حوارات

جمعة الفاخري: أُقحمْتُ لأكونَ ربَّانًا يمكنُهُ إنقاذُ سفينَةٍ تغرقُ في عرضِ محيطٍ هادرٍ

صحيفة العين الإخبارية

حاوره: السيد حسين – مصر

الشاعر والقاص والباحث في التراث جمعة الفاخري

– ماذا عن الشرارات الأولى، من الذي جاء بك إلى الشعر، ومن أغراك بالقصيدة؟

– الشِّعرُ نفسُهُ كَانَ الشَّرارَةَ، فالشِّعْرُ لا يحتاجُ إلى قادحٍ يوري لهيبَهُ، إنه يندلعُ في الأعماقِ بهدوءٍ عاصفٍ، بعصفٍ هادئٍ، يتسلَّلُ إلينا، يحتلُّ أعماقَنَا ثمَّ يعلنُ عن حرائقِهِ المهولَةِ المباركَاتِ.. يُحيلُ حياتَنَا إلى جحيمٍ أثيرٍ.. إلى فردوسٍ مشتعلٍ .. إِنَّهُ محرَقَةٌ أتونها أعماقُ الشَّاعرِ، حطبُهَا أعصابُهُ، وبخورُهَا مشاعرُهُ وأحاسيسُهُ.. كلُّ ما ينتجُ عنِ هذا الاحتدامِ الفادحِ هو شميمُ هذا الاحتراقِ الشَّذَيِّ.

أما القصيدةُ فهيَ ذاتُهَا الإغراءُ، هيَ الفَخُّ والحبائلُ.. والصَّيدُ والمصيدُ. ودونَ وعيٍ منَّا، دونَ عناءٍ، ولا تفكيرٍ نجدُ أنفسَنَا أسرَى حبائلُهَا، وسَقْطَى فِخَاخِهَا الحريريَّةِ الآسِرَةِ.

صدر لك العديد من الأعمال المختلفة على سبيل المثال لا الحصر “صفر على شمال الحب” قصص، و”امرأة مترامية الأطراف” قصص، “رماد السنوات المحترقة” قصص، وفي الشعر “اعترافات شرقي معاصر”، و “حدث في مثل هذا القلب” وغيرها.. كيف ترى تلك الرحلة الأدبية؟

– تلكَ الرِّحلةُ شاقةٌ شائقةٌ، مرصوفةٌ بالطُّموحاتِ الكِبَارِ، وبالأحلامِ الشَّاهقةِ، مُعَبَّدَةٌ بالصَّبرِ والكدحِ والإصرارِ والمثابرَةِ، والحمدُ اللهِ كَانَ مُنتهَاهَا مُدْهشًا، وخِتامُهَا نجاحاتٍ مرضيَةً.

كانت رحلَةً شائقةً، لعلَّ أجملَ ما فيها أنها قدَّمَتني للجمهورِ، فضلاً عن أنها حملت للمتلقِّي أفكاري وتجاربي ورؤاي، أضِفْ إِلى ذلكِ أنها بوحُ أعماقي، أنفثها على الورقِ .. أرى أن الكتَابَةَ علاجٌ روحيٌّ للكاتبِ، كثيرٌ ممَّا يعتملُ في دواخلِنا يقلقُنَا، يكادُ يقتلُنَا لولا هذا البوحُ الذي يخفِّفُ وطأتها على أعمَاقِنَا.

كيفَ تنظرُ إلى الشِّعرِ العربيِّ؟ ماذا عن حاضره ومستقبله؟

– الشِّعرُ العربيُّ ما يزالُ يملكُ فتنتَهُ وإدهاشَهُ، ويحتفظُ بجمهورِهِ الكبيرِ، وما تزالُ سطوةُ القِصَّةِ القصيرةِ حاضرَةً بقوَّةٍ في المشهدِ الثقافيِّ العربيِّ على الرُّغمِ منَ الاجتياحِ الفَادحِ للرِّوايَةِ للمشهدِ ذاتِهِ..

والشِّعرُ حاضرُهُ مزدهرٌ أيضًا، وسيكونُ مستقبلُهُ مزهرًا بإذنِ اللهِ تعالى.

