سالم قنيبر
2)
وتحطم القفل.. وأخذ الله تعالى صاحبه باقتدار مستخلصا في بضع من آخر ساعات حياته نكال الآخرة والأولى من أفعاله…. قدم الشاعر لقصيدته بتمهيد نثري أشار فيه إلى المحيط الذي سينتقل إليه القارئ، وإلى المكان المقبض المخيف الذي يأخذه إليه. والقصيدة سميت بالقفل. والقفل الرمز الكريه لكل ما يعبث بقيم الوجود الإنساني، ويعترض تطلعاته، ويحتجز حريته، ويتعرض له – بفعل الخصوصية الموكلة إليه -ببالغ الإيذاء، ويعمل- بفعل القدرة الممكنة له- على الإساءة والإذلال والتحقير. وكان القدر الذي ألقى براشد الزبير وطوح به سجينا طوقه القفل، وكان القدر ذاته الذي أراد لراشد وأوكل له تـأْريخ ما يحدث داخل وحول زنزانة رافقت الوجود المعاصر لأفضل النتاج وأهم القادرين على حسن العطاء… ويظل هذا القفل أبرز معالم السوء، وأكثر مظاهر الضرر التي ألمت بتتابع الأجيال التي عاشت في ظل تسلط سلطة صاحبه.
المشهد الأخير في موضوع هذه (الملحمة-القصيدة). هو أول المشاهد التي تطالعنا… القفل اللعين الذي كان بطل السوء وأداته، ملقى صريعا على الأرض ذليلا مهزوما، وقد جرد من أسباب القوة التي كان يبطش بها ويمارس طغيانه ووحشيته من خلالها. ينظر إليه هذا الذي كان قبل قليل ضحية قهره وجبروته، ينظر إلى وجهه (الكالح، المتحجر، البليد) في ازدراء وشماتة وحقد واحتقار، ويشير أو هو يخطر بباله ما كان عليه هذا الوضيع من تحكم وتفرد بمتنوع وسائل القهر والإيذاء. (*) (القصيدة تم نشرها في موقع ليبيا وطننا بتاريخ الجمعة 16 أكتوبر 2009.. أي قبل قيام ثورة التحرير بما يقارب العام والنصف).
ويعود الشاعر في المقطع الثاني – يعود بنا إلى الوراء (أعود للأمس وليس الأمس ببعيد – أطوي سنينا وجهها لطخها الصديد). وهو هنا يخبرنا بأنه يستحضر أحداث هذه التجربة القاسية بعد مرور زمن علي الخلاص منها، أي أن هذه القصيدة لم تكتب أثناء وقوع أحداثها.
خمسة عشر عاما أو يزيد، عمر تجربة راشد المرعبة المهولة، أخرجته عن مسار الحياة العامة لمجتمعه الذي كان يعيش فيه، وطوحت به… ألقته في غياهب زنزانة موحشة تبعث جنباتها بكل أصناف المكاره. ويتحكم القفل الوضيع في وقائع ما يلم به ويتعرض له من مصير… كان شابا استوى نضجه، وكان شاعرا تدفق عطاؤه. وكان رائدا ضمن جيل يرتجى للوطن منه النفع الكثير.


وها هو يعود الآن بعد غيابه الطويل إلى أهله، إلى رفاقه، إلى مجتمعه ومدينته ليصل ما انقطع وليبدأ من الحين الذي تولاه فيه ذلك القطع. وقلت في نفسي متسائلا بعد أن التقيت براشد… عقب الإفراج عليه وخروجه من السجن..ترى هل من المناسب أن أسأله عن معاناته أثناء الاعتقال، أو أن أسأله عما وجد عليه مجتمعه وما طرأ عليه من التبدل بفعل ما تعرض له وما حدث من التغيير… وأحجمت قلت ليس من المستساغ نكأ جراح لم تندمل. أو استعادة وقائع تبعث الأسى وتثير الشجون. ولم يكن آنذاك قد مر على إطلاق سراحه غير وقت قصير… وبدون توجيه سؤال مني قال.. “إنّ أبلغ ما قلته من شعر هو ذلك الذي قلته في السجن، وأن المحنة التي تعرضت لها بقدر ما هي عليه من السوء إلا ّ أنها قدمت لي من اتساع المعرفة وعمق التجربة الشيء الكثير.” وعند إطلاعي على مقدمة (القفل) ) النثرية استبنت أنها من ضمن ما قاله آنذاك…. ويعود إلى الوراء مفتتحا وقائع الحدث المأساة… إلى سنين ماضية ليستحضر موضوع القصيدة وليخبر عن تفاصيل مجرياتها. ويطالعنا المكان… موقع الحدث، الزنزانة بجدرانها المطبقة، والكوة الملتصقة بسقفها، بابها الحديدي الموصد، وذلك الحارس الشرس القابع أمامه، المليء بالحقد والكراهية، الموكل إليه القيام تجاه السجناء بأبشع الأعمال…. (“إسحق وحطم كل من يرفض ما نريد”).
