الكاتب يوسف القويري
المقالة

من مفكرة عالمٍ لم يولدْ

بوابة الوسط

”إن قراءة الخيال العلمي أمر لازم للمستقبل“ مفكر المستقبليات (ألفن توفلر)

• الخيال العلمي كخيال الظل

طالعت أول العمر في مجلات الأطفال القصص المشهورة من الخيال العلمي: “نوع أدبيّ أو سينمائيّ تكون فيه القصَّة الخياليّة مبنيَّة على الاكتشافات العلميَّة التأمليَّة والتغيّرات البيئيّة وارتياد الفضاء، والحياة على الكواكب الأخرى”، ومن المجلات تلك مجلة “سوبرمان” المؤسسة على الخيال العلمي ثم ما نشر في مجلة “سمير” وما في حكمهما من مجلات. ومارست كممثل ولاعب في تلك الطفولة خيال الظل: “فَنٌّ مِنْ فُنُونِ التَّمْثِيلِ يَعْتَمِدُ عَلَى إِظْهَارِ الخَيَالِ مِنْ خَلْفِ السِّتَارِ”، حيث كنت أيضا كاتب القصة والسيناريو، وكان ذلكم في بيتنا ومع أطفال الجيران، ومن هذا لم يخطر في بالي تضاد بين الخيال والعلم، ما جئت مسلحا به لقراءة الآداب والفنون التي تحتوي على أساس علمي ما مضمر أو ظاهر، فالموسيقى مبنيةٌ على علم الأصوات، والرسم على علم التشريح، وهكذا كانت جدتي تُسرب عبر مسروداتها لي الخبرات الإنسانية العلمية المتوفرة في ثنايا الحكي والأحداث، ومن هنا امتزج العلمُ بالخيال.
وإذا كانت قصة “رحلات غوليفر” المنشورة في عام (1726) للكاتب الإنكليزي جوناثان سويفت، تعد واحدة من أوائل أعمال أدب الخيال العلمي، فإن شيئا من الخيال العلمي المتوفر في العصر الروماني يمكن رصده في “الجحش الذهبي”، رواية لوكيوس أبوليوس125 – 175م تقريبا، والتي تعتبر أول رواية في تاريخ الإنسانية وصلت كاملة، كذلك رواية “حي بن يقظان” للفيلسوف ابن طفيل. ما أعنيه أن الإنسان المشغول بالمستقبل المرتكز على الخيال، قد تأسست مسروداته مبكرا على علاقة ما بين الخيال والعلم. خاصة وأن البشرية لم تعرف الفصل بين العلوم والفلسفة والفنون، إلا في فترة متأخرة لا تتعدى القرن التاسع عشر.
لقد كان الخيال دائما الفرس الجموح فيما العلم اللجام، ومع التطور العلمي المميز للقرن التاسع عشر فالعشرين ظهرت رواية الخيال العلمي، خاصة مع هيمنة الصحافة، وبدأت هذه الرواية مع الرواية البوليسية كوسيلة تسلية حديثة قبل ظهور السينما والتلفزيون، وفي المجتمع الرأسمالي الأوربي أمست وسائل التسلية سلعا رائجة، فانتشرت سلاسل الروايات في طبعات شعبية شائعة، التي عبر الترجمة انتشرت في العالم، وزاد انتشارها تحويلها إلى أفلام سينمائية فمسلسلات تلفزيونية.

• أدب ليس من الأدب!

رغم أن نظرية الأدب لم تهتم بالرواية البوليسية فالخيال العلمي بشكل معقول، فإن هناك كتابا مبرزين كتبوا في هذين المجالين، مثل أدجار ألن بو القاص الأمريكي المميز. وقد بقيت هذه النوعية من الكتابة على الهامش في الغرب ككتابة شعبية وللمتعة والتسلية ولم تعد من متن الأدب، وهذا ما حصل في العالم وبالتبعية تقريبا.
لهذا أيضا في العالم العربي لم ترُج الروايات البوليسية والخيال العلمي إلا من خلال تراجم تجارية ومن دور نشر غير شهيرة، مع استثناءات وفي فترة متأخرة، فمع نهاية النصف الثاني من القرن العشرين بدأ اهتمام عربي بروايات أجاثا كريستي و أدجار ألن بو، وكذلك ما يكتبه جول فيرن وهـ. ج. ويلز. ومع هذه الترجمات بدأت كتابات أولية في هكذا مجال، فمترجم (آلة الزمن) المصري محمد فريد أبوحديد الذي كان يعمل في ليبيا، كتب رواية في الخيال العلمي (البقعة الخضراء) في الستينات عن صحراء ليبيا عام 2000، لكن لم تذكر في متن مؤلفاته، وقد أعيد نشرها في ثمانينيات القرن الماضي بمجلة اتحاد الكتاب الليبي (الفصول الأربعة).