في رأيك هل تراجع الشعر في مواجهة السرد ولماذا؟

– لا أرى تراجعًا للشِّعرِ على حِسَابِ السَّردِ؛ فالاثنانِ ما يزالانِ رائجينِ، ولكلٍّ جمهورُهُ ومتتبعوهُ ومريدوهُ، وأعترضُ على عبارة (في مواجهة) فهما يتكاملانِ ولا يتواجهانِ، فكثيرٌ منَ السِّردِ يغشُّ لبنَهُ بماءِ الشِّعرِ العَذبِ.

كيف يحضر المكان في قصيدتك؟ أنت مسكون بتفاصيل البيئة المحلية، خاصة مدينة إجدابيا وليبيا بشكل عام؟

– للأمكنة فتنتُهَا التي لا تُقَاومُ، وسطوتُها على الأرواحِ؛ فهي تتعلَّقُ بها أبدًا، فنحَنُّ دومًا إليها، إنها منابِتُ القلوبِ، ومشاتلُ المشاعرِ، ومزارعُ الأحاسيسِ، وأنا مشدودٌ أبدًا إلى أمكنةٍ بعينِهَا تأخذني إليها في كلِّ حينٍ، وتدعوني إلى أَحْضَانِها كُلَّمَا هَزَّني الشَّوقُ إليها، نعم، أنا مسكونٌ بالتفاصيلِ الحميمةِ التي كنت جزءًا منها، تشكيلًا مهمًّا من فسيفسائِها، مــأخــُوذٌ بهــا .. هيَ قــد لا تبــــدو لــلآخــرِ شيئــًا ذا قيمةٍ، لكنهــا للمَعْنــِـيِّ بهــا أهـــمُّ مــا في الحــيَاةِ .. لكــنَّ حنــينَ الإنســانِ يبقـــى وقـفــــًا على أوَّلِ منزلٍ، كمـا يقــولُ أبــو تمــامٍ، ولعــل َّاجـدابيا مــدينتي الآســِرةَ، وليبيـا وطنــيَ العظــيمَ همــا أَحَــبُّ الأمكنــَةِ إلـى قلــبي، وأبقـاهـا في ذاكــرتــي، وأحـــلاهـا في أعمــاقي، وأغــلاها في نفسي.

قصيدة النثر متهمة بمخاصمة الجمهور، والابتعاد بالشعر عن الواقع وقضايا الشارع؟ وكيف يعود الشعر فنًّا جماهيريًّا، كما كان؟

جمعة الفاخري في إصدارين قصصيين
جمعة الفاخري في إصدارين قصصيين

– لا أجـــزمُ بهــذهِ الفــرضيـَّـةِ، فلقصيــدةِ النَّثرِ جمهــورُهَا النَّخبويُّ المفتونُ بها، وهيَ لا تبتعِدُ عنِ الواقعِ إلَّا بمجَازَاتِها العاليَةِ، واستعارَاتِها المجنَّحَةِ، لكنَّ التقاطاتِهَا – غالبًا – هي منَ الواقعِ، من همومِ النَّاسِ، ومتاعِبِهِم وانشغالاتِهم.. وإن كانَ ثَّمةَ ترفُّعٌ عن تلمُّسِ قضايا النَّاسِ؛ فهذا عندَ قِلَّةٍ قليلةٍ من شعراءِ قصيدَةِ النَّثرِ، ولا يمكنُنَا التَّعميمُ.

وما يزالُ الشِّعرُ فِنًّا جماهيريًّا، أعني ما يزالُ ديوانَ العربِ الأوَّلَ، وما يزالُ جمهورُهُ الوفيُّ يتعشَّقُهُ، ويتعاطَاهُ، ويجدُ وقتًا له قراءةً وحضورًا واستماعًا.