(بورتو بنيتو) القديم بسوء الذكر،… الحديث بذات الفعل، وما يرتكب فيه من الجرائم وما يتعرض له من بالغ السوء….المعتقلون بداخله أولئك الشرفاء الذين عملوا على مواجهة الظلم، ورفضوا الانصياع لممارسات الطغيان. ويتصاعد بين جدران زنزاناته أنين الموجعين وآهات المقهورين، وتسيل الدماء من جروح المعذبين. ذلك هو المكان الذي من خلال بوابته الكئيبة نعبر إلى ما يدور بين جنباته.. وحيدا ملقى داخل زنزانة يرتعش من البرد ويعبث به الخوف، مفتقدا لرفاقه الذين شاركوه المصير. مفتقدا لذاته… مفتقدا قيمة وجوده… يطوح به من زنزانة إلى أخرى. ولا أحد منهم من هؤلاء الذين وقع بين أيديهم يشغله حقيقة ما وقع، أو يعنيه من هو، أو ما هو الشأن الذي أودى به إلى هذا المصير. تطالعه منهم نظرات حاقدة، مليئة بالكراهية، يتربصونه بالإيذاء، ويصدر عنهم في تجمعهم ما ينبئ عن تدبير مكروه ما يلبث يوقع عليه (” كانوا فلول غابة.. تبحث عن ضحية.. وكلهم مخلبه ينهش في بقيتي”).
وهو هنا مع ما يحيط به من عوامل الرعب يقبع في زاوية الزنزانة موثق اليدين مكبلا، يغمره الخوف، يتوجس خيفة مما ينبئ عن اقتراب أحدهم من الباب، يحمل معه الشر ويقوده إلى المهانة، ومنتهى ما يرجوه أن يظل الباب مغلقا يحول بينه وبين زوار السوء ويبعده عما يلاقيه على أيديهم من صنوف العذاب. لكن ما يخشاه لا يلبث أن يقع وها هو الحارس البذيء يقتحمه بالسباب والإساءة طالبا مثوله عند المحقق.. صائحا” (واصمت كما تشاء فالعصا ستنطق”).
وفي الطريق وقبل أن يصل إلى أولئك المقررين ويداه مكبلتين بالقيود، تستغرق رحلته من الزنزانة إلى حجرة المحقق ثلاثة فقرات من القصيدة المطولة، يصف فيها مشاعره المبعثرة تجاه ما واجهه من الضرب والركل والمهانة والبذيء من الشتائم والسباب إعدادا وإرهابا للبوح بما قد يكون خافيا في التحقيق.
ومشهد مأسوي موجع مهين، داخل حجرة التحقيق، ثمانية من الغلاظ قبل توجيه سؤال إليه، ينهالون بسياطهم وعصيهم عليه (“حتى غدت ملابسي من الدماء قانية”،) يستلمه بعدهم ثلاثة من (الطغاة)، يعملون على استخلاص الاعتراف بتهم(الخيانة والعمالة)، مسرفين في توحشهم، مبالغين في إيذائهم، أولئك (الحثالة) من سقط البشر مارسوا ما عهد إليهم، وهم بما كانوا يقومون به (“يسفهون قيمة رفعتها تذلهم.. ويكتمون يقظة ليستريح ربهم“).
وبمثل ما اقتيد به، أعيد إلى زنزانته، وابتعد حارس الشر.. ليستمع إلى طرق جاره يستفسر في إشفاق عن حالته، وآخر يسأل عما على أيديهم ألم به. وقبل أن يتمكن من الرد، كانت الجلبة أمام الزنزانة التي يفتح بابها، وصوت عربة نقل الفضلات ومن حولها من الشذاذ يطلبون الإسراع بقضاء الحاجة مهددين متوعدين. ذاك.. وذاك… وذاك…، وجميعهم يباشره باللعن والسباب وبذيء القول.. (“وذاك إن مر بنا يصرخ أدعى الأحــــــــــرف“).
