الشاعران (أمل دنقل) و(عبدالرؤوف السيد) نموذجاً


كتاب (فاعلية شعر الرفض والتمرد: أمل دنقل وعبدالرؤوف بابكر السيد، دراسة نقدية موازنة في ضوء منهج التحليل الفاعلي) لمؤلفته الدكتورة هدى رجب العبيدي عبارة عن بحث أكاديمي لنيل درجة الدكتوراة تحت إشراف أستاذها الدكتور ساسي ميلود رمضان سنة 2009 بقسم اللغة العربية بجامعة طرابلس.
وقد جاء الكتاب/الدراسة مطولاً في أربعمائة وسبعة وثمانين صفحة من الحجم الكبير متسلسلاً وفق منهجية بحثية تضمنت تمهيداً وأربعة فصول كالتالي:
الفصل الأول: أدبياتُ بُنَى الوعي، وقد جاء في ثلاثة مباحث هي: أدبيات البنية التناسلية، أدبيات بنية الوعي البرجوازي، أدبيات بنية الوعي الخلاّق. وقد عرض هذا الفصل تتبعاً غزيراً للشعر بداية من إفلاطون وحتى مذاهب الشعر الحديثة ومدارسه النقدية المتنوعة.
الفصل الثاني: نمو الفاعلية عند كلا الشاعرين، وجاء كذلك في ثلاثة
مباحث هي: التحدي والمجابهة، فاعلية النص، فاعلية المتلقي. وقد تميز هذا الفصل
بعمق تقديمه لفاعلية ودور النص الإبداعي من خلال استدلالات تاريخية وفرت أرضية
مهمة لمتابعة التحليل الفني الذي شملته الدراسة البحثية الصادرة في كتاب. وقد تأسس
منهج التحليل الفاعلي الذي اعتمدته المؤلفة في هذا الفصل على بنية الوعي الذاتي
والجماعي وهي ترتكز على ثلاثة جوانب إما وراثية (تناسلية) أو مكتسبة (برجوازية) أو
إبداعية (أخلاقية). وقد أجادت في تناول هذا التحليل والغوص في حيثياته العامة
ولكننا لا نجد مقاربة بعض مظاهره في نصوص الشاعرين محور الدراسة وإبرازها بشكل
متعمق.
ومن المآخذ على هذا الفصل عدم التصريح باسمي الشاعرين
في عنوان هذا الفصل حتى يكون إعلانه أكثر وضوحاً بذكر وظهور اسميهما بالعنوان
كالتالي (نمو الفاعلية عند الشاعر أمل دنقل والشاعر عبدالرؤوف بابكر السيد).
الفصل الثالث: الأنماط التعبيرية، وقد جاء هذا الفصل
في أربعة مباحث هي: الأنماط السياسية، الأنماط الاجتماعية، الأنماط الدينية،
الأنماط الثقافية. وقدمت الباحثة مفاهيم عديدة لهذه الأنماط في محاولة لإظهار
الفوارق التي تمنح كل واحدة منها جنسها الأدبي ومصطلحها الفني الخاص، وتمهد لتتبع
ذلك في نصوص الشاعرين سواء من حيث سياقات المضامين أو التقنيات المستخدمة.
الفصل الرابع: الأنماط الفنية، وجاء في ثلاثة مباحث
هي: بنية اللغة، بنية الصورة، بنية الإيقاع. ويمكن أن نطلق على هذا الفصل بأنه
أكثر أهمية في تحليل نصوص الشاعرين وتفكيك بعض التركيبات اللغوية والغوص في معاني
ودلالات الصور الجمالية فيها واسقاطها على بعض الأحداث والمواقف المعبرة عنها.
وأخيراً أنهت المؤلفة الباحثة كتابها بخاتمة لخّصت
فيها منهج الدراسة وفق ثلاثية بحثية هي (الفاعلية، والتمرد، والموازنة) كما تناولت
المشترك والمختلف في سلوك الشاعرين دون الاهتمام المتعمق في هذه الخاتمة بنصوصهما
الشعرية موضوع الدراسة.