في ظل الجدل الدائر حول قصيدة النثر ودورها في المشهد الثقافي العربي ومستقبلها، هل تعتقد أن هذه القصيدة مؤهَّلةٌ للبقاء وكيف ترى حظوظها؟

– دارَ كثيرٌ منَ الجدلِ حولَ قصيدةِ النَّثرِ، حولَ شعريِّتها وكينونتِها وما هيَّتِهِ وتوصيفِها وتفاصيلِها الأخرى، وقد تعالت أصواتٌ كثيرةٌ تنابزُهَا، وأخرى تنحازُ لها، لكنَّهَا الآنَ واقعٌ مجسَّدٌ، اِتفقنا أم اختلفنا حولَها؛ فلا يمكنُنَا إلا التَّسليمُ بوجودِهَا، شعراءُ بمئاتِ الآلافِ يكتبونَها، ونُقَّادٌ يشتغلونَ عليها، وجمهورٌ كبيرٌ يتعشَّقُها ويغشى حِمَاها قراءةً واستماعًا وإعجابًا، ورسائلُ جامعيَّةٌ ودراساتٌ وأبحاثٌ عميقةٌ تُجرى حولَهَا، وكتبٌ كثيرةٌ تؤلَّفُ في نقدِهَا ودراسَتِهَا، وهذهِ في حَدِّ ذَاتِها أسبابٌ منطقيَّةٌ لبقائِها.

والرِّهَانُ القَائمُ الآنَ أمامَ شعراءِ قصيدَةِ النِّثرِ هو تطويرُها، وجعلُها أكثرَ جماهيريَّةً مما هيَ عليهِ الآنَ.

أنت أحد روَّاد القصة القصيرة كيف تنظر إلى القصة القصيرة في ليبيا، قياسًا بالقصة العربية والعالمية وما يميزها عن غيرها من بلدان أخرى؟

– أوَّلًا، أنا لستُ من روَّادِ القِصَّةِ القصيرَةِ اللِّيبيَّةِ، التي بدأت في ثلاثيناتِ القرن العشرين على يدِ رائدِها الأوَّلِ في ليبيا الدكتور وهبي البوري، وهوَ دبلوماسيٌّ وباحثٌ تاريخيٌّ، ويعدُّ أوَّلَ من كتبَ أوَّلَ قِصَّةٍ قصيرةٍ ليبيَّةٍ متكاملَةٍ فنيًّا، وقد نشرَتَها مجلَّةُ (ليبيا المصوَّرة) في عدد أكتوبر 1936م، ثمَّ ترسَّخت على أيدي بعض الأقلام القصصيَّة الرائدَةِ كمجايله يوسف الدِّلنسي، وعبد القادر بوهرُّوس وزعيمة الباروني، ثم جاءَ من بعدهم جيلٌ منَ القصَّاصينَ الرُّوَّادُ الكِبارُ مثلَ علي مصطفى المصراتي، وطالب الرَّويعي وأحمد العنيزي ويوسف القويري وعبدالله القويري، وكامل المقهور وأحمد إبراهيم الفقيه وخليفة الفاخري ويوسف الشريف، وإبراهيم الكوني، وخليفة حسين مصطفى، وأحمد نصر، ومحمد علي الشويهدي وغيرهم.

هل عملت على أن تتَّسمَ قصَّتُكَ بالتَّشويقِ؟

وأيُّ قصَّةٍ يمكنُ أن نسمِّيها قصَّةً إن لم تكن مغموسَةً في التَّشويقِ..!؟

مغطوسَةً في الإدهاشِ، مغمورةً بالإثارةِ!؟ التَّشويقُ عنصرٌ مهمٌّ في النَّصِّ الإبداعيِّ عامَّةً، وفي القصَّةِ خاصَّةً، وإن لم ينجحِ القاصُّ في إضافتِهِ إلى نصِّهِ فقد فشلَ في منحِهِ إبهارًا وإدهاشًا ينبغي أن يتوفَّرا في النِّصِّ الإبداعيِّ.

يؤكد بودلير أن “العظماء من الشعراء، يصبحون نقَّادًا بطبيعة الحال”، فيما يذهب هيجو إلى القول بأن “الناقد لديك يساوي الشاعر”، انطلاقًا من هاتين المقولتين، أود أن أسألك عن سبب لجوء بعض الشعراء إلى الكتابة النقدية، وهل بإمكان الشاعر أن يكون ناقدًا؟

– الحِسُّ النَّقديُّ يملكُهُ كلُّ مبدعٍ – تقريبًا – بمستوياتٍ متفاوتةٍ، يزيدُ عندَ بعضِهم، وينقصُ لدى آخرينَ.

