق بالنص وتحمل بصمتنا. فحين يتحدث الراوي عن لسان البطل “فوزي” فيقول (التمعتْ الفرحةُ في عينيّ بعد أن كان الحزن العميق يسكنها، وشعرتُ بأنّ الفرجَ قريبٌ، وأنّ الغمّ سوف ينزاح عمّن يحبّها قلبي، ثمّ تذكّرتُ الهاتف الذي دسستُه في جيبي، فطويتُ جناحيّ على الحلم، وواصلتُ المسير.)(34) فهو هنا يجعلنا نواصل المسير الطوعي مع بطل القصة، لنشاركه لحظات بهجته، ولكننا لا ندري إلى أين يمضي بنا؟ وهل سنشهد معه حلمه وقد صار حقيقة؟ وماذا سيفعل بهاتف “نادية” نوع “سمسونغ أس خمسة” الذي اختلسه في جيبه؟ وهل نعد ذلك الفعل “سرقة” من الفتاة التي تثق فيه وتنزله مرتبة الأخوة حين تناديه (يا فوزي خويا)؟(35)

ولم تقتصر النهايات المفتوحة للمجموعة على شخصيات إنسانية فقط، بل حظيت الطيور والحيوانات أيضاً بشراكة فيها، بشيء من الرمزية المزروعة بالفطنة والنباهة في النص، (في الصبح، وقبل أن يتبيّن الخيط الأبيض من الأسود، وحتّى بعد أن أطلّ ضوء الصباح الضاحك، لم يرتفع صياح الديك المؤذي للآذان، كانت الدجاجات وحدها، قد بكّرت في سعيها كعادتها، تلتقط رزقها، تتعب في وضع بيضها، وترعى بعين الحبّ فراخها، دجاجاتُ حنّة، دجاجاتٌ ونصف.)(36). فهذه الخاتمة تحمل الكثير من الإمتاع ليس فقط لأنها تضع أمامنا سؤالاً صامتاً حول معاناة دجاجات حنّة، لتفاعل في أذهاننا ويقرعنا بعدة أسئلة من بينها: هل معاناة الدجاجات في مستوى معاناة المرأة التونسية، خاصة وأن القاصة استعارت الأيقونة التي وطنتها في النص (نساءُ بلادي، نساءٌ ونصف)؟ وهل نعتبر التشبيه مناسب هنا؟ وهل إثر مقتل الديك/الرجل ستستمر الحياة بعده لهن؟

أما الصبي العاشق لسرديات الحكواتي (… حين استوقفتُه لأسألَه إلى أين سوف يذهب، نظر إليّ بعينيه السماويّتين، ومسح على رأسي بلمسة حانية، وقال: “إلى مكانٍ آخر، رُبّما يحتاجني، وسوفُ أفعلُ طبعاً ما بوسعي”)(37) فلازال يغرقنا في الحيرة والانشغال به وبالمكان الآخر الذي ينشده، فإلى أين سيذهب؟ وما هو المكان الآخر؟ وهل سيجد أطفالاً آخرين هناك؟ وما الذي بوسعه ويمكنه أن يفعله؟

إن النهايات السردية في مجموعة “قرية بوتيرو” تؤكد أن القاصة لم تترك القاريء يتخلى عن نصها أو يفارقه أبداً حتى بعد أن ينهي القراءة ويطوي الكتاب، بل نجدها تصر على أن قصتها لم تنتهي بعد بهذه الخاتمة التي وضعتها لها، وأن القصة ليست لها خاتمة واحدة فقط، بل تقترح على كل قاريء خاتمة تخصه يصنعها وفق رؤاه وفكره ورغبته، وحسب سعة أفقه وخياله، ولا شك بأن هذا البراح التخيلي الذي تزرعه القاصة في ذهن القراء يزيد من إثراء ومتعة النص القصصي، ويرفع مستواه إلى آفاق أعلى، ويوطن مهارات فنية أخرى لدى القراء.

