حوارات

سعاد الورفلي.. حيثُ تجري غزارة إبداعها من منابع فنية متعددة

ثقافات

 أمام الأديبة سعاد الورفلي تقف لتجد انها أكثر من شخص واحد في روح أديبة باذخة بالجمال الفني، تأخذك في أي نص تختار قراءته لتعيش معها حالة إنسانية كاملة العواطف وعلى مسرح حبك بخيال مدهش.
إنها المفتونة باللغة العربية فكرست مساحة كبيرة من وقتها واهتماماتها وجهدها لرسالة التعليم.و هي حالة تعددية للفنون والآداب وشعلة من الانسانية بكيان يمزج مذاق البيئة المحلية الدافئة والاصيلة بلغة معاصرة ومحترفة تنسج خصوصية متفردة.
في روحها بستان نضر من بني وليد ومن بنغازي وفيها ايضا من الادب العربي الضارب في القدم ومن الادب المعاصر ومن الموسيقى ومن اللوحات التشكيلية وفيها اكثر منذ لك ادبا وفنا.
في حوارنا نحاول الوقوف عند تجربتها الشعرية والقصصية ومساهماتها الادبية محليا وعربيا…

> نريد أن نفتح نافذة على طفولتك وتكوينك الأدبي الذي يصل اليوم إلى نضج كبير؟
• وجدت نفسي أعشق فن القصة والحكاية منذ طفولتي، وكان الجانب الإنساني يطغى على كل مسامات الحكاية والأحداث في قصتي، الروح الإنسانية دون قيد أو حدود أو وطن كانت تهمني ومنذ أن كنت في المرحلة الإعدادية أتذكر أني كتبت رواية مخطوطة مبتورة الجوانب والنفس فيها طويل حينما أراها أقول في نفسي كيف كتبت هذه المخطوطة؟ ولمن كتبتها ياتُرى؟ ولماذا كتبتها؟ لهذا اعتبر الكتابة مثل السحر.. تكتب وتكتب حتى تجد نفسك أنك أوجدتَ عالما بكامل كينوناته…
ثم كيف لي وأنا طفلة صغيرة هذا الخيال الذي هو أكبر مني أضعاف المرات؟ فأنا جسدت شخصية البطل والمرأة الكبيرة والوطن.. طفلة في الصف السابع تكتب عن قضية وطنية شغلت أذهان الناس فترة ما.. مكونة من أضلاعها وبعدها الجغرافي حكاية تريد أن تظهر فيها” أن الإنسان مهما تباعدت به خطوط الطول والعرض يظل إنسانا بكل مكوناته: الفضيلة.. الحب.. السلام. تتحدث عن فتاة أسميتها: سمية. عن معاناة إنسان ووطن.

> تمزج مفرداتك الأمل بالقسوة والصبر وكثير جدا من التأمل هل الشاعر بالضرورة متفائل ومن يأتي بخلاف ذلك يكون خارج القاعدة؟
• الشاعر إنسان مثل كل من حوله: بكامل أمزجته: النفسية والروحية والاعتيادية.. إنسان يقلق.. ويتضايق ويضجر، وكثيرا ما يعاني في صياغة الصورة التي تناسب أذواق من حوله، أما عن الأمل والشاعر فهو كالنافذة المغلقة التي تحتاج من يدفعها ليتسلل النور وينتشر مالئا الحياة بالفرح…
الشاعر في مسيرته هو كقطعة الإسفنج التي تتشرب كل شيء، وإذا تم ضغطها فسيندفع منها كل ما اختزلته في زمن ما. هذا هو الأديب فهو يتنفس الحياة ويلفظها أفكار ورؤى وقصائد ذات وزن وإيقاع بين السعيد والحزين بين المتفائل والمتذمر بين البعيد والقريب بين الشيء واللاشيء.. فكل منا يتأثر بطريقته التكوينية، هناك من يتأثر فيصاب بالصمت والذهول، وهناك من يصرخ ويعربد وهناك من يعترض ويرفض بصوت مرتفع وهناك من ينطوي على ذاته ويبتعد عن المحيط.. فكل هذا وأكثر في حياتنا موجود ولكل منا أداة يعبر من خلالها عما تكتنفه مشاعر وأفكاره: الإعلامي بطريقته، الممثل.. المغني، الموسيقي، الملحن، الرسام، المدون، الكاتب، الشاعر، المحلل الدبلوماسي.. كل هؤلاء لهم طرقهم في التعبير عما يختزل في نفوسهم من مشاعر أو أفكار.. الشاعر هو جزء من هذه التكوينة.. ليس له من سبيل إلا بحر قصائده وشواطئها الممتدة التي لا تحدها ولا تصدها حدود أو حواجز.. تخرج مفرداته لآلئٌ تلمع في عتمة ضباب يكتسح الحياة لتشق تلك الغمامة وتنطلق بكل عنفوان.فليس بالضرورة أن يكون الشاعر مكتمل التفاؤل أو متشائلا.. إنما هو موسوم بما يعيشه ويشعر به أسوة بغيره من الناس. فقط طريقته هي التي تختلف من حيث رسم الحياة من حوله في شكل زخات ذات وقع وجداني يخترق القلوب.