والنَّقدُ وإن كانَ عمليَّةً إبداعيَّةً مؤطَّرةً بمحدِّدَاتٍ علميَّةٍ وذوقيَّةٍ، إلا أَّن كثيرًا منَ المبدعينَ يمكنُهُم ممارسَةُ النَّقدِ من جانبِهِ الذَّوقيِّ، والانطباعيِّ، وهو ما نُسَمِّيهِ ( القراءة العاشقة )، النَّقدُ مقاربةٌ إبداعيَّةٌ تفتحُ كثيرًا منَ النَّوافذِ على العملِ المنقودِ، وتسلِّطُ مزيدًا منَ الضَّوءِ على جوانبِهِ غيرِ المرئيَّةِ، فالقراءةُ النَّقديَّةُ للنَّصِّ هي كتابةُ أخرى له، أعني أنَّ النَّاقدَ يبصرَ لنا ما لم نبصرْهُ، ويقرأُ لنا ما وراءَ النِّصِّ من مقاصدَ ورؤًى وخفايا.

ولا أرى نجاحًا لأيِّ إبداعٍ دونَ وجودِ حركةٍ إبداعيَّةٍ فاعلةٍ تكشفُ غوامضَهُ، وتشيعُ سحرَهُ وفتنتَهُ، وترفضُ هزيلَهُ ودَعيَّهُ، وتقدِّمُهُ تقديمًا لائقًا للمتلقِّي، فالنَّقدُ فضلاً عن كونه عملاً علميًّا، فهو عملٌ مساعدٌ للمبدعِ والمتلقِّي معًا.

ولجوءُ كثيرٍ منَ الشُّعراءِ لكتابةِ النَّقدِ، إِمَّا لخلوِّ السَّاحَةِ الأدبيَّةِ من نقَّادِ وازنينِ، وإِمَّا لقلِّتِهِم، غيرَ أنَّ كثيرًا من الكتَّابِ يستسهلونَ النَّقدَ، وهذا ما يجعلُ كثيرًا منَ الدِّراساتِ النَّقديَّةِ غيرَ ذاتِ قيمةٍ، أو قليلةَ الجدوى. وما يُفسدُ العملَ النقديَّ كثرَةُ المجاملاتِ التي تحيلُهُ إلى نصوصٍ باهتةٍ أشبهِ بالتَّهَاني الاجتماعيَّةِ المغرقةِ بالعواطفِ والدَّعواتِ الآملةِ بالنَّجاحِ والسَّدادِ.

إلى أي مدًى ترى أنَّ السَّاحةَ النَّقديَّةَ مواكبةٌ للإبداعِ الشعريِّ، ومنصفة له؟

في السَّنواتِ الأخيرةِ، تأخَّرَ النقدُ عنِ مواكبةِ الإبداعِ قليلًا، وذلكَ لقلَّةِ النُّقَّادِ الحقيقيّيِنَ على السَّاحَةِ الإبداعيَّةِ من جهةٍ، ولغزارةِ الكتاباتِ الأدبيَّةِ التي لا يمكنُ ملاحقَتَها كلَّهَا من جهةٍ أخرى.

بعد الثورة في ليبيا.. ما هو موقع المثقف من السلطة؟

– المثقفُ مواطنٌ، وليسَ بإمكانِهِ أن يعيشَ بمعزلٍ عنِ السَّلطةِ في بلدِهِ، فهو معنيٌّ بها كمواطنٍ وكمبدعٍ.. بعضُ المثقفينَ يقودونَ الحراكَينِ الثقافيَّ والسَّياسيَّ، وكثيرونَ منهم ينشطونَ من خلالِ منظَّمَاتِ المجتمعِ المدنيِّ، وبعضُهُم ينابزُ السُّلطَةَ مُعَارِضًا أو مناوئًا، وبعضُهُم ينحازُ لفئةٍ على حسابِ أخرى، وفقًا للأهواءِ السَياسيَّةِ أو المناطقيَّةِ أو الجهويَّةِ التي ينتمي لها، وهذا يحدثُ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ.

