يشرع موقع بلد الطيوب في نشر سلسلة (للتاريخ فقط) للشاعر “عبدالحميد بطاو“، والتي يروي فيها الكثير من الأحداث التاريخية والسياسية.
الحـلقـة: 4/ ذاهــبون إلــى بنغازي يا حــاج
حينما نزلت يومها من مبنى المباحث درنة بصحبة نائب رئيس المباحث الجنائية بنغازي وكاتبه، حشرت نفسي معهم في الكرسي الخلفي (بالفولكس الحمراء) التي كان يقودها ضابط مباحث درنة المرحوم (عبدالله عبدالرازق الحاسي)، متوجهًا بهم إلى بيتنا لإنجاز الجزء الأول من مهمتهم وهو تفتيش البيت والبحث عن كتب مطلوبة كدليل إدانة وتأكيد تهمه.
كان البيت يومها خاليًا من النساء بالصدفة، فما أن وصلوا حتى دخلت بهم لحجرتي، وسألوني أين مكتبتي فأخرجت لهم كتبي من الأدراج، وحضر والدي بعد أن أقفل باب دكانه وكان يتأمل المشهد بشرود وهو لا يعرف ما الذي يحدث حوله، جمعوا في كرتونة مجموعة كتب اختاروها من بين كتبي وسجلوا عناوينها في محضر التفتيش، وقال بعدها نائب رئيس مباحث بنغازي لوالدي ليزيده ذهولا على ذهوله وإرباكًا على ربكته المحرجة.
– يا سي الحاج.. ابنك سيرحل غدًا إلى بنغازي، فاعطه بعض المال ليساعده في رحلته.
أرتبك والدى وفوجئ بهذا التطور الذى لم يكن يتوقعه، ووضع يده في جيبه (وهو يحاول أن يشد قامته أمامهم لكى لا ينحنى)، وأخرج لي أربع قطع معدنية من فئة العشرة قروش لعلها كانت كل رأسماله في تلك العشية البائسة، ودسها في يدى بينما كنت أدس جسدي في سيارة الفولكس متهربًا من لحظات الوداع، وغادرنا المكان وأنا أراقب والدي من زجاج الفولكس الخلفي وهو يصفق يدًا على يـد متحسرًا، وقد بدأ يستوعب رهبة الواقع الذى وجد نفسه فيه وحوله الجيران يصبرونه ويواسونه في كارثته المفاجئة.
عادوا بي، وسلموني لشرطة مركز درنة، وذهب بي أحدهم إلى التوقيف، ولاحظت مدى الحرج الذى فيه ذلك الشرطي، حتى أنه لم يفلح في فتح قفل باب التوقيف الحديدي الضخم بيديه المرتعشتين فأخذت المفتاح وفتحته بنفسي (أنا لا أقول ما أقوله الآن من باب ادعاء بطولة زائفة أو تلميعًا لنفسي، فقد تجاوزت السبعين من عمرى!! الآن ولم يعد لي أي مطمح في أي شيء)، ولكنني حتى على المستوى الشخصي، أجد متعة وأنا أستعيد الآن كل تلك الأحداث بكل تفاصيلها ومفارقاتها، وأنا أفتح قفل التوقيف سألت الشرطي المرتبك عن قبيلته فقال لي أنه (منصوري) وصافحته بحماس لكى أخلصه من حرجه وقلت له:
– أنت صهري إذا.. فإن زوج شقيقتي من نفس قبيلتكم.
وبينما كنت أتأمل غرف التوقيف سمعته يهمس لي: هل تطلب شيئاً؟
قلت له بلهفة أحرجتني: إنني أتمنى أن تبتاع لي علبة سجائر (لبدة)!!
كان هناك نوع من السجائر بهذا الاسم، وكان بدون فلتر وسعر العلبة ذات العشرين سيجارة سبعة قروش، وحينما مددت له قطعة من قطع العملة ذات العشرة قروش رفضها غاضبًا وقـال لي بكرم وشهامـة: عيب يا بونسيب!!
تركني الشرطي المنصوري، وقفل باب التوقيف لأتفرغ بعده لتفـقد وتأمل حجرات وممر التوقيف الذى كان خاليًا يومها وناشفًا بفعل رياح القبلي التي كانت تقتحمه من خلال شبابيكه المخلوعة الأبواب فتفوح منه رائحة العفن كانت الغرف كلها مفتوحة وكانت هناك خربشة على الحيطان حتى إنني أذكر أن أحدهم قد كتب بالفحم أغنية علم تقول (لا تظلم البوليس.. واظـلم اللي جـابك ألهم). تمددت بعدها على خيشة من الحبال الجافة المفتولة وبدأت أقارن بين مبيتي الليلة في هذا المكان العاري البائس وعلى هذه الفرشة القذرة وبين مبيتى الليلة التي قبلها في العطر والأجـواء المبهجة كعريس يعيش أجمل أيامه.
بعد قليل سمعت خربشة مفاتيح ومعالجة القفل ليفتح الباب ويأتي نفس الشرطي المنصوري يقود معه المطـلوب الثاني (رجب حمد الهنيد)، ودس لي في يدى علبة سجائر اللبدة ومعها علبة كبريت صغيرة.
(يا الله كأنه قدم لي كل مباهج الدنيا)، خرج الشرطي وأشعلت أول سيجارة وشعرت بالونس مع (رجب الهنيد) الذى كان لايزال مذهولا يحدق حوله هو الآخر وأخذته وصرنا نتـفقد التوقيف ونحن نسترجع ذكرياتنا القومية التي رمت بنا في هذا المصير (رغم أنني كنت قد انسحبت منهم كحركة ولكن ورود إسمي حينما قبضوا على مجموعة من بنغازي، كان من بينهم عضو زارنا في درنة وتعرف علينا وهو الذى أعطاهم قائمة أسماءنا).
وطبعًا كنت معهم في ذلك الحين، بعد لحظات سمعنا الباب يفتح ودخل علينا المطلوب الثالث (عبدالجليل صالح لياس)، وبعده أحضروا المطلوب الرابع (محمد سالم فيتور) ثم الخامس وهو (أبوبكر محمود الطشاني). وعند المغرب جاءنا حارس جديد مسعور ومذعور قام بتوزيعنا بشكل مرتبك عشوائي في غرف التوقيف، وأقفل علينا من الخارج بسحابات حديدية ووجدت نفسي في غرفة مقفلة ومعي (فيتور). هذا الذى لم أكن أعرفه في السابق ولم يسبق لي الالتقاء به إلا في هذا اليوم الغريب العجيب، أذكر أنني كنت ليلتها مزعجًا ومرتبكـًا أتحدث مع الرفاق بصوت عال من خلال فجوة باب الزنزانة أسألهم كيف قبضوا عليهم وماذا ضبطوا معهم وجلست بعدها في عتمة الحجرة وحينما سألت رفيقي (فيتور) بحسن نية عن وضعه في الحركة كان رده سؤال لي ينضح بالشك والريبة قال لي: من أين لك الدخان؟
شعرت حينها بالغضب والتوتر، حينما أيقنت أن مرافقي يتهمني بأنني مخبر مدسوس له خصيصًا لكي استدرجه فيبوح لي بأسراره الخطـيرة، وقضيت تلك الليلة وأنا أدخن وأحدق في العتمة وأضغط أسناني من أجل كظم غيظي، بانتظار الصباح لينقذني من هذا الرفيق الموسوس الشكاك.
نتوقف هنا لأنهاء الحلقة الرابعة.. وأقول أن ذكر الأسماء وبالكامل كان لابد منه فأنا لا أروي خيالا أشطح به كما أريد، بل أروى أحداثـًا وقعت فعلا ولا مفر من إعطاء كل ذي حق حقه، وحتى رجال بحث درنة من قبضوا على في بيتي وهما (محمد بوالمشيطيه) و (عبدالله عبدالرازق) كانا من رجال المباحث المشهورين والنشطين في درنة، ولم يؤذيا أحدًا في المدينة سوى المجرمين والسكارى المشاغبين، وكان أسلوبهم معي وهم يعتقلونني في منتهى الرقى حينما أشار لي (بوالمشيطيه) من بعيد بإصبعه لكى لا يراه والدى، فينزعج!
سنلتقى في الحلقة الخامسة، لنتحدث عن الرحلة من درنة الى بنغازي، ومبيتنا ليلة هناك في توقيفاتها ثم الرحلة الماراثونية ومعنا مجموعة من شباب بنغازي، من بنغازي إلى طرابلس، وعن أسلوب تحقيق المباحث والنيابة هناك، واستقرارنا آخر الأمر في السجن الشــهير سجن باب بن غشير، بورتو بينيتو (ســجن الحصان الأبيض).
فإلى اللقاء في الحلقة الخامسة…