> (لقد رسم کل الوجوه نسي واحدا لم یدفعه الفضول للبحث عنه کان المتهمون قد تعرفوا علیها وأنكروها، وجه واحد مازال عالقا في الضباب جمع ألوانه غادر الوطن علم في قرارة نفسه أنه الوجه الضائع)… حتى في النثر والشعر تكون الصورة القصصية حاضرة يبدو أنك مولعة بالحكاية؟
• القصة هي الجزء التكويني لكل أعمالي الفنية الأدبية، أحببت أن أُضْفي على أعمالي -خاصةً الشعرية- مسحة من فن القصة. فقلمي الأساسي قصصي بالدرجة الأولى. وهذا أُوعِزُه لطاقة الخيال المتضخمة في ذاتي، الخيال الواسع وليس الواسع فحسب بل الخصب تحتدم فيه مواقف وأحداث وشخوص حتى كأنك تعيش وسطها وبيئتها وزمنها وفعلها…
من خلال هذا الخيال تبني صرحا حقيقيا لواقع قصصي تتفق فيه المعطيات مع الواقعية، لأننا بالفعل نعيش بين: واقعية وخيالية (هاتان المزامنتان) تصنعان أحداثا تتقارب وتتباعد، تقبلها القلوب وترفضها العقول، تتفق في.. وتختلف في.. وهذا لا يتعلق بي فحسب إنما كل أديب له محصلته الخيالية التي من خلالها بنى وزرع وحصد وأنشأ وكون محادثات وشخوصا وأبطالا وحياة..ونهايات لم نتوقعها إنما هي من بوح ذلك الخيال الممتد. لهذا دائما أحرص على تنمية الخيال لأنه أكبر مصنع لتكوين أحداث غير مستهلكة بل هي معينة لاختلاق أفكار متجددة.