وقلَّةٌ قليلةٌ تبتعدُ عنِ التَّجاذباتِ السَّياسيَّةِ، وتنحازُ للإبداعِ فحسبُ، وتنأى بأقلامِهَا عنِ الخوضِ في الخلافاتِ والاختلافاتِ. لكنَّ المثقفَ الحقيقيَّ يبرزُ في مثلِ هذهِ المنعطفاتِ التَّاريخيَّةِ الخطرةِ، ويساهِمٌ في إخمادِ نيرانِ الفِتَنِ، والسَّعيِّ للمصالحَةِ بينَ أبناءِ الوطنِ الواحدِ، ورأبِ تصدُّعَاتِ المجتمعِ النَّاتجةِ عنِ ارتداداتِ زلازلِ الحروبِ الفظيعَةِ المفجعَةِ.

ولماذا لم نجدْ نصوصًا قويَّةً تعبِّر عن ثورة فبراير، بالإيجاب أو السلب؟

أخالفُكَ الرَّأيَ، هناكَ كثيرٌ منَ النُّصوصِ الإبداعيَّةِ المذهلَةِ التي هي من مواليدِ برج الحربِ، بمعنى أنها نتاجُ ثورةِ فبرايرِ، في كلِّ الجوانبِ الإبداعيَّةِ؛ فالإبداعُ لا ينطفئُ بالمحنِ، بل إنه يزدادُ اتِّقادًا في الظروفِ الاستثنائيَّةِ، لأنَّ التجاربَ الحقيقيَّةَ تمنحُ الإبداعَ مصداقيَّةً، وتضفي عليهِ رونقًا مختلفًا.

يقول شارل بودلير “القصيدة طفولة ثانية”، وأنت ما هي قصيدتك؟

– القصائدُ طفولَةُ القلبِ والرُّوحِ، كلُّ قصيدَةٍ تمنحُكَ عمرَها، تعيدُكَ طِفلًا.. طفلَ فرحٍ لا يكبرُ .. ومولودَ دهشةٍ لا يشيخُ، بالأمسِ كتبْتُ قَائلاً : ” يولدُ الشَّاعِرُ كُلَّ قصيدةٍ ” أيَّ أن قصيدَتَهُ عمرًا جديدًا، وتاريخَ ميلادٍ جديدٍ لأنها تجدِّدُ أعماقنا، وتؤثِّثُ أرواحَنَا بالفرحِ الضَّروريِّ، تبستنُهُ بالحلمِ والأملِ والرَّجاءِ.. وتملؤُهُ بالضَّوءِ والزَّهوِ والانتشاءِ.

القصائدُ بناتُ الأعمَاقِ الذهبيَّاتُ، أنهنَّ يتولَينَ عنَّا كثيرًا منَ العَنَاءِ والقَلَقِ والقَهرِ، حتَّى وإن كانت ولادتهنَّ أشبَهَ بخروجِ الرُّوحِ.. القصائدُ العظيمَةُ تُرمِّمُ انكساراتِ الأعمَاقِ، وترصفُ القلوبَ بالفرحِ والأملِ والدَّهشةِ.

القصائدُ سماءُ أقمارٍ ونجومٍ ذهبيَّةٍ، كونٌ منَ الدَّهشةِ والحلمِ والابتهاجِ، فضاءٌ من البوحِ، آفاقٌ ساحرةٌ للانطلاقِ دونَ توقِّفٍ .. دون التفاتٍ.. دونَ تضجَّرٍ .. دونَ تألُّمٍ.

هل حاولت يومًا أن تكتب قصيدة وأخفقت؟ تغافلت عنها فجاءتك في أوقات لم تتهيأ لها، ولم تكن في أتم استعداداتك؟

– كثيرًا ما يحدثُ هذا العجزُ اللَّعينُ؛ ذلكَ لأنَّ الشَّاعِرَ الَّذي يَسكُنُني لا يرضى على مستوى القصيدةِ مثلًا، فأتركُهَا، ثم تأتي بنفسِهَا، تطرقُ بابَ المخيِّلَةِ متسلِّلَةً على أطرافِ معانيها لتدخلَ.. حَدَثَ هذا كثيرًا، وكثيرًا ما أيقظتني من نومي لأكتبَهَا.

