معنى أن أكون محظوظة …..
ومازلت في هذه الحكاية، هنا وهناك يمضي العيش و في بلاد العجائب التي هي بلادنا، تواصل هذي الحواء العيش، راكضة بين فصولها كمعلمة وحاملة كتبها كطالبة، وحاملة هموما مثل غيرها من بنات جيلها، هذا الجيل الذي وجد أمامه مفردات شاسعة فركض وراءها، ولكن لتكون الخيبة أن اغلب هذي المفردات خاوية من حقيقتها على أرض الواقع!! ولكنها كانت (قارئة) وحاولت بقلمها الواثق وهي طالبة على مقاعد الدراسة أن تشارك فيما ظنته (الحرب على التخلف والجهل)، وها هي بعد أن نشرت قصيدتها (أراقب العالم بدهشة) وأمنيتها أن تبلغ الأربعين حتى تشرع جناحيها في فضاء الحرية، ها هي مجرد بنت غبية تواصل الركض وراء الوهم، تتحدى وتحاول الحرية، ولكن حظها الجميل أن تكون طالبة، وأن يكون أستاذها هو الدكتور “عبدالإله الصائغ”، والذي قرأت مقالاته على صفحات مجلة (الفصول الأربعة)، كما قرأت مقالات “د.نوفل نيوف” أيضا، والذي كان من المفترض أن يكون من الذين سيمنحونها خلاصة خبرتهم في الأدب، ولكنه عاد إلى بلاده سوريا الجمال والفن، وهكذا سنحظى بمعية أستاذنا والذي سيغدو صديقنا “عبدالإله الصائغ”، وستكون مواد (الأجناس الأدبية) و(نظرية الأدب) و(تحليل النص الأدبي)، هي ما سنستمتع بدراسته ومدارسته مع أستاذنا /الصديق.
محاضرات نتنافس فيها كي نحوز السبق إلى مدارج المعرفة، حيث؛ إبراهيم أنيس، وعبد الرحمن حريب، وحسين حامد، مع يوسو ماكيلا، وحسن والمبروك، وحامد، مع ابتسام وحنان ومفيدة، إخوة وأخوات تجمعنا قاعة الدرس و ضحكات ترفرف في فضاء عشية، مازلت أتذكر بل أعيش تلك العشية واختيار قصائد لمدارستها وتحليلها، كلّ منّا اختار قصيدة كي يفتح باب التحليل باتجاهها ويطرح هذا في جلسة استثنائية، جلسة تناولت روح تلك النصوص و جعلتها في عراء النقد وكان الحوار والاسئلة والإجابات، وكنت اخترت قصيدة للشاعر الشاب (معمر الزائدي) والتي نشرت في عدد الناقد فبراير 1995م، الذي احتفى بملف خاص بالإبداع الليبي من إعداد “يحي جابر”:
مُرّ مذاقُكِ في الغياب….
وموجع هذا الحنين
لك وحشة في القلب
لو تدرين! ……
قصيدة ترقص مفرداتها المنسوجة في صور امتزجت فيها الألوان بالحواس بتدفق المشاعر، (ما كتبته عن هذه القصيدة ظل بحوزة دكتورنا العزيز) والغريب أني كتبت مباشرة ولم تكن لدّي مسودة لكتابتي، وتجولنا في رياض القصائد كلّ حسب ذائقته وأيضا في تحليله للنص، مازلت أحتفظ بكراستي التي كتبت فيها ملاحظاتنا وبعض نقاشنا للقصائد المختارة، كانت عشية رائقة وكنّا دراويش حضرة وعاشقات رحلة في عالم الكلمات، وكانت هذه المواد هي الأمتع بالنسبة لي ولذا كانت درجاتي فيها كالآتي:
الأجناس الأدبية: 85
نظرية الأدب: 74
تحليل النص الأدبي: 88
وستظل علاقتنا بأستاذنا عبد الإله الصائغ متوهجة رغم سفره إلى بلاد اليمن، وقبل سفره ظلّ يجمع الشعر الليبي ويسأل عن الشعراء والشاعرات الجدد، وقد حظي الإبداع الليبي بفصلين من كتابه عن الحداثة في الإبداع والذي تحصلت على نسخة منه في معرض كتاب أقيم في مكتبة (مركز الكتاب الأخضر عام 1999م)، وفي الفصل الخاص بالشعر الحداثوي في ليبيا، وثق في الهوامش اسم كل من تحصل منهم على نصوص وكنت من ضمن هؤلاء، وقد أصدر كتاب (الصورة الفنية معيارا نقديا) عن (دار القائدي) وعن (المركز الثقافي العربي) صدر له كتاب (الخطاب الإبداعي الجاهلي والصورة الفنية).