الكاتبة والناقدة سعاد الورفلي
الكاتبة والناقدة سعاد الورفلي

> مشغولة دائما بالتعليم وباللغة العربية مهمومة لا تنقطعين يوما عن العطاء في هذا المجال هل أنت قلقلة على تفريط الأجيال الجديدة في لغتهم الأم وافتتانهم باللغات الأجنبية؟
• هذا السؤال يحتم علينا أن نفصح عن واقعيتنا التي نعيشها بكل ثقلها بعيدا عن معاناة أديب أو براح قلم. أما انشغالي بالتعليم: فهو أمل متباعد الخيوط مرتفع الطموح قد لا يحده سقف ومن أي نوع ولا يكفيه عطاء مهما تزايد…
أكاد أشعر بشيء لاأستطيع تحديده تماما كلما وقعت عيناي على دراسة علمية لإحدى الدول أنها أنجزت برامجَ ضخمةً من أجل الارتفاع بالتعليم في بلادها.. وكذلك أقول في نفسي لو نسابق الدول المتقدمة في تنشئة جيل يصارع الزمن من أجل أن ينهل من كل جديد، جيلا حقيقيا يريد أن يتعلم ليتعلم لا ليتصف بدرجة علمية دون وعي حقيقي. تقدمتُ بكثير من المقترحات والرؤى التعليمية ونشرتُ مقالات متنوعة تفيد المعلم والمتعلم والمفتش التربوي على حد سواء…
شاركت في دورات لأقدم الأفكار الجديدة التي تلهم المربيات والمعلمات في الساحات التربوية والتعليمية. أتذكر أني أعددتُ وقدمتُ برنامجا إذاعيا يتضمن علاقة الثقافة بالتعليم، ناقشت من خلاله عديد القضايا التربوية والتعليمية ومعاناة المعلم، والسبل والبدائل التي من خلالها نستطيع جميعا فعلها لنرتقي بتعليمنا. الآن بصدد إعداد مركز بمجهودات ذاتية يسيرة لخلق أفكار مبتكرة تعتمد على جانب المهارة والإبداع في مجال التدريب والتعليم، اعتمدتُ فيه على توظيف أفكاري المهنية،الأدبية، التربوية، الإبداعية وبطرح مشروعي الخاص الذي أخْلص من خلاله لتأليف تجربتي في كتاب يتضمن كل الأفكار التي تفيد المجال التعليمي التربوي الذي نطمح ونتطلع سوية في الصعود به أرقى غايات الكمال.
أما الشق الثاني من سؤالك عن قلقي على اللغة العربية وافتتان الأجيال باللغات الأجنبية. حقيقة: أنا لستُ خائفة على اللغة العربية –إطلاقا-الخوف يكون على الشيء الضعيف، واللغة العربية مكانتها عالية وقوية هذا ما وجدته في لغتنا ليس تعصبا لكوني أتخصص فيها أو لأني عربية وهذا فخر، بل هذا الأمر لمسته من خلال ممارستها. فأنا مارست اللغة العربية في كل الفنون الأدبية: استعملت البلاغة في الشعر بكل تصنيفاتها البيانية والبديعية والمعنوية.. وشرّحت النصوصَ أدبيا بقراءتها نقديا وفنيا وتحليلها وتجزئتها وبعثرتها وقولبتها وولجت في أعماقها النفسية والتكاملية والتأريخية…
تذوقت الأدب بمراحله المتنوعة منذ عصر المعلقات وحتى زمننا الحالي.. وعلمت إجمالا أن لا خوف على لغتنا العربية لا من الضياع ولا من الغياب في حضور أخريات.. إنما الخوف الحقيقي على مثقفين ومتعلمين وأصحاب تخصصات متنوعة أن تضرسهم اللغات الأخرى فيقعوا في عنت اللغة العربية.. لأن اللغة العربية بحر متلاطم الأمواج من أخذنا منها إلا كما يأخذ المبحر من الشاطئ وهذه حقيقة…
نحن في عصر انفتاح هائل وكبير.. نتواصل جميعا ونتعارف ونتعرف على آداب أمم أخرى ولايمنع هذا أن نتعلم لغات أخرى ونتكلم بها ونمارسها ونترجم منها ما نجده من علوم وآداب وفنون. ليس معنى أن تحب لغتك، فتهجر غيرها من اللغات فهذا ليس من العدل..أن تأخذ شيئا وتترك أشياء.. فالحياة مكملة لبعضها. ولكن المؤلم كما أسلفت: أن يجد العربي تعسرا وسوء فهم للغته الأم أمام غيره من غير المتحدثين بها بينما هم يبحرون بين أمواجها وفي عمق قاموسها.

> لوحات من كل المدارس الفنية تعرضينها في صفحاتك على مواقع التواصل الاجتماعي حدثينا عن علاقتك كإنسانة وكأديبة بعالم الألوان والخطوط؟
• محبة للفن ومولعة بالصورالفنية ذات الغموض،دائما ما أقف أمامها أريد أن أترجمها بأكثر من معنى وسياق وحس وشعور. تتملكني تلك الصور التي لاحدود لجماليتها الفنية، وأهرب من وضوح الصور المكشوفة المعاني التي تشرح لرائيها كل شيء ولاترهق نفسه وفكره بالبحث عن مغزى السر فيها. الصورة إن لم تكن مرهقة بجمالها مثل خريطة الطريق، فإنها لن تبعث على العطاء الفني والأدبي، ولن تحرك سكينتك. لهذا أبحث دائما عن الصورة التي تخلق في نفسي ثورة محتدمة، فعالم الألوان والخطوط: أراه استفزازا وجدانيا لذاتي؛ كي أفك اللثام عن ذلك الصمت في شكل حروف تتحول إلى أقصوصة-ومضة-خاطرة-شعر-أو.. سطرا من معانٍ ذات مستوى يبحث عن تصنيفه بين الآداب الموضوعة الآن على الطاولة لتأخذ مرتبة أدب عصر السطر الواحد في شكل اختزال لكل معاني الحياة.