الكثير منَ الشعراءِ تحوَّلوا إلى كتابة الرواية لما لها من حضور على الساحة الأدبية حاليًّا أم تفكِّر في كتابة رواية؟

لا- ينبغي أن يكونَ الإبداعُ موضةً، بمعنى أن يَنساقَ الجميعُ وراءَ كتابَةِ الرِّوايَةِ مثلًا، قليلونَ نجحوا حينَ غيَّروا مساراتِ إبداعِهِم، لديَّ رَغبَةٌ عارمةٌ لكتابَةِ روايةٍ، أنتظرُ أن تكتملَ ملامحُهَا في أعماقي، وقد كتبْتُ شيئًا منها، أريدُهَا أن تنضجَ حَسَنًا لكي تولدَ فاتنةً كما أبتغيها.

أنت كصحفي كيف ترى ممارسة الصحافة على المبدع؟ وهل هي الخيار الأصعب والأقرب له؟

– الصحافةُ على الرُّغمِ من فتنتِهَا كونها تمنحُ المرءَ كثيرًا منَ التَّحدِّي، وتؤهِّلُهٌ للمغامراتِ المحفوفَةِ بالدَّهشةِ، إلَّا أنها تسرقُ عمرَ المبدعِ ذي المواهِبِ الإبداعيَّةِ الأخرى كالشِّعرِ والقصَّةِ والرِّوايَةِ، لأنها تسرقُ الوقتَ في مطاردَةِ الأخبارِ واقتناصِهَا ومتابَعَتِها، فضلًا عنِ الأعمالِ الصَّحفيَّةِ الأخرى التي تلي مرحلةَ القبضِ على الخبرِ .. ومعَ هذا، فخوضُ عوالمِ الصِّحَافِةِ تجربَةٌ مثيرَةٌ ينبغي للمُبدعِ إن يمرَّ بها لزيادَةِ خبرتِهِ ومعرفتِهِ بكلِّ فنونِ الكتابَةِ الإبداعيَّةِ.

وهيَ أحيانًا تكون خيارًا معيشيًّا لا إبداعيًّا، من أجلِ لقمَةِ العيشِ، فيضطرُّ المبدعُ لها إجباريًّا مؤقتًا، لا تفضيلًا لها عن سائرِ صنوفِ مائدَةِ الإبداعِ البَاذخَةِ..

لو لم تكن شاعرًا …؟

– لكنتُ شاعرًا، إنها نعمةٌ أشكرُ الله عليها، الشِّعرُ بابٌ واسعٌ يفتحُ لي عوالمَ فرحٍ على كلِّ إبداعٍ.. وأشكرُ للشعرِ دهشاتِهِ العسجديَّةَ، على الرُّغمِ من عذاباتِهِ، عذابَاتِ ميلادِ القصيدةِ ومراحلِ تكوينِهَا المرهقةٍ..

هل الكتابة تمرُّد؟

– الكتابة الإبداعيَّة في حقيقتها تمرُّدٌ على المألوفِ، قد لا يلحظُهَا القارئُ العَاديّ، لكنَّ الكتابَةَ في مجملِها تطمحُ إلى قراءةِ الواقعِ من زاويَةِ رؤيةٍ مختلفَةٍ، وتقديمه بشكلٍ غيرِ معتادٍ .. هذا هو التَّمرُّدُ، الشِّعرُ – مثلًا – حينَ يجنحُ للمَجَازاتِ المحلِّقَةِ، والصُّورٍ الفنِّيَّة العميقَةِ، يتمرَّدُ على رتابةِ اللُّغَةِ المألوفَةِ، ويصنعُ له لغَةً أخرى داخلَ اللُّغةِ، لغةً تسكبُ في الأعماقِ بوحَهَا وعبقَهَا وألقَهَا، وتدسُّ في القلوبِ فتنتَهَا وجمالَها؛ لذلكَ ننبهرُ بالإبداعِ، بالمختلفِ، لأنه مختلفٌ وفاتنٌ، وغيرُ اعتياديٍّ، نفغرُ أفواهَ قلوبِنَا اندهاشًا ونحنُ نعانقُهُ، فيما تصفِّقُ أعماقُنا لَهُ إعجابًا وانجذابًا، طربًا وعجبًا .. هنا – فحسبُ – يكمنُ التَّمرُّدُ ..

