حافظ التشكيلي محمد عبدالله عتيبي على مفردات موروثة. كل منها ضارب في عمق التاريخ والجغرافيا، عربية وأفريقية، ومن البيئة المحيطة. ابتكر الفنان مفرداته الخاصة بعد بحث مضن في تجارب فنية، تمتد على مدى سنوات من البحث والتنقيب في حفريات الذاكرة الشعبية، وما تم تحصيله من اطلاع مستمر على ما أنتج من تجارب فنية رائدة سبقته. بين ظلال الماضي وإضاءات الحاضر حدائق نضرة تتسع لتجارب إنسانية عميقة تزدان بخضرة الروح الباحثة عن أسرار الجمال. الرسم عنده تصوير رحلة داخل الذات لاستحضار مشاهد بصرية ممتلئة بالقصص. وكأن الألوان لديه محاولة، وهي تشق طريقها نحو التعبير، والايضاح.
وبين التحوير في المفردات وإتقان التلوين يكتمل المعنى الشعري في لوحاته. ويستقر في داخل المتلقي. تصبح اللوحة ذات أصل وصورة تفصلهما مسافة العرض ما بين المتلقي واللوحة المعروضة. تكمل كلاهما الأخرى في تحاور جميل ينتج حالة معرفية بالتاريخ والجغرافيا، من عادات وتقاليد وحياة تشتد وتنفرج، تأتي وتترك، تتسع وتضيق، مشاهد تسطع وتغيب، تزهر وتينع وأيضا تذبل وتموت.
عند الوقوف أمام أعمال الفنان عتيبي يدرك المتلقي عمق التجربة الفنية في طريقة المعالجة لموضوع اللوحة، من أشكال وألوان تنم عن خبرة كبيرة في هذا المجال، وحتى إن جاءت هذه الأعمال بوضوح المبنى والمعنى، إلا أنها تجربة فنية قبضت على الكثير من الأجواء اللونية الأولى، التي تجنح في أغلبها إلى مدارس الفن الأولي «الفن الخام» المهتمة بالعفوية والبدائية في الأفكار وطريقة التنفيذ، مع نضوج الألوان وسطوتها على السطح التصويري، وتداخل اتجاهات أخرى كالحروفية والتجريدية التعبيرية في الكثير من مناطق اللوحات عنده. وكل هذا يحتويه وعاء فكري مدرك لتجارب الفنون الجديدة.
نصوصه البصرية معاصرة في المظهر العامة تناجي الذائقة البصرية المدركة لفنون ما بعد القرن العشرين، وتتداخل مع عدة مدارس واتجاهات في الغرب والشرق، تطفح بملامح محلية من المنطقة، خصوصا بلده السودان. تعدد الأصوات واللهجات التشكيلية من البدائي إلى الحديث وما بينهما من إنجازات فنون الحداثة لتعويلها على ما تم إنتاجه من الفنون الأفريقية والإسلامية برؤية صوفية غالبة على أغلب أعماله التشكيلية، وتتضح في مشاهد الفن الخام المنتج عنده.. هذه الأعمال تنتمي للسطح التصويري ذي البعد الواحد يتخللها البعد النفسي العميق، حيث دهاليز التاريخ وعبق الماضي البعيد.
طائر الشوق الملون يحوم في سماء ملبدة بالألوان في مناخ تجريدي جميل تنام تحته بيوت بيضاء في عناق حميمي، كتلك الذي تظهر في لوحات بول كلي عندما رسم تونس ومربعات ملونة متوهجة كالقناديل تضيء المشهد المغيم بألوان حارة كفاكهة الشتاء.
امرأة بملابس تقليدية سودانية تنتشر بقع مائية ملونة على ردائها، وتتكئ على صحراء من لون أصفر، وتظهر في الخلفية ألوان متشابكة مفعمة بالحيوية كحدائق الأرض تعلو المشهد، تكاد أن تتحد مع السماء في تدرج من الأصفر إلى الأخضر الغامق يتخللهما الأزرق، الأحمر والبرتقالي.
لوحة «الملك وحراسه» تقترب من الفرنسي جان ديبوفه ومناحاته البدائية في طريقة معالجة السطح، وتنفيذ الأشكال المرسومة ومهارة تلوين البقع الصفراء المتباينة في درجاتها وقوة سطوعها على خلفية المشهد المرسوم، فتصبح هذه الأشكال ثانوية الدور في التعبير فهي مؤقتة وقابلة للزوال والمحو من على جدران باقية متوهجة ومتماسكة.
يشار الى ان عتيبي من مواليد الدويم 1948. خريج كلية الفنون الجميلة والتطبيقية الخرطوم. عمل في مجال التعليم والصحافة والإعلان في سلطنة عمان، وادار غاليري عتيبي ، في أم درمان بين العامين 1990 ـ 1997. أستاذ متعاون في جامعة السودان ـ كلية الموسيقى والدراما 1998 ـ 1999، وشارك في العديد من المعارض الجماعية.