سهير محمد علي الغرياني
أتذكر عندما انتقلت حديثا من إدارة الشئون الاجتماعية بنظارة ولاية طرابلس إلى إدارة الشئون الاجتماعية بوزارة العمل والشئون الاجتماعية بالمملكة الليبية، بعد ضم الولايات الثلاث، كان مبنى الوزارة عمارة سكنية بزاوية الدهماني. وكانت تلك الإدارة تتكون من أربعة أقسام لكل قسم رئيس له حجرة بها مكتب وهاتف وسيارة خاصة بالقسم. لم يتم تعيين موظفين بالأقسام المختلفة بعد، وكان الهدف من إنشاء قسم رعاية الأسرة والطفولة الذي أرأسه هو الإشراف على انشاء 10 مراكز لرعاية الأسرة والطفولة في أنحاء المملكة بالتعاون مع الأمم المتحدة.
كان للإدارة مدير عام من مدينة بنغازي حضر لاستلام عمله وتعرف علينا ثم غادر وعلمنا أنه يفضل البقاء ببنغازي عن الانتقال إلى طرابلس وبالفعل تم له ذلك واستمرت الإدارة بدون مدير عام لفترة..
– فكرة عيد الطفل كيف بدأت؟
أتذكر أنني كنت أجلس إلى مكتبي أتصفح إحدى المجلات المصرية كبيرة الحجم قد تكون مجلة آخر ساعة أو المصور، لا أتذكر بدقة، كل مايهمني أنني قرأت في إحدى صفحاتها خبرا من سطرين كتب فيه “احتفلت الجمهورية العربية المتحدة بعيد الطفولة كما احتفلت الشقيقة سوريا بتلك المناسبة الأسبوع الماضي”…
كان ذلك في أحد الشهور الأخيرة من العام لا أتذكره وانتهى الخبر.. لم ينته بالنسبة إليَّ بل كان بداية لتساؤلات لماذا لايكون لنا أيضا عيد للطفل؟ وشعرت أن هذا من اختصاص القسم الذي أرأسه. أليس هو قسم الأسرة والطفولة؟ وتذكرت شهر مارس المقبل شهر الربيع فليكن شهر الربيع هو عيدنا فالأطفال هم البسمة على الشفاه والبهجة في القلوب، هم ربيع أعمارنا، ولمعت الفكرة أكثر وأكثر…
أخذت أسطر الاقتراح في مذكرة قدمتها إلى الأستاذ الفاضل محمد المريمي وكيل الوزارة، وبأنني أقترح أن يكون العيد 21 مارس المقبل سنة 1965 أو 1966 لا أتذكر بالتحديد وأن يكون برنامج هذا العام:
• لافتات في الميادين والشوارع الرئيسية يسطر فيها عبارات تشيد بالطفولة.
• ملصقات تحمل صور الطفولة.
• توزيع هدايا على أطفال المؤسسات الاجتماعية.
• اقتراح بعيد المدى بإنشاء مجلس أعلى للطفولة يضم الوزارات المختلفة التي لها اهتمامات بالطفولة كوزارة التعليم، الصحة، والزراعة والإعلام.
• تقدم الدولة مشروعا خاصا بالأطفال كهدية لهم في كل عام.
بعد أيام قليلة استدعاني السيد وكيل الوزارة وناقش معي الاقتراح وبعبارة مقتضبة قال “أنا موافق هيا أبدي على بركة الله”.
جلست إلى مكتبي أكتب عبارات لعشر لافتات منها على سبيل المثال “طفل اليوم رجل الغد” “أطفالنا أكبادنا تمشي على الأرض” “الطفل السعيد ثمرة أسرة سعيدة” و”العقل السليم في الجسم السليم”. كما قمت برسم نماذج لثلاث صور للملصقات عبارة عن أم بالزي الليبي “الرداء” تحمل طفلا مبتسما، طفل و طفلة في سن الروضة يحملان بالونات ملونة وطفل في سن المدرسة مصاب بشلل الأطفال حوله هدايا (كان هذا الوباء منتشرا في العالم آنذاك) وكتبت تحت كل منها 21 مارس عيد الطفل.