الخاتمة:

كلُّ نص يُخفي بعض جوانبه، لذلك تسعى كل القراءات النقدية، سواء الانطباعية البسيطة أو التحليلية العميقة، الموازية للعمل الابداعي أن تلامسه أحياناً وتغوص فيه لتنقب أعماقه وتبحث فيها، لعلها تكشف ما تستطيعه من تلك الخفايا، وتفكيك بعض رموزه، وتأويل رسائله. فالقراءة النقدية هي عملية تمنح المؤلف والقاريء إمكانية إعادة اكتشاف وإبراز الكثير مما فلت في متن النص، وخلق علائق ترابطية جديدة بين شخوص العمل القصصي، والذات المبدعة، والعالم الاخر، والقاريء الشغوف.

إن (.. القراءة النقدية هي شراكة في الإبداع والعيش داخل مناخاته وعوالمه والتفاعل مع النص ومحاورته في أسئلته وقلقه، لارتياد عوالم جديدة في الواقع وداخل النفس البشرية، وهي تبحث عن الدلالة من داخل جماليات النص الفنية. والناقد الحقيقي المتسلح بالوعي وبأدوات مفهومية علمية يستطيع من خلالها الإبحار مع التيار الدافق للنص ليصل إلى ينابيعه الحقيقية..)(38).  

إن قصص الأديبة لمياء نويرة بوكيل في مجموعتها الثانية (قرية بوتيرو) هي قصص تنتمي إليها فكراً وروحاً، وتحمل مجموعة مقومات من هوية بيئتها التونسية وطابعها الذاتي الشخصي، حيث لا نجدها مثلاً متأثرة بطقوس الصحراء، أو روايات البدو، أو حكايات الكهوف والأساطير وغرائبها، أو عوالم الروايات والأفلام والثقافات الأجنبية بشكل واسع. أو الظواهر العلمية ومبتكرات التكنولوجيا الحديثة. كما أنها أيضاً ليست قصصاً فردية سطحية عابرة، غايتها بث أنفاس وتفريغ شحنات شخصية قلقة أو مطمئنة، وإنما هي التقاطات مفعمة بالثراء الفكري والقيم النبيلة، والتسجيل والتوثيق لمظاهر الحياة وتراث وعادات المجتمع وثقافته، وهي زاخرة باللغة الشاعرة والبهاء الموضوعي والزخرفة السردية الشكلية، لذلك أجدني اعتبرها -على المستوى الشخصي على الأقل- قصصَ عددٍ كبير من التونسيين والتونسيات، تحكي حكاياتهم، وتنقل مشاهداتهم، ويمكننا أن نطلق عليها قصص المجتمع أو حكايات الجميع .. يتأرجح فيها دائماً الحلم مع الحقيقة، والواقع مع الافتراضي والتخيلي، لعزف سيمفونية إبداعية رقيقة تطرب النفوس وتراقص الأخيلة بكل اقتدار.

إن القاصة لمياء نويرة بوكيل نهلت من تجاربها المنزلية الخاصة في ممارسة الحياكة والتطريز، وكذلك الرسم الفني التشكيلي، والعمل في تدريس اللغات، ومعايشة العديد من مكابدات الحياة الأسرية والزوجية والتربوية، وبالتالي تأسست لديها خبرة ودربة تراكمية، استفادت منها بلا شك في إثراء آليات فنها السردي وتصوير شخصياتها القصصية، وبسبب كل ذلك، لم يظهر نصها بخيلاً أو شحيحاً في مواضيعه أو تقنياته، وإن ظل يحتاج إلى التركيز والتروي في التفاعل معه، وفك ايحاءاته المبطنة، ويتطلب وينشد عاشقاً للسرد وقارئاً صبوراً مميزاً يكون بمستوى فكر القاصة التي جعلت نهايات نصوصها براحاً شاسعاً، وهي منحة تضعها أمام كل قاريء لكي يدير محركات عقله، وخياله، لوضع عدة تصورات متخيلة لتلك النهايات الرحبة التي تسع كل ما يهبه لها القاريء من إضافات مشوقة.