الكاتب يوسف القويري
الكاتب يوسف القويري.

• من مفكرة يوسف القويري

الكاتب والمبدع الليبي يوسف القويري سيتخطى هذه العقبة ويكتب رواية مميزة في المستقبليات، رواية خيال علمي (من مفكرة رجل لم يولد) عام 1965م عن عام 2565م، مبنية كما يوميات تكتبها الشخصية الرئيسة، وقد نشرت حينها كيوميات في صحيفة (الميدان)الليبية بين عامي 1966-1968م، ونشر مختارات من هذه المفكرة في نفس الفترة بمجلة صباح الخير المصرية، ما ضمه الصحفي المصري عبد الله الإمام في كتابه (الشارع الطويل) عن رحلته إلى ليبيا.
وكتب الروائي المصري عبد الله الطوخي سنة 1972 مقالة وصف فيها “من مفكرة رجل لم يولد” بأنها رحلة إنسانية عظيمة نحو المستقبل. وفي سنة 1973م أذاعت محطة “بي بي سي” باللغة الإنجليزية مختارات من هذا الكتاب. وحذت حذوها الإذاعة الفرنسية في نفس السنة، فأذاعت يوميات مستقبلية من هذا الكتاب باللغة الفرنسية. ومنذ ثلاثين سنة تقريبا قامت المستشرقة البولندية Eva Machut-Mendecka أستاذة كرسي الآداب الشرقية بالجامعة في العاصمة البولندية بمطالعة الطبعة الأولى من كتاب “من مفكرة رجل لم يولد”، ثم كتبت حوله دراسة تحليلية نشرتها في ذلك الحين، و قد وردت الإشارة إلى تأريخ تدوينها التحليلي في إحدى محاضراتها القيمة. وقد ترجم مستشرقان تشيكيان مختارات “من مفكرة رجل لم يولد” ونشرا ذلك في كتاب عن الآداب العربية بعدما أضافا إليه دراسة عن المفكرة.
وأما الكاتب الليبي محمد الفقيه صالح فيوضح أن ما دفعه إلي الكتابة عن “مفكرة يوسف القويري” عدا عن ألأسلوب الممتع، “كون القويري يؤسس لثقافة تتجه للمستقبل وتشتغل به، في الحياة الأدبية والثقافية المعاصرة إضافة إلى ما ينطوي عليه الكتاب من خيال طليق، ومن فكر نقدي للمجتمع والثقافة في ليبيا، ومن احتفاء بالعلم في بيئة ثقافية غير مكثرته به“.
إن يوسف القويري روض “صحراء سرت” في روايته المُستقبلية “من مفكرة رجل لم يولد”، جعل لحوضها بحيرة عذبة، تمخرها مراكب برمائية تطير أيضا عند اللزوم والسكان يسكنون بين الأرض والسماء، لم يكن يكتب ذلكم في مطلع العقد السادس من القرن العشرين، بل عاشهُ كفنان مبدع فترك لنا مفكرته لما جرى له عام 2565م.
فإذا كانت رواية الخيال العلمي قصَّة خياليّة مبنيَّة على الاكتشافات العلميَّة التأمليَّة والتغيّرات البيئيّة، فإن (من مفكرة رجل لم يولد بعد)، هي تلك الرواية المبكرة التي صيغت في إطار مستحدث وسياق غير تقليدي، فهي كما مفكرة تحتوي يوميات، تسرد في صيغة تسجيلية يوميات عالم وأسرته الصغيرة الزوجة والإبنة، والعلائق بين أفراد هذه الأسرة لكن في إطار مُتخيل لمستقبل بعيد، في إطار طوبائي لدور العلم الحاسم في تشكيل ذلكم العالم، وفي هذا فإنها الرواية المتميزة ما كان لها السبق والانفراد.

مقالات ذات علاقة

البعد الابستمولوجي والأخلاقي للذكاء الاصطناعي

المشرف العام

الاستقالة من القصيدة.. نحو شعرنة الوجود…!

مهدي التمامي

ما هي الحياة؟

مفيدة محمد جبران

اترك تعليق