(الأحرف – الأكثر شراسة والأشد إيذاء) وحل الليل.. وساد الظلام، ووجد السجين في عتمته ما قد يحجبه عن الأذى، ويبعد عنه أدوات القهر والتعذيب، فاستكان إليه ملتجئا إلى الخيال لينقله إلى أهله و(مرابع قومه). ويبتعد به عما هو غارق فيه… ولكن، وفجأة.. (“لكن صرخة هنا تعود بي لواقعي“).
وها هو يعود، ذلك المكتسي وجه الشيطان، لم يكفه إسرافه في الإيذاء وفعل الشر طوال اليوم، جاء يتقد غيظا، ويتنفس حقدا، مفصحا عن معطيات نفس خربة عبث بها النقص ممتلئة بالكراهية والعداء. جاء ليمعن في العبث، ويستزيد في التسلية (“من الذين انغرسوا في عتمات الأقبية”).. وعنده أي عند دلك الزائر ليلا يقول الشاعر (“فرؤية الغارق في العناء مغرية“).
وتمر الأيام، تتلوها الشهور، وتتعاقب بمكوناتها السنين، ويظل ما يدور في الأفق خامدا دون حرك، وتظل الملاحقة تنال الرافضين. ويغمره في عزلته الحنين إلى الأهل، ويتسع الشعور عنده بافتقادهم. ثلاثتهم الذين خلفهم وراءه، كبيرهم الذي لم يتجاوز السنة، وصغيرهم الذي يحبو، لم يكن تركه لهم مختارا، ترى ماذا كان سيئول إليه أمرهم لولا العناية التي سخرها الله لهم وافتقدها الكثير ممن هو في مثل حالهم.
ومن الانشغال المباشر الخاص إلى قضيته العامة التي أودت به إلى ما هو فيه، وتلك السنين يتوالى تتابع مرورها، ويظل (“الـــجدار” )… قائما ولا جديد مما يذكر ويتردد بأكثر مما يلقى من الحديث الصاخب ويستخلص من الطرح الساذج.
وأولئك (“الغفـــــــاة”).. من الناس يتلفتون حولهم، (“يندبون حظهم”).. (“ويشتمون خلسة”).. من ضيع وجودهم، ويلقون باللوم ويوجهون الاتهام إلى من غرر بهم، ويتحرك الخوف في نفوسهم، ويتوجهون إلى المواربة والنفاق حينما يشكون بينهم في وجود من يمكن أن ينقل حديثهم. (وراقص على الحبال…)… في الجموع التي حشرت هو ينادي،… حشد يتلوه حشد،… وأيام مفتعلة للزينة ومواكب،… حلم الحياة، ونعيم الأرض، والقدرة المتفوقة، والطريقة المثلى. الاستخفاف والتغرير المصاحب بالهياج والصراخ….. (القذافي).
ماذا فعل القفل وماذا خلف عند جموع الناس؟.. ضيق عليهم، وأشاع الرعب عندهم وزرع الخوف في نفوسهم، ونشر اليأس بينهم. من أجل أن يتفرد بالرأي ويتسنى له البقاء، أغلق منافذ الفكر.. أخمد العقل،.. أخرس الألسن.. أوثق الأيدي والأرجل.. بث الأعين.. دس النقلة. ونصب الأعواد. فتوارى الناس خوفا، وتراجعوا حذرا.. (“ذلك ما قد صنع القفل وما قد وهب”.).. وتطول القصيدة، ويتسع المدى أمام القول مستغرقا للعديد من مظاهر ما ألم بالناس على يد القفل وألحقه بهم من العناء. يحاور القفل ويبدي رأيه ويستمع إليه. ويتوقف الشاعر أمام ما هو قائم ويتفحص العديد من الرفاق والمعارف، ويرى ما يدور في نفوسهم التي عبث بها الخوف وما استقر فيها من الأسى والألم، فتتطلع نفسه إلى المواجهة، وتنطلق للإفصاح عما أحجم الآخرون خوفا عن التعبير عنه.
(“قلت أيا نفس أجيبي إن سواك اعتذرا.. وتوارى فرقا كي يتوقى الخطر) فكانت الاستجابة وكانت هذه القصيدة وكان حديث القفل المثير لكوامن الشجون، وكانت المشاركة….. والسلام على راشد وآل راشد.