> البيئة المحلية هي مسرح شخوصك وتذكريني بروايات خليفة حسين مصطفى و أحمد الفقيه ومحمد الشويهدي فهل تشعرين بأنك امتداد لهذا الجيل؟
• هناك بصمة واضحة على نصوصي التي تتضح فيها البيئة المحلية في كثير من القصص المنشورة والمطبوعة أو في مجموعتي القصصية ”ربيع بطعم البركوكش” حسب قراءات النقاد لأعمالي من مختلف البلدان العربية. مثل قصة: الحبيلة،أو العاقول، أو البكوش لمجدع، أو إدرويش، أو اللافي وغيرها كثير…
سيحتفي كثير من القراء بشخصيات تهمنا ومشابهة كثيرا لأزمنة سبقتنا تمثلت في أجدادنا وجداتنا بقالب فني يحكي عن زمن نشتاق إليه كثيرا حسب مفهوم الحكاية الذي يرد على أذهاننا متمثلا في ذلك الجيل، البيئة لعلها تكون نستالوجيا تشدني كثيرا إلى بساطة أولئك الناس، وقلوبهم النضِرة. الامتداد إلى عمالقة الأدب الليبي-ويسعدني- هذا الوصف الذي يليق بهم بحق، رغم ضآلة العالمية التي كان يجب أن تلف أعمالهم وتعرضها على العالم، لكن يظل الأدب والأديب الليبي يمتاز بخامته التي تختلف عن غيره من الآداب الأخرى، دائما ما نجد صوت الصحراء وحركة المجتمع التي تشكل الصورة الفسيفسائية لكثير من العادات والتقاليد التي تطرح بتلقائية في أعمال الأديب الليبي، كذلك الحياء في بعضها الآخر عن الكشف عما يكتنف قضايا خلف السُتر والدهاليز، فالأديب الليبي عادة يمتاز بدبلوماسيته في توظيف التمرد الخلاّق الذي يشب عن الطوق برؤية فنية ممزوجة بصراخ مكتوم…
وقراءاتي للأدب الليبي محطة أولى في حياتي منذ دراستي الجامعية، كثير منها شدني رغم بساطة اللغة ومباشرتها لكن البعد الفني والوجداني عميق فيها، هناك روايات جديرة بأولوية أرفف المكتبات العربية، تلك التي تتسم بالطابع الفلسفي، وتوجيه الأسطورة والخرافة وإسقاطها اجتماعيا بما يتناسب والجو النفسي المجتمعي وقت كتابتها.

> تطلين على العالم نشطة متقدة مثابرة متطلعة؛ هذا الحضور الجميل قليل وجوده بين الأديبات الليبيات كيف ترين هذا الغياب النسائي الليبي عن الأدب العربي والعالمي؟
• هذا لأنني دائما أرى نفسي الطفلة التي لاتكف عن الشغب ! بالفعل حين أتحدث في أي وسط إعلامي أشعر بجودة الحديث وجرأة الأدب، وقوة التفكير الانطباعي كما يلاحظ ذلك محدثي، ولكن في حقيقة الأمر نشاطي المحفز على صفحتي أو مدونتي أو عالمي الافتراضي، يمثل الشمس المشرقة التي تنبع من ذاتي، أكتب بجوهرية، وأستمتع بالكتابة حتى تنسيني همومي…
البساطة في التعامل هي العصا السحرية لكل أديب وكاتب، ولكن مع حسن استعمالها والتفرد بها، لا أفضل أن يكون الكاتب عصاميا مبتعدا في أخذه وعطائه مع من حوله، التزمت الأدبي هو انحراف طفيف يجعل الأديب كالمخطوطة التي جار عليها الزمن وظلت حبيسة الأركان طيلة عقود ممتدة…
ولكن الانفتاحية التي يسمح بها الأديب هو أن يعيش لأدبه ويعيش للناس، يقترب منهم من أفكارهم وحياتهم، يكتب لهم ومن أجلهم، يطلعهم على شعوره نحوهم.. يبحث عن مخابئ الأحزان التي يبتعدون بها خجلين من الدموع التي تفاجئهم على حين غرة.. ليشاركهم ويتقاسم معهم رغيف الحياة. لقد عرفت من خلال الأدب أن الشعراء الأوائل كانوا بين الناس ولم يكونوا فوق الناس…
لايوجد غياب بالنسبة للأديبات الليبيات بالمفهوم العام والمطلق، ولكن هناك محدودية في الاتساع، ربما تكون تلك الحالة مختارة أو مفروضة تحكمها ظروف ما. فالأديبة الليبية صارت تسابق مثيلاتها؛ بل امتد إنتاج الأديبات الليبية حتى وصل آفاقا دولية، وحاز جواز عالمية، وقراءات نقدية أعطت لأدب المرأة الليبية قيمته الحقيقية ومكانته بين الآداب الأخرى.أسوة بغيرهن. وهذا مع الواقع المفروض اليوم والعزلة الحادثة بسبب أحوال البلاد وشح المراكز الثقافية ودور النشر، والصالونات الأدبية التي تثري الحركة الأدبية والملتقيات التي تظهر الإنتاج الأدبي ودوره الفعال في ترسيم الحياة بعامة كما جاءت بأقلامهن. فكيف والحالة هذه مع ما نراه من جودة أعمال وظهور بات يكتسح كل المجالات على جميع الأصعدة.

> تكتبين بإنسانية خالصة لامرتبطة بأحداث راهنة أليس الأديب عادة يستخلص ويجسد ويصور من معالم وأحداث تعيشها رؤاه الإنسانية أم أن لك رؤية مختلفة؟
• حين تكتب باستقلالية، ستعيش في كل التفاصيل، ولن يفرض عليك أي فكر سلطانه، وعلاقة الأديب بالحياة وأحداثها وتقلباتها ليست منفصلة، إلا أن الأسلوب هو الذي يحدد معالم الفكرة من حيث الاندماج والانفكاك. قيل لي أنتِ لا تكتبين في السياسة ومن يتابعك سيجد أنكِ في فلك غير الفلك الذي تقيمين فيه، بينما حين يقرأ أحدهم قصة ما وإن كانت عاطفية سيجد كل التفاصيل التي نمر بها في حياتنا من صراخ وضجيج ومعاناة وألم. سيقرأ الطفل الذي يعيش في مجتمع لم ينعم فيه بشمس الطفولة الحقيقية وما أخوفني على طفولة اليوم مع وجود المتاح لكنها تتوارى خلف شمس المغيب…
أنا أعيش كل الأحداث-أدبيا- في وطني بتفاصيلها، ولكن بأسلوبي الخاص. كل من حولنا تكلموا بما فيه الكفاية،حان الوقت لنصوغ آمالنا قصائدا تدفع السفائن نحو الآمان. الآمان هو شعور لدني، وليس محطة لافتعال الأحداث. الأحداث التي نشاهدها في الكلمات المتضادة هي كتلة من شعور مشحون يزيد من توتر اللحظة، كل ماعلينا نحن الكتّاب أن نمتص ذلك التوتر بهالة أقلامنا التي نرى أنها تمنح فيضا من نور وأمل يحتوي كل المواقف.

> الطفولة الحاضرة بوداعة في أدبك هل يعني أن الطفولة في أعماقك مازالت عطشى للأسئلة والتبصر في الحياة بتلقائية وبراءة؟
• هو ذاك. كل منا يسكنه طفل وادع جميل يهب الحياة شيئا من العفوية. وهذا ما نجده في ردود أفعالنا أحيانا.رغم ما نتمتع به من خبرة حياتية وسبر أغوار ومواقف جعلتنا نسابق أعمارنا ونكبرها بعشرات السنين، لكنني لم أتخلص من تلك الطفلة التي تنسيني نفسي وتجعلني كفراشة أرى الحياة بألوانها السبعة، قد تنهال الضحكات من نفسي على نفسي ويغمرني السؤال المحير: لماذا لاتزالين طفلة بأسنانكِ اللبنية ؟ أتتهربين من العمر الذي يزحف ككتل الرمل دون رحمة ليحيل تلك البسمة اليافعة إلى اقتضاب يهضم عسر الحياة وثقلها.؟ ربما هروبا من ثقل المسؤوليات ! ولأن تلك الطفولة هي نسبة حرية تسمح لنا ألاّ نلقيَ بالا ولا نفكر في مستقبل تراكمت فيه التوقعات بما لايطاق.

> حديثنا عن ربيع بطعم البركوكش في توقيته وطرحه؟
• ربيع بطعم البركوكش: مجموعة قصصية متنوعة، تحمل هم المواطن الذي لم يجد بدا من الهروب حقيقة وفعلا من الشقاء، المواطن العربي حلم بالحرية وتغنى بها في أشعاره ومعلقاته وعلى ناقته وفي سيارته وعلى متن طائرته وعندما همّ بالنوم وحين يغادر الحياة تراه لم يكف عن مطلبه: الحرية ! المواطن العربي الذي قدم كل شيء من اجل ان يردد ذلك المفهوم المكون من حرفين: حر ! عاد عليه ذلك المطلب بكثير من النكسات التي أودت بحياته وبعائلته وبرغيف خبزه وبأحلامه وبشمسه.. وبفنجان قهوته وبصباحه الجميل.. حتى غدت حياته نشرات أخبار..وتفاصيل سياسية.. ومناكفات.. وحوارات جدلية.. وردود أفعال أقحمته أن يقف في كل الطوابير وعلى كل المستويات وبين كل المنابر صامتا ينتظر الإجابة.. وما ثمة من إجابة! إنه السكون الذي سيطر على كل شيء حتى صار الموت غريزة مثله مثل الغرائز الأخرى يتذوقه المواطن الذي لاشأن له بطاولة المفاوضات في فنجان قهوته! يتجرعه ولايكاد يستسيغه.
ربيع بطعم البركوكش كان هو ذاك المواطن الذي صار هدفا للجميع، حتى فاضت روحه قصيدة.. وذكرى مدونة على حوائط شوارعنا تغسلها أمطار الشتاء.. وتلفحها شمس الصيف القائظة.. عشرون قصة متنوعة بين الطول والقصر نشرت في القاهرة بدار نشر هيباتيا، يوليو 2015.. كنت آمل ومازلت أن يحظى برف في المكتبة الليبية.. وإن شاء الله أعمل على إعادة نشره داخليا أهديه لكل قرائي ومحبي حرفي.. اجتهدتُ فيه أن يكون مصافحا لكل ذكرى وكل ألم وكل حلم.. وكل إنسان ألزم نفسه بقيمة وطن. قلتُ في إهدائي ربيع بطعم البركوكش: إلى وطنٍ يُنبِتُ بالطيب والعشق، يلتمس طريقه نحو الثريا فتزهر أناشيده على أرضها. ليبيا: مهد حنيني.. عشقي.. أملي اللامتناهي.. دمي.. دموعي.. فرحي وحياتي.

> اسمحي لي بسؤال ملح بالنسبة لي وهو تكرار النوم والحلم في قصصك هل مواجهة العالم باتت قاسية إلى حد فرارنا إلى النوم والحلم؟
• الواقع الذي نعيشه تلبس بالحلم. لو تقرأ الأعمال العربية ستجد في أغلبها تورية خفية لذلك النوم الحلم. الأحلام هي حقيقة نعيشها لكننا نعجز عن تمثيلها بالأحرى تحقيقها. لقد تركزت أمنياتنا الصغيرة في صورة أحلام، حتى تلك التي نستطيع تحقيقها: صرنا نحلم بها “لو تتحقق” طموحات المواطن العربي انحصرت في الملكية: أملك بيتا، سيارة، وسائل رفاهية.. كيف تتحول هذه لأحلام وأمنيات. هذا يندرج تحت الهذيان النفسي أن نمني انفسنا بموجودات واقعية قد نملكها يوما ونفقدها زمنا ما. إذن نحن لسنا ملك أنفسنا تلك الأشياء التي نحلم بها هي تملكنا ولا نملكها بيْدَ أنها من السهل الحصول عليها دون أمنية أو أحلام. نحول المحيط إلى تمنيات تتجلى في صورة أحلام. الحلم في أعمالي هو تفسير لواقع حقيقي تجسد في الحلم.

> حدثينا عن بني وليد البلد الأصيل والجميل و“ناسه” المعروفين بالشهامة وعن الأدب فيه وعن الحياة الثقافية؟
• بني وليد: مدينة الطبيعة الخلابة الملهمة للشعراء والأدباء، فيما لو تم استثمار موقعها الاستراتيجي المطل على “وادي البلاد” الملتف التفاف السماء بالبحر والصحراء. حيث يمتد جسر الطبيعة الخلاب ليرتبط بإلهام الأدباء والشعراء والمفكرين وأهل النخب الثقافية الذين يقدمون بلا مقابل من أجل النهوض بالثقافة والأدب في بلادنا…
كما تعلم أن الحالة العامة التي تمر بها ليبيا قد تسببت بعض الشيء في ركود كثير من المؤسسات الثقافية التي تحتاج إلى الدعم الحقيقي لتقديم نهضة ثقافية ذات أبعاد أدبية فكرية ثقافية تدعوها الضرورة الملحة. امتازت بني وليد أدبيا بالشعراء، وكانت لها ريادة مستحقة في هذا الفن العربي الأصيل الذي هو فن الشعر…
بني وليد اختلطت فيها البداوة بالحاضرة، وكان الطابع الأدبي فيها (الشعر الشعبي)، إلى جانب شعراء الشعر الشعبي،كان الشعراء المتميزون بالشعر العمودي الفصيح. كما ازدهرت في مدينة بني وليد حركة ثقافية تجسدت فترة من الزمن في إقامة مناشط متنوعة لمعارض السياحة والتراث والفنون، ومعارض الكتاب الذي تنوعت مواسمه وأشرفت عليه جهات تنفيذية آنذاك -قطاع التعليم- وأقيمت على هامش معرض الكتاب الأول2017 بإشراف مراقبة التعليم حينها، ندوة أدبية ثقافية شارك فيها نخبٌ من أدباء وكتّاب وشعراء…
باختصار حتى لا أغمض حق بني وليد الريادي كان للمهرجانات الثقافية كمهرجان الطفولة وتجسيد مسرح الطفل، ومهرجان بني وليد السياحي، وغيرها من الأمسيات الشعرية والأدبية دور فعّال أبرز دور الكاتب والمثقف من خلال مسيرته التي لا تنقطع ولا تتوقف رغم المحن، وهناك محاولات حقيقية تسهم في دفع عجلة البلاد الثقافية والفكرية، لولا شح الإمكانيات المادية التي تساعد على تحسين الجانب الثقافي في إيجاد ما نقترحه دوما ويقترحه أهل النخب في بني وليد كتأسيس صالونات أدبية، ومراكز ثقافية.. ليست لصف الكتب أو الأعمال، بل لإدارة جلسات حقيقية وقراءات أدبية ونقدية في مواسم تعقد لمدارسة فن الأدب وتوظيف الخيال وتوجيهه…
وفي المجال الإعلامي كانت صحيفة أخبار البلاد تشقها طريقها وبقوة لترسم معالم الثقافة على ضفاف البلاد: فكانت ملمة بالجوانب الثقافية والفكرية والاجتماعية، وكان لأدب الطفل وقصته مساحة ثرية على أخبار البلاد..إلى جانب أقلام المستقبل من المبدعين الشباب. فكانت الصحيفة بمثابة المحتوي لكل الأقلام والآراء والأفكار خدمة وإثراء وعطاء.

> أشعر باقتراب أسلوبك الأدبي من جبران خليل جبران خاصة ومن أدباء المهجر عموما طبعا بمناخ وإحساس ليبي؟
• قد يكون هناك نقطة التقاء في بعض الأساليب الأدبية من شعراء المهجر. فأدباء المهجر عانوا الغربة في أوطانهم قبل أن يعاينوها على حقيقتها في تلك الدول التي هاجروا إليها فانسابت أعمالهم الأدبية من عمق الروح تحكي وترسم تلك المعاناة في اللجوء إلى الطبيعة الخلابة فكان البحر والليل والشتاء الممتد والهجران والعواصف والمساء وغيرها مما شكل رمزيات يبوح من ورائها أدباء تلك الفترة بكل ما يحتدم في نفوسهم من معاناة. يتجسد الالتقاء أيضا في تنوع الأساليب لدى جبران.. فهو لم يتوقف أو يتسم بلون معين؛ كتب كل ما يروق له من خواطر وقصص وحكايات أيضا انطبع فنه بالأسلوب الفلسفي الذي تميزت به أيضا بعض أعمالي.

> الأديب حالم بطبعه فأين يمتد حلمك؟
• الجميل في الحلم أنه بلا حدود.. وما يؤسفني في شخصيتي أنني حالمة.. لهذا كثيرا ما أصاب بالعثرات في واقعي. وسرعان ما أجد توقعاتي تخالف حقيقة ما أعيشه..وهذا لاينفي أننا واقعيون نعمل من أجل تحقيق طموحاتنا التي صار جزءا منها على سطح المجتمع والآخر خلف أبواب الأحلام الموصدة.

> في شعر الهايكو وفي قصة الومضة هل يقدم الاختصار الشديد متعة للقارئ في تقديرك وأنت أحيانا تكتبين نصوصا شديدة الاختصار؟
• ليس بالضرورة، وأنا أعي أن القراء أذواق ومسافات وأفهام. النص القصير المختصر فيه الكثير من الدلالات والرمزيات المختزلة، والقارئ المحترف سيستطيع معرفة وجه واحد من عدة أوجه لنص قصير للفنون المتنوعة التي تمتلئ بها الساحة خاصة في الفترة الأخيرة التي وجد فيها كثير من الأقلام ضالتهم المنشودة بصياغة فكرة صغيرة تجسد كل ما يودون قوله في لحظة من زمن قصير وألفاظ ذات معدود معين.. وتكتل رمزي ضخم يعطي أكثر من وجه للحالة المرادة…
قصة الومضة هي إحالة عالم كبير إلى معنى تليه نقطة. الومضة هي أن تعطي الكثير في لفظ يسير وهي بلاغة الحال ورمز المحال. وأنا من المحبين لهذا اللون الذي يرى فيه كثير من النقاد المحافظين تمردا على نص محكي بكيفياته المعروفة، حيث البلاغة العربية امتلأت بالقول الوجيز في المعنى الكبير وهو ليس مستحدث بل يضاهي فن البلاغة في إيجاز العبارة وتوسع المعاني.

> سؤال بات تقليديا جدا ومهم جدا، أما زال الشعر ديوان العرب؟
• نعم. مازال ديواننا حتى هذه الساعة؛ فهو الضرورة التي نلجأ إليها حين تحتدم المشاعر وهو الكتاب الذي يفصل وجداننا عندما يغيب الشعور في زحمة الحياة. ومازال كما عرفناه منذ زمن المعلقات حتى زمننا هذا.. فالشاعر يحكي ويقص مستعملا كل أغراض الشعر من المدح والفخر والوصف والغزل والرثاء والحماسة والزهد وغيرها من أضرب الشعر، فهي مازالت متمثلة إلى الآن في موسوعة ضخمة ترسم مالم يستطع قوله التاريخ، وقاله الشاعر في أقل من برهة.

http://tieob.com/%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%b9-%d8%a8%d8%b7%d8%b9%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%a8%d8%b1%d9%83%d9%88%d8%b4/

مقالات ذات علاقة

النقد الليبي .. النظرية والموضة النقدية

عبدالسلام الفقهي

في حوار مع الشاعر ‘‘صالح قادربوه’’: النقد في ليبيا وجوده غير فاعل. وليس لدينا صحافة ثقافية جادة ولا محافل نقدية

المشرف العام

سمية الطرابلسي : في الشعر أجد ذاتي الحقيقية

مهند سليمان

3 تعليقات

محمد ناجي 20 أكتوبر, 2019 at 13:31

بالتوفيق والسداد ان شاء الله الكاتبة والاديبة سعاد الورفلي قلم ليبي نسوي مميز له نكهة خاصة وعبق الأصالة ينضح من الحروف برائحة جميلة . . تحياتي

رد
Yaso 6 سبتمبر, 2020 at 02:24

اجمل التحايا يا بنت سيدي ..مميزة الكتابات و رقيقة الكلمات

رد
المشرف العام 6 سبتمبر, 2020 at 05:41

نشكر مرورك الكريم

رد

اترك رداً على Yaso