يموج العالم العربي بالجوائز الأدبية، ماذا تعني الجوائز الأدبية بالنسبة لك؟

– الجوائزُ منَ المحفِّزاتِ المهمَّة، لخلقِ فرصِ التَّنافسِ الإبداعيِّ، فضلًا عن أنها يمكنُ أن تقدِّمَ مبدعينَ جُددًا، ويُكتشفُ من خلالها أسماءٌ مبدعةٌ لم تكنْ ظاهرةً للعِيَانِ، وعلى الصَّعيدِ الشَّخصيِّ، فأنا لم أجعلْهَا هدفًا لي.. ولم أتقدَّمْ لكثيرٍ منَ الجوائزِ، عدا بعضِ الجوائزِ المحليَّةِ أثناءَ بداياتي الأولى.

ما هي مشاريعك القادمة وماذا تكتب الآن؟

– الإدارة تخطفني بعيدًا عنِ الإبداعِ، أحاولُ ألا أنجرفُ خلفَها، متى وجدتُ الوقتَ أنغمسُ مجدَّدًا في عوالمِ الأدبِ، الشِّعرِ، القِصَّةِ، الدِّراسَاتِ والكتاباتِ النَّقديَّةِ أحيانًا، وأحيانًا أقومُ بمراجعَةِ بعضِ كتبي التي أجهِّزُهَا للطَّباعَةِ، لدي حوالى خمسَة عشرًا مخطوطًا لكتبٍ إبداعيَّةٍ مختلفةٍ يمكنُ أن تكونَ كتبًا مطبوعةً قريبًا إن شاء الله .. تتراوحُ بينَ القصَّةِ والقصَّةِ القصيرَةِ جدًّا، والنقدِ، والدِّراساتِ التُّراثيَّةِ.

كيف ترى وتقيِّم المشهدَ الشعريَّ والثقافيَّ الليبيَّ حاليًّا وأنت على رأس المؤسَّسة الثقافيَّة في ليبيا؟

– لا بأسَ؛ المشهدُ الإبداعيٌّ الليبيُّ لم يتوقَّفْ عنِ التدفِّقِ شعرًا ونثرًا وسردًا ونقدًا.. لم يتأثرْ سلبًا بظروفِ الحروبِ، والانقساماتِ والاختلافاتِ.

والمبدعونَ يقومونَ بدورهم في تأثيث المشهدِ الإبداعيِّ بإبداعاتهم، ومساهمتهم الفاعلة في إنعاشِهِ وتنشيطهِ.

ألا ترى أن توليكم حقيبة وزارة الثقافة في الوقت الحالي وفي ظل الوضع غير المستقر في ليبيا عملٌ محفوفٌ بالمخاطر والتحديات الكبيرة؟

– نعم؛ أوافقك .. فعندَ ترشيحي لهذا المنصبِ استبشرَ الوسطُ الثقافيُّ خيرًا، فأنا ابنُ هذا الوسطِ، وقد جئتُ مُحَمَّلاً بكثيرٍ منَ المشروعاتِ الطَّموحةِ، وكثيرٍ من الأملِ لتنشيطِ المشهدِ الإبداعيِ، وإنعاشِ الحياةِ الثقافيَّةِ في ليبيا، لكنِّي صُدِمْتُ بالواقعِ، بحالَةِ الانقساِم المهولَةِ بينَ أبناءِ ليبيا، وبينَ المبدعينَ أنفسِهم، وشبحِ الحروبِ والفتنِ، وقلَّةِ الإمكاناتِ،

