طيوب البراح

بعضهم لا ينسى…

أسماء مصطفى

من أعمال التشكيلي عادل الفورتيه.
من أعمال التشكيلي عادل الفورتيه.

التحقت تلك السنة بالعمل في المدرسة القريبة من بيتي الجديد.. وكانت مدرسة بنين.. ولأول مرة أخوض تجربة تدريس الأولاد فقد كانت كل سنوات عملي الأولى في مدارس الجنس اللطيف…

منذ اليوم الاول لدخولي لتلك المدرسة حذرتني معظم المعلمات من أحد الطلبة.. كن أغلبهن يتحدثن عنه بغضب واشمئزاز.. تكلمن عن مشاكل كثيرة حدثت لهن بسببه، حتى أن إحدى زميلاتهن وصلت للعراك معه بالأيدي والأرجل أيضا.. مما اضطرها الى ترك المدرسة نهائيا بعد ان اتهمها مدير المدرسة بأنها كانت المخطئة وهي من بدأت باستفزازه والسخرية من شعره ومظهره…

كنت استمع لقصصهن المرعبة عن عماد وانا بين فضولي لرؤيته.. والقلق من ان يكون ضمن تلاميذي.. فأنا هادئة نوعا ما ولا أستطيع التعامل مع مثل هؤلاء المراهقين المتمردين.. ولم أستعمل العصا.. أداة المعلمين الشهيرة في الردع يوما…

ومن حسن الحظ لا من سوئه كما كنت أعتقد في البداية.. وجدت عماد في أحد فصولي.. دخلت اليوم الأول الى الفصل.. نظرت خلسة الى عماد الذائع الصيت شغبا وعداء.. لم اجعله ينتبه لنظرتي السريعة الفاحصة تلك.. كنت اتحدث وانظر للجميع دون تركيز على أحد معين.. وأخذت أتعرف على اسمائهم.. عندما وصلت إليه.. ذكر اسمه ثم قال لي متهكما: هل تتمنين أن أحلق شعري؟

نظرت اليه باستغراب وقلت: ”ستكون أجمل لو خففته قليلا.. ولكن الخيار لك طبعا“.. وبعد ان تركته بلحظات سمعته يقول لاحد الطلبة أمامه -وبصوت تعمد ان يصل الي: (فيها جو والله)…

ومع مرور الايام بدأت أعرف اشياء كثيرة عن عماد.. أشياء عرفتها بنفسي من اختلاطي به في الفصل وأشياء أخرى سمعتها عنه.. فسكنه قريبا جدا من بيتنا جعله وجها من الوجوه المعروفة في حينا.. كان مشاغبا بدون شك.. كثير الحركة والكلام وخارج عن المألوف.. ولكنه ليس سيئا.. تعود أن ينظر له الجميع ويقيمونه بسبب شكله وهيئته على أنه شخص سيئ.. فأمعن في التظاهر بذلك السوء الذي وصم به واستسلم له.. والذي يخفي تحته شابا طيبا ذكيا وأن غلب على مظهره وشعره المشعث الإهمال واللامبالاة.. أكثر ما كان يضحكني تلك الفرس المغبرة المهملة التي كان يستعملها في غدوه ورواحه ويجوب بها وسط دهشة الجميع منطقتنا الهادئة.. وقبعة الشمس الدائرية الواسعة تغطي نصف وجهه الذي لفحته الشمس.. وشعره الطويل يتطاير ورائه ثائرا متحررا بلا قيود وكأنه خرج علينا من أحد افلام الكاوبوي الشهيرة…

بعد عدة حصص عاملت فيها عماد كشخص يعتمد عليه.. سواء في التصرفات أو الفهم.. تأكدت أن ذلك الاسلوب كان مجديا جدا معه وكأنه كان ينتظره منذ زمن ليرينا وجهه الآخر.. وجهه الجميل الذي كان اسيرا يترقب احدا يفتح له الباب فقط.. لاحظت انه أصبح اكثر انتباها واقل ضجة.. وفوجئت به بعد ان اكملت شرح احد الدروس يرفع يده للإجابة على احد المسائل الحسابية التي كتبتها على السبورة.. وخرج عماد.. وحل المسألة حلا صحيحا كاملا.. وتفاجأ جدااا عندما قلت له ان الحل صحيح.. ولم يتفاجأ هو فقط.. انا نفسي تفاجأت وكل الطلبة ايضا.. ان يحل عماد مسألة حسابية صحيحة بالكامل هذا في حد ذاته انجازا كبيرا لي وله.. كان هو نفسه غير مصدق.. وسألني أكثر من مرة: ”والله تحكي جد يا ابلة؟ الحل صحيح؟“…

أصبح عماد يتقدم.. ببطيء ولكن دون توقف.. ويحرز نجاحا ليس في الدراسة فقط بل في اسلوب التعامل ايضا.. وفي يوم عيد المعلم فوجئت به يأتي الى غرفة المعلمات ويطلبني وفي يده شيء مغلف باللون الاحمر سلمه لي وسط دهشة واستغراب زميلاتي المعلمات.. رجعت الى الحجرة وفي يدي تلك الهدية وجميع العيون تتفحصها في دهشة وعدم تصديق.. وقالت لي إحدى الزميلات ضاحكة وعلامات التعجب تملأ وجهها: ”لا تقولي لي أن عماد احضر لك هدية عيد المعلم“!!!…

وطبعا رغم التقدم الكبير الذي أحرزه عماد الا انه احيانا يقوم ببعض الشقاوات التي كانت تضحكني أكثر مما تستفزني.. ولن أنسي ذلك اليوم الذي بذلت فيه مجهودا كبيرا في أحد الدروس المهمة وكنت يومها ازين يدي بخاتم جميل مكونا من ثلاث قطع تبدو للوهلة الاولى وكأنها قطعة واحدة.. وركزت على الدرس لأنه كان موضع اسئلة كثيرة في الامتحانات.. وسألت أكثر من مرة ان كان هناك اي سؤال.. قام عماد وقال لي هناك سؤال مهم.. واسعدني انه اصبح من المثابرين المهتمين وحثثته على ذكر سؤاله.. وفوجئت به يقول والجدية على وجهه: ”هل الخاتم الذي في يدك قطعة واحدة ام عدة قطع؟“.. وعندما نظرت له عاتبة قال لي ضاحكا: ”لا استطيع ان اكون عاقلا طوال الوقت (كثر خيري)“…

 14 يناير 2020

مقالات ذات علاقة

مَدَّ

المشرف العام

ليلة الأمنيات

سمية أبوبكر الغناي

قيمة الحاضر

المشرف العام

اترك تعليق