الهادي محمد حقيق **


علاقة “محمد القمودي” بالمسرح علاقة عجيبة غريبة، علاقة مشحونة بالكثير من الأفكار المتضاربة والعواطف المتناقضة والانفعالات الطفولية الحادة، فهو يحبه ويخشاه في آن واحد، يتحاشى قربه ولكنه لا يطيق صبراً على الابتعاد عنه، يتابعه بكثير من الشغف والعشق، يترصد أخباره، ويدرسه ويبحث في قضاياه، وينشغل بالتفكير في مدارسه ومشاربه جل يومه، ولكنه عندما يقرر التقدم صوب خشبته العريضة كممثل أو ككاتب أو كمخرج، أو حتى كمشاهد، فإنه يصبح مسكوناً بالرعب من هذا (الغول) هذا الحكيم الحنون المخادع، الجد المعمر لكل الأشكال الدرامية القادرة على التلون بألف لون ولون، والتشكًل والتقنًع كافة الأشكال والأقنعة، القادر على التنوع.. بتنوع الحياة ذاتها.
هذه الرهبة تجاه هذا (الأستاذ الجليل) كانت مدخل “محمد القمودي” بالمسرح، منذ أن تتلمذ على أيدي مسرحيين عرب كبار، وتعمًقت هذه الرهبة أكثر عند اطلاعه على المسرح العالمي، كتاباً وتجارباً فعلية، وأصبحت هاجساً عندما إطلًع عن كثب على مسرح المحترفين في شرق أوروبا، فيما كان ” ستانسلافسكي ” وطوال هذه المراحل، يشعل قلبه وفكره بنيران (الصدق والرسالة)، و(التقمص والتوحًد) ووصايا (التمكن من الأدوات) و (السيطرة المطلقة) للممثل على أحاسيسه ومشاعره.
ولكن (رعب) القمودي من (الركح) ليس من ضروب الخوف الذي يشل التفكير والحركة، وإنما هو (خوف) الفنان الصادق، المدرك لأبعاد ومتطلبات واشتراطات هذا الفن الخالد، هو خوف المدرك لمسئولية المبدع والفنان عن كافة ما يقدم.
بعد الإنتهاء من الدرس والبحث والتدريب والقيام ببعض التجارب والمشهديات المسرحية الصامتة والناطقة، تخيًر القمودي (الشاب) الإخراج، وكانت له مسيرة غنية في هذا المجال، تواصلت لما يقارب من خمسة عشر عاماً وأثمرت عشرة مسرحيات تخيًرها القمودي بعناية من المسرح العالمي والمحلي.
فأخرج لـ”البير كامو” (كاليجولا) عام 1971 م، ليتبعها في العام التالي بإحدى أعمال المسرح اليوناني (الضفادع )، للمسرحي الكبير “أرستوفانيس”، ثم عاد محلياً ليخرج (المشوار) لـ”الهادي راشد” ثم (الزنجي الأبيض) لـ”عبدالرحمن حقيق” (1972 -1973 م )، بعدها انجذب “القمودي” لعوالم القصاص والمسرحي “عبدالله القويري” فقام بإخراج مسرحيته (الجانب الوضيء) و (الصوت والصدى) عامي (1973 -1974 م )، ثم في سنة 1975 م أخرج (نقابة الخنافس) لـ”ألأزهر أبوبكر حميد”.
في هذه السنة 1975 م، وقد تعمقت العلاقة بينه وبين الكاتب المسرحي الغنائي الفنان “فرج قناو”، قدم مسرحية (حوش العيلة) إحدى العلامات الفارقة في مسرحنا المحلي، بواقعيتها ورمزيتها، بمأساتها وفكاهيتها، بجديتها وغنائيتها برؤيتها الإخراجية السلسة، وأداء ممثليها المتميز اللذين أصبحوا فيما بعد أسماء مهمة في المسرح الليبي، وفوق كل هذا بتراثياتها الأصلية المتسللة من لقاءات متميزة جمعت بين “القمودي” و “قناو” وأستاذ التراث الشعبي الحاج “محمد حقيق”.
بعد حوش العيلة، ولأول مرة، كتب الأستاذ “محمد القمودي” بنفسه نصاً شعبياً وقام بإخراجه (حمل الجماعة ريش) سنة 1977 م، ثم توقف – ربما للمراجعة والتأمل – لثمان سنوات قبل أن يعود عام 1985 م بمسرحية (هجالة و100 عريس) لـ”فرج قناو”.. ومن بعد ذلك.. توقف ثان، طال هذه المرة.
ومع بداية الألفية الثالثة بدأ هذا العمل، الذي نقدم له، يدغدغ فكر وقلب “محمد القمودي”، الكاتب المسرحي لا المخرج هذه المرة.
و (الخن) عمل مسرحي، رغم (خراب) ديكوره و(عتمة) إضاءته و(تحنط) شخوصه، مفعم بالأمل والحياة، وملىء بالصدق والمحبة، ينتصر فيه “محمد القمودي” للشباب والعلم والأخلاق والمستقبل ساخراً من الأنانية والمادية البغيضة، ومستعيناً بالموروث العريق في الأمة لإحياء (الروح) سر كل بناء وتقدم وحضارة.
ولأنه لا يمكننا، في عجالة هذا التقديم الاستطراد في الحديث عن العمل، إلا أنه لا يمكن تجاهل ريادة “محمد القمودي” في تعميق وتأصيل وإظهار شهادة الميلاد والبطاقة الشخصية وجواز السفر. في آن واحد، للمفردات والتعابير (الشبابية) التي كانت تتسرب للهجتنا – بخجل شديد – منذ السبعينات وحتى الآن.
في حواريات المسرحية (خاصة عند نقًز الحيط) نجد، ولأول مرة، إن هذه المفردات والتعبيرات قد نضجت وتعمقًت وصارت لها دلالاتها النفسية والعاطفية والفكرية، وصار يمكن لها، بكل الثقة، أن تقترب من تخوم الفن والأدب والثقافة بل والفلسفة، لم تعد مجرد كلمات عشوائية تافهة ومسطحة و(شوارعية) ولعل ما قام به “القمودي” إزاء هذه الألفاظ والمعاني والتعبيرات هو دليل فهمه واحترامه ومحبته وثقته في الشباب.
(الخن) لـ”محمد القمودي” قراءة ممتعة، ولكننا، قطعاً، سوف لن نكتف بالقراءة، والفرصة كبيرة، بعد كل هذه السنوات، في أن يعاود المخرج “القمودي” للمسرح وأن يعاود المسرح للـ”القمودي” إكراماً لهذا العمل.
____________________________
*المصدر : مسرحية (الخـن)، تأليف: محمد عبدالرحمن القمودي. إصدارت مجلة المؤتمر 2005م.
** تقديم مسرحية (الخن) للإعلامي “الهادي حقيق”. أوردت في هذا الكتاب لأهميتها، والكتاب من إعداد المخرج “نوري عبدالدائم”.