الكلمتان ليستا عربيتين .. البولمن يبدو أنها