الآن يجب أن أنطلق خارج المكتب، كان للقسم سيارة “فولكس واجن” صغيرة يقودها الحاج خليفة وهو ساعدي الأيمن في جميع تحركاتي.. لابد من تنفيذ هذا الحلم بأقصى سرعة لأن المدة المتبقية حوالي 4 شهور فقط. ذهبنا أولا إلى المطبعة الحكومية تعرفت على مديرها وكان لقبه “حكومة”، رحب بالفكرة وأبدى استعداده لتنفيذها واستدعى رسامين أحدهما ليبي والآخر لبناني وطلب منهما إعداد النماذج الثلاثة بالألوان لتتناسب مع تلك المناسبة، ذكر الفنانان أن لديهما لونا واحدا وهو الأحمر فقط ولكن بطريقة فنية تمكن الفنان الليبي “محمد البارودي” رحمه الله من استخراج ألوان من اللون الأحمر و بذلك كان هناك الأصفر والبرتقالي والأحمر…
كنت أتردد شبه يوميا على المطبعة للوقوف على ما تم إنجازه، وبفضل تعاون العاملين بالمطبعة تمت الملصقات، تحمل صورا جميلة ملونة لطفولة بريئة يشع وجهها بابتسامة عريضة، إلا أنه تبين لي أنه كتب تحت الصور 22 مارس عيد الطفل بدلا من 21 مارس.. لا يهم ليكن 22 مارس هو عيد الطفل الليبي. وهو ما كان…
تعرفت أثناء ترددي على المطبعة الحكومية بالسيدة الفاضلة خديجة الجهمي التي كانت تشرف على طباعة مجلة المرأة والتي كانت ترأسها وتواعدنا على لقاء إذاعي يوم عيد الطفل للتحدث عن مفهوم هذا العيد وبذلك أضيفت فقرة جديدة لاحتفال هذا العام.
الآن دور اللافتات علمت من المطبعة أن الشخص الوحيد المتخصص في كتابة اللافتات هو الشيخ أبوبكر ساسي (رحمه الله) ذهبت والحاج خليفة إلى منزله وطلبت منه المساعدة في إعداد 10 لافتات وسلمته العبارات التي سيقوم بكتابتها. أخبرني أنه يقوم عادة بكتابة اللافتات فقط ومساعدة منه سيقوم هو بشراء مقاطع القماش الأبيض والخشب والحبال، انتهى الشيخ أبوبكر ساسي من كتابة اللافتات بعبارات واضحة هادفة بأجمل خط وبمبلغ رمزي وعلمت من الشيخ ساسي أن الجهة المسئولة عن وضع اللافتات في الشوارع والميادين هي إدارة المطافئ، وانتقلنا إلى إدارة المطافئ باللافتات المعدة بالألواح والحبال. الإجابة كانت نعم ولكن بعد استلام تصريح من الهيئة المعنية، قمت بكتابة طلب التصريح والتوقيع وختمه بختم القسم وتسليمه إلى الجهة المختصة.
انتهت المطبعة من إعداد الملصقات وبالوان زاهية وطفولة فرحة بعيدها وبعدد ألفي (2000) ملصق مما جعلني أتمنى أن تشمل شوارع مدينة طرابلس وبنغازي ومدينة سبها والزاوية ومدينة غريان وأعتقد مدينة مصراتة أيضا. ولكن كيف يتسنى لى ذلك؟ علمت أن هناك شخصا متعهدا بتلك المهمة ومكتبه بالدور الأول فوق مكتب طيران اليطاليا، رفقة الحاج خليفة كالمعتاد ذهبنا إلى المكان، العمارة على الطراز الإيطالي يتوسطها فناء واسع جدا وطرقنا الباب وتقابلنا مع المتعهد قال لي بأن المدة المتبقية قليلة وأن المناطق متعددة وأن عدد الملصقات كبير (الفي ملصق) لكنه وافق مقابل 200 (مائتي) دينار وافقت وأنا فرحة غاية الفرح لأن المهمة تم إنجازها قبل الموعد المحدد وسيكون لنا عيد طفولة كباقي الدول.
في صباح يوم العيد كانت اللافتات بالميادين والشوارع العامة: شارع عمر المختار، شارع الاستقلال، ميدان الشهداء وميدان الغزالة والملصقات تملأ الجدران. والحديث الإذاعي مع السيدة خديجة الجهمي كان في تمام الساعة الخامسة حول الهدف من هذا العيد وماهو ميثاق الطفولة العالمي والذي يتم في ضوئه الاحتفال بعيد الطفل وكنت قد ذهبت إلى مبنى الأمم المتحدة واستلمت كتيبا بهذا الميثاق. تم توزيع الهدايا على أطفال المؤسسات الاجتماعية. كل شئ تم في يسر وسلام بحمد الله وأجمل مما كنت أتوقع.
عدت إلى منزلي وبدأت الوساوس تؤرقني وتحرمني النوم.. كيف وافقت على دفع مبلغ مائتي دينار مقابل وضع ملصقات على الجدران؟ كان تعاملنا آنذاك في حدود خانة الأحاد والعشرات من الدنانير أما خانة المئات فلا نقربها، كان المرتب 17 دينار.. كيف تجرأت ووافقت على دفع مائتي دينار دون موافقة خطية من الوزارة وتلاشت الفرحة بالعيد، ماذا لو رفضت الوزارة دفع المبلغ والذي يمثل مرتبي لمدة عام و لمن ألجأ لينقذني من هذه الورطة.. وفي الصباح رفعت سماعة الهاتف بمكتبي وطلبت من الأخ عامل البدالة آنذاك ألا يحول أية مكالمة خارجية قد تكون من المتعهد يطالبني بدفع المبلغ عسى أن يطلبها مباشرة من الوزارة. عشت هذه الهواجس لمدة أسبوع كامل وحيث إننا كنا نستلم مرتباتنا آخر كل شهر عدا ونقدا من السيد مدير الشئون المالية والإدارية بالوزارة بمكتبه وبصوت خافت يكاد لا يسمع قلت للأستاذ محمد الفزاني (رحمه الله) “متعهد الملصقات كان يبي 200 دينار” وبصوت عالٍ وضحكة عالية أجابني “معقول يا سيدة سهير لتوا يراجي هذا خذي المبلغ قبل مباشرة العمل” وأبلغني أن الملصقات شملت جميع المناطق المقترحة بفضل الله ومنذ ذلك الحين تم رصد ميزانية بالمئات بل الآلاف لإدارة الشئون الاجتماعية خاصة بعيد الطفل وتفرغت أنا لعملي الأساسي وهو إنشاء مركز لرعاية الأسرة والطفولة بباب عكارة.
والآن ونحن نحتفل مع أطفالنا وأحفادنا بعيد الطفل وتقديم الهدايا واحتفال رياض الأطفال والمدارس بالبرامج الترفيهية والرحلات يسعدني بتلك المناسبة أن أتقدم بالشكر الجزيل للسيد محمد المريمي وكيل الوزارة والحاج خليفة مسلم اللذين لولاهما ماظهر هذا العيد للوجود، كما أتمنى أن يتم تنفيذ الجانب الآخر من الاقتراح و هو ما يلي:
1. إنشاء مجلس أعلى للطفولة يكون مرآة بالإحصاءات الدقيقة عن الطفل، العدد، نوع الخدمات المقدمة له والمشاكل التي يعانيها.
2. تقدم الدولة مشروعا خاصا بالأطفال في عيدهم كل عام قد يكون مدرسة، ناديا، شاطئا مناسبا، جزءاً من حديقة عامة، أو يتم بناء مكتبة أو مكان تعلم مهارات كالرسم والموسيقى والتمثيل، الخطابة، كتابة الخط العربي، تعلم لغات أجنبية أو تعليم كمبيوتر مقابل مبلغ رمزي أو مجانا لنحقق لأطفالنا السعادة المرجوة والنشأة الصالحة.
ومما يبعث على التفاؤل أن لدينا كفاءات مدربة ومؤهلة وبكثرة من شبابنا وفتياتنا قادرين على تحقيق هذا الأمل بمهارة وإتقان.