أيقنتُ أنني تورَّطتُ، أُقحمْتُ لأكونَ ربَّانًا يمكنُهُ إنقاذُ سفينَةٍ تغرقُ في عرضِ محيطٍ هادرٍ.. هذا ليس عجزًا مني، لكنَّ الظروفَ أقوى سطوةً، وقد يكون المرءُ رجلاً مناسبًا، في مكانٍ مناسبٍ، لكن إذا كان الزمنُ غيرَ مناسبٍ فلا يمكنُهُ أن يحقِّقَ ما كانَ يرغبُ تحقيقه كما اشتهاه، وهذا – ضبطًا – ما حدث معي، وقد لا أكونُ الرجلَ المناسبَ، لكنَّ الظروفَ القاسيةَ التي خلقتْهَا الحربُ والانقسَامُ، لا تتيحُ لأحدٍ أن ينجحَ نجاحًا مشهودًا كما ينبغي، في أيِّ قطاعٍ من قطاعاتِ الدَّولَةِ .. لاسيَّما وأنَّ الثقافَةَ لكي تنتعشَ تحتاجُ إلى مناخٍ مستقرٍّ، وإلى بلدٍ آمنٍ مطمئنٍّ لتزدهرَ، وإلى إمكاناتٍ كبيرةٍ لم يتوفَّرْ لنا أقلُّهَا بسببِ شحِّ المواردِ المادِّيَّةِ، فأثناءَ الأزماتِ قد يكونُ الصَّرفُ على الثقافَةِ بذخًا، في مقابلِ ضروراتٍ أخرى ملحَّةٍ كتوفيرِ الخبزِ والدَّواءِ والكهرباءِ ومعاشاتِ المواطنينِ، والدِّراسَةِ، والأمنِ بالطبعِ، بمعنى في مواجهةٍ راهنٍ مأسويٍّ كهذا، لن تكونَ الثقافَةُ أولويَّةً في الإنفاقٍ لأيِّ حكومةٍ.

ومعَ كلِّ هذهِ المختنقاتِ؛ فقد نجحْنَا في تنشيطِ المشهدِ الثقافيِّ، وإحياءِ مهرجاناتٍ ثقافيَّةٍ في مدنٍ وقرًى لم تحلمْ يومًا بأن يكونَ لها مهرجانٌ ثقافيٌّ، وبعضُها لم يزرْهَا مسؤولُ ثقافَةٍ منذُ إنشائِهَا ..

خلالَ هذا العامِ أقمَنَا أكثرَ من عشرةِ مهرجاناتٍ ثقافيَّةٍ في شرقِ ووسطِ وجنوبِ ليبيا.

تقول “سأفعل كل ما يمكنني فعله لإعلاء قيمة الثقافة في وطن يحتاجنا جميعا بإخلاصنا له”، ماذا قدَّمت أو أضفت للهيئة العامة للإعلام والثقافة والمجتمع المدني منذ توليت المسؤولية؟

– أنا أ بذلُ جهدي من أجلِ تحقيقِ الأهدافِ والغاياتِ التي أُنشئِتْ من أجلِها هيئةُ الإعلامِ والثقافَةِ، تعينني في ذلكَ منظومَةٌ إداريَّةٌ فيها كثيرٌ منَ الخبراتِ الثقافيَّةِ والإعلاميَّةِ والإبداعيَّةِ، ومكاتبِ للإعلامِ والثقافةِ في البلدياتِ تؤدِّي دورَهَا كما ينبغي وفقَ ما يتوفَّرُ لها من إمكاناتٍ..

ولعلَّ إجابةَ السُّؤالِ السَّابقِ فيها توضيح ٌكَافٍ لهذا السُّؤالِ.

مقالات ذات علاقة

سالم الهنداوي: المثقف الليبي مظلوم لا مؤسسات ترعاه ولا يحظى باهتمام إعلامي

المشرف العام

خديجة بسيكري إحدى المنظمات لجائزة مفتاح بوزيد في دورتها الأولى لفسانيا: بنغازي كلها تعاضدت من أجل نجاح الاحتفالية

حنان كابو

منصور بوشناف خريج السجون الثلاثة: أجوب واحات وصحارى بلادي لجسر الفراغ السردي

المشرف العام

اترك تعليق