إن قصص لمياء نويرة بوكيل تبرهن على أنها تخلصت من الاستطراد السردي الممل في قصصها، وجعلت لغة الشخصيات تتوافق مع المستويات الاجتماعية والفكرية المنبعثة منها، وعدم التباس صور الوصف الغزير والمتنوع بكل دلالاته أو طغيانها على مضمون السرد، لأنها طرزت وصفها بالمقاس المحدد للموصوف مكاناً أو شخصاً أو حساً وشعوراً، بمفردات لغة باذخة في التجسيد والتلميح بدقة، تؤمن على الدوام بأنَّ القصة القصيرة – كما قيل عن الشعر قديماً – لمحاتٌ تكفي إشاراتها، ليس فقط تحقيقاً لفنيتها السردية بل تفعيلاً لقدرات القاريء في تلقي النص الأدبي، كما أنها لا تتوقف عند لحظة قصصية محددة، بل تبدو أركان كل قصة مكتنزة بالأحداث وتعكس الحياة كاملة لبعض الشخصيات، الأمر الذي يجعلها مشاريع روائية ناجحة … مستقبلاً.


الهوامش:

 (1) اقتباس من شعر الثورة، محمد البدوي ونجاة المازني، البدوي للنشر والتوزيع، تونس، الطبعة الأولى، 2014م، ص 17-22

(2) قرية بوتيرو، لمياء نويرة بوكيل، قصص، الآن ناشرون وموزعون، عمان، الأردن، الطبعة الأولى، 2020م.

(3) لعموري زواي، شعرية العتبات النصية، دار التنوير، الجزائر، ط1، 2013، ص 128

(4) انظر: في نظرية العنوان: مغامرة تأويلية في شئون العتبة النّصية، خالد حسين حسين، دار التكوين للطباعة والنشر، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى، 2007م

(5) قرية بوتيرو، ص 137 – 138

(6) قرية بوتيرو، ص 141

(7) المصدر السابق، ص 144

(8) المصدر السابق، ص 32-33

(9) المصدر السابق، ص 44

(10) المصدر السابق، ص 91

(11) المصدر السابق، ص 72

(12) المصدر السابق، ص 40

(13) المصدر السابق، ص 33

(14) المصدر السابق، ص 93

(15) المصدر السابق، ص 82

(16) المصدر السابق، ص 36

(17) المصدر السابق، ص 134، 135

(18) التعددية الثقافية في الجماعة الوطنية: الأقليات في تونس البربر واليهود والسود، حسيب جريدي، منشورات دار البدوي للنشر والتوزيع، تونس، ط 1، 2016م

(19) كرّاس العودة إلى الوطن، ايمي سيزير، ترجمة جمال الجلاصي، مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر، القاهرة 2018م.

(20) انظر: الصوت المنفرد “مقالات في القصة القصيرة”، فرانك أوكونور، ت. وتحقيق محمود الربيعي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2009م

(21) رون بارت، النقد البنيوي للحكاية، ت: انطوان أبوزيد، منشورات عويدات، الدار البيضاء، المغرب، 1988م، ص 131

(22) انظر: محمد نجيب العمامي، في الوصف بين النظرية والنص السردي، دار محمد علي الحامي، صفاقس الجديدة، تونس، الطبعة الأولى 2005م، ص 80.

(23) انظر: د. سيزا قاسم، بناء الرواية، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2004م.

(24) بلاغة القصة، مقاربات تطبيقية في القصة القصيرة، د. أحمد يحي علي وآخرون، الأكاديمية الحديثة للكتاب الجامعي، القاهرة، ط1، 2010م، ص 243

(25) قرية بوتيرو، ص 84

(26) المصدر السابق، ص 105-106

(27) المصدر السابق، ص 23

(28) المصدر السابق، ص 9

(29) المصدر السابق، ص 69

(30) المصدر السابق، ص 81

(31) المصدر السابق، ص 136

(32) المصدر السابق، ص 25

(33) المصدر السابق، ص 36

(34) المصدر السابق، ص 53

(35) المصدر السابق، ص 51

(36) المصدر السابق، ص 99

(37) المصدر السابق، ص 112

(38) ذاكرة الكتابة في القصة والرواية الليبية، إدريس المسماري، منشورات مجلس الثقافة العام، ليبيا، 2006م، ص 8

مقالات ذات علاقة

فقط لأن ثقافتك غرامشية

آكد الجبوري (العراق)

رحيل أمجد ناصر شاعر النثر والقضية الفلسطينية

المشرف العام

أَحُـــلُــــمِــــي مُــــعَــــوَّقٌ!

المشرف العام

اترك تعليق