ومن بين الملاحظات (الشكلية) التي يمكن تسجيلها على هذا
الكتاب/الدراسة بداية من العنوان الذي ظهر طويلاً جداً (فاعلية شعر الرفض والتمرد:
أمل دنقل وعبدالرؤوف بابكر السيد، دراسة نقدية موازنة في ضوء منهج التحليل
الفاعلي) وكان بالإمكان اختصاره قليلاً كالتالي (فاعليةُ شعـرِ الرفضِ والتمرد:
الشاعران (أمل دنقل) و(عبدالرؤوف السيد) نموذجاً) وتضمين العبارة الشارحة الطويلة
(دراسة نقدية موازنة في ضوء منهج التحليل الفاعلي) داخل متن الكتاب/الدراسة. كما
أن ظهور صورة المؤلفة على غلاف وواجهة الكتاب أجده غير لازم، والأجدر والأولى إن
كان لابد من إظهار صورة أن تكون للشاعرين الكبيرين موضوع الدراسة البحثية التي
يحتويها هذا المؤلف القيّم.
وبعد تصفح الكتاب نجد أن ظهور اسمي الشاعرين العربيين
داخل الكتاب/ الدراسة قد تأخر كثيراً ، حسب تصوري، حتى الصفحة رقم 137 حين برز اسم
الشاعر المصري أمل دنقل متبوعاً بشذراتٍ من سيرته الذاتية، وتعريفٍ جلّه مقتبس من
كتاب (الجنوبي) للأستاذة الناقدة عبلة الرويني زوجة الشاعر الراحل، وهو يعد أهم
المراجع التي تناولت سيرته الشعرية، وكذلك من كتاب (شعراء العمر القصير) للأستاذ
أحمد سويلم. ثم ظهور الشاعر السوداني عبدالرؤوف بابكر السيد في الصفحة رقم 154
وشذرات من سيرته الذاتية وبعض نصوص قصائده الجميلة، وقد أُقتبست هذه الشذرات مما
أورده في اللقاء الحصري الخاص والممتع الذي أجرته معه الباحثة/المؤلفة وأعتبره من
أبرز وأهم محتويات الكتاب وقد قدم معلومات مهمة عن الشاعر ومفاهيمه وآراءه في عدد
من القضايا.
وتبرر المؤلفة تضمينها لسيرتي الشاعرين الذاتية مختصرة
كثيراً بقولها بالصفحتين 142 و 143 (نحن لسنا بصدد دراسة السيرة الذاتية للوصول
إلى ماهية النص وفاعلية أو قصدية المؤلف، نحن نحاول أن نتحسس أهم جانب من تلك
السيرة ألا وهو أهم التحديات، وكيفية الاستجابة، لأن فاعلية المبدع تستنبط من خلال
الاطلاع على تلك التحديات وكيف كانت الاستجابة لها).
أما عن أهمية هذين الشاعرين فتلخص المؤلفة ذلك
بتأكيدها الواثق والمكثف في الصفحة رقم 168 (أن كلاً منهما كان رافضاً ومتمرداً)
وأزعمُ هنا بأنها لا تعني التمرد على الحياة بشكل عام، ولكنها تقصد عدم قبولهما
واعتراضهما على آليات الحكم السياسي في بلديهما غالباً وما آلت إليه الأوضاع
العربية كافةً، وكذلك نفورهما من الطقوس والعادات والأعراف والمفاهيم والأفكار
الاجتماعية البالية التي تعشعش في عقول المجتمعات العربية كلها.
ومن بين الملاحظات، (الموضوعية) في تصوري، أن الدراسة
لم تكن متوازنة بحثياً حيث تضمنت لقاءً حصرياً مع الشاعر عبدالرؤوف بابكر السيد
ونشر مقالة عنه، بينما في المقابل لم تنشر لقاءً مماثلاً مع الشاعر أمل دنقل أو
مقالة عنه. رغم أن المقالة التي نشرت حول الشاعر السوداني عبدالرؤوف بابكر السيد
والمعنونة (بين يدي الشاعر) لكاتبها الأستاذ عمر رمضان، لا توجد بيانات نشرها في
ثبت المراجع، وأعتبر تضمينها حشواً زائداً في دراسة أكاديمية بحثية من المفترض أن
تتسم بالموضوعية والدقة المجردة والحيادية والتوازن بين عناصرها كافةً، بينما
المقالة المنشورة هي مجرد كتابة عادية عن ماهية الشعر، ومقاربة سطحية بسيطة لنصوص
الشاعر السوداني عبدالرؤوف بابكر السيد، ومحاولة قراءتها من وجهة نظر شخصية كاتبها،
ولا تحمل أية إضافة مهمة للدراسة البحثية.
وإجمالاً فقد استطاعت المؤلفة/الباحثة في هذا العمل
البحثي بجدارة تفكيك بعض نصوص الشاعرين العربيين بكل مهارة فنية، واستنطاق العديد
من جماليات المفردات والصور الشعرية، وقوة المعاني والدلالات، وتحليلها وفقاً لمنحى
الدراسة الموضوعية لمفهوم الرفض والتمرد، وظهوره في النص الشعري وامتداداته خارج
ذلك الإطار، ومحاولة إسقاطه وإرجاعه إلى أحداث ومواقف حياتية معاشة خلال سيرة
الشاعرين العربيين. مع التأكيد على أن ذائقة اختيارها اتسمت بالتميز والشمولية،
حيث نلاحظ أن النصوص وإن كانت ماضوية الظهور والنشر إلا أنها لازالت تعكس الراهن
العربي والإنساني بكل معاناته ومآسيه، ولازال صوت الرفض والتمرد عليه يتفاعل في
حياة الإنسان العربي الحالية، ولذلك فهي نصوص تظل طازجة تكتسي حياة متفاعلة في
حيواتنا ولا تبهت أو تتأثر بالتقادم الزمني على ولادتها.
ومن بين النصوص التي اختارتها المؤلفة وتضمنها كتابها
رأيتُ أن أختار جزءاً من نصٍّ لكل شاعر منهما، مع التأكيد على أن الباحثة ليبية
بينما الشاعرين الكبيرين سوداني ومصري، وبقدر ما يحمله هذا الحضور الجامع بين دفتي
كتاب من تعدد متنوع في الجنس والانتساب العربي، فإنه يعكس كذلك قدراً كبيراً من
التوحد في الفكر والانتماء والانشغال والاهتمام المشترك سواء في الجوانب العلمية
أو الحياتية كافة على صعيد الوطن العربي الكبير.
فالشاعر المصري الكبير أمل دنقل رحمه يقول:
لاَ تَحلَمُوا بَعَالمٍ سَعِيدْ
فَخَلْفَ كُلِّ قيصرٍ يَمُوتُ: قَيْصَرٌ جَدِيدْ
وَخَلْفَ كُلِّ ثَائِرٍ يَمُوتُ: أَحْزَانٌ بِلاَ
جَدْوَى ..
وَدَمْعَةٌ سُدَى !!
والشاعر السوداني الكبير عبدالرؤوف بابكر السيد يقول:
(يكفي أننا عشنا ومنذ قرون ..
بكائين على الأطلالْ ..
وشكائين من الترحالْ ..
ومحتجين على الأحوالْ ..
ودجالين … ومشائين .. ونمامينْ
والقيم العليا بين يدينا .. والدينْ)
أما عن سبب اختيار الدكتورة هدى العبيدي لموضوع
الدراسة البحثية حول الرفض والتمرد في الشعر العربي فقد استعرضت سبعة أسباب من
بينها: الحاجة إلى دراسة الأدب الذي يعكس ويعالج الحالة الوطنية والعربية
والإنسانية وقضاياها الراهنة، وقلة وغياب الدراسات الخاصة بالرفض والتمرد بشكل
عام، والحاجة لإثارة هذه القضايا للتحايل على الرقابة الحكومية وتمرير بعض
المفاهيم العكسية المضادة، وعدم وجود دراسات أكاديمية حول الشاعر السوداني
عبدالرؤوف بابكر السيد وتعتبر هذه أول دراسة بحثية أكاديمية تتناول نصوصه الشعرية،
وتوضيح العلاقة بين الشاعر الرافض وواقعه المعاش وبيئته المحيطة، كما أنه رغم وجود
دراسات عن الشاعر المصري الكبير أمل دنقل إلا أنها لم تتناول غرض الرفض والتمرد في
نصوصه الشعرية بشكل منفصل ومستقل.
إن كتاب (فاعلية شعر الرفض والتمرد: أمل دنقل
وعبدالرؤوف بابكر السيد، دراسة نقدية موازنة في ضوء منهج التحليل الفاعلي)
للدكتورة هدى رجب العبيدي يعد جهداً بحثياً حول موضوع يحتاج إلى الكثير والمزيد من
الدراسة والتحليل، وهي قد مهدت لطرائق معارفه وأنارت قناديل دروبه وبداياته لكل
مثابر يسعى لاتباع هذا الهُدى.