وهو الشاعر الذي صدرت له دواوين عدّة، وهو المعلم الذي احتفى بنّا وظل يسأل عنّا حتى هذا اليوم، وقد حظيت منه برسالة بعد سفره إلى اليمن واتصالي به من مكتب الدكتور “محمد وريث”، وحين صار العالم قرية صغيرة والتلاقي يحدث بضغطة زرّ اتصل بي عبر الماسنجر يطمئن على ليبيا وعلى طلابه وطالباته واحدا وواحدة، ثم قال لي: لن أسامحك إذا لم تطبعي كتاباً خلال المدة القريبة.
وكم كانت فرحته غامرة عندما أصدرت ديوانين دفعة واحدة، وكلي أمل ان يصلا إليه قريبا حيث هو…
ولي أن أفتخر بكل هذا الحظ الجميل الذي سيظل حذوي رغم بعض العثرات والكثير من الألم، ولكن هي الحياة فماذا أفعل… ليست سؤالا إنما هي محاولة القبض التي مازالت جارية لعلّ هذه السيرة تصل إلى بعض إجابة.
وللجواهري مقاربات …
في مادة (تحليل النص الأدبي)، ستكون قصيدة للشاعر “محمد المهدي الجواهري”، هي مجموعتي في قسم الأدبيات، وهي قصيدة غاضبة نازفة، ومناسبتها مقتل أخيه “جعفر” برصاص الشرطة في مظاهرات حدثت في العهد الملكي في الأربعينيات بالعراق، وقد منحنا أستاذنا ومعلمنا وصديقنا “عبدالإله الصائغ”، وكما سجلته في كراستي:
الجواهري بدأ يصفي خصومه في الأبيات الأولى، فرسم لنا صورة مقززة وكذلك لنفسه (شتمهم) المتلقي في ذاك الوقت (48) وشتم نفسه، فبدأ بتصفية الهموم الهامشية ليتفرغ للهم المركزي. وكتبت عن هذه القصيدة محاولة أن أسبر غورها واستكشف فضاء الوجع الغاضب فيها:
أتعلم أم أنت لا تعلم
بأن جراح الضحايا فم
فمٌ ليس كالمدعي قولة
وليس كآخر يسترحم
يصيح على المدقعين الجياع
أريقوا دماؤكن تطعموا
ويهتف بالنفر المهطعين
أهينوا لئامكم تكرموا….
أتعلم ان رقاب الطغاة
أثقلها الغنم والمأثم
وأن بطون العتاة التي
من السحت تهضم ما تهضم
وأن البغي الذي يدعي
من الطهر مالم تحز مريم
ستنهد إن فار هذا الدم
وصوّت هذا الفم الأعجم
فيالك من مرهم يشتقى به
حين لا يرتجى بلسم
ويالك من مبسم عابس
تغور الأماني به تبسّمُ.
كتبت: النص عامة والنص الشعري خاصة يحمل بداخله نبوءة ورؤيا وكلاهما مرموز إليهما.
والملاحظة الهامة من خلال هذا النص أن رموز الرؤيا حين تفك في عصرنا الحاضر بل في أيامنا المعاشة فإنها هي نبوءة عام 1948م.
وقبل أن نجيب علينا تكرار السؤال (أتعلم أم أنت لا تعلم) والسؤال يقودنا إلى الانتباه إلى الفجيعة المحيطة بنا وإلى الهدم الذي يطال رؤى حياتنا كلها، ولكن الشاعر يسرق منا كل ذلك فكأنه أشفق علينا من هذه المهمة الشاقة فجعل الإجابة تنحو منحى جماليا له رموزه؛ (هذا الدم- هذا الفم الأعجم) ….
زلكن هل حقا سرق الشاعر منا هذه الصدمة أم أنه شاغبنا قليلا ليؤكد استفزازه لنا ذلك أن الضحايا نحن والدم هو دمنا وجراحنا فاغرة، ها أنتم ضحايا تراق دماؤكم شئتم أم أبيتم، جعفر كان قادما من السفر، لم يرفع يديه رافضا لم يخرج هاتفا ، كان آتيا يحمل حقيبته وأحلامه وشوقه لأخيه محمد ولأمه وأبيه، فكان عليه أن يكون ضحية ليدرك شاعرنا أننا ضحايا شئنا أم أبينا، وياليت كنا ضحايا وقرابين لمجد امة ، بل إنا ضحايا وقرابين لأوثان منصوبة تعتاش من خضوعنا وتشبع من جوعنا، إذا هكذا يخدعنا النص حين يباغتنا بإجابة سؤاله ولكن على نحو جمالي، ولكن هذا الجمال يفاجئنا بجلاله ويفاجئنا بقسوته وشراسته حين ينشب أظافره في عمق الروح ممزقا جراحنا النازفة، وستظل (هذا) تشير إلينا دائما لتقول:
أنتم هم. وهم أنتم،
فما الذي يحدث؟
….
كانت قراءة عجولة ولكن المبدع صديقنا “الصائغ” أثنى على هذه القراءة كما كتب في كراستي:
(حوّاء.. كانت مقاربتك للنص وقدة من ذكائك وأدبك ورأيت أن المقاربة عمل على اختصاره يمتلك الكثير من المرجعية والمكابدة.
بوركت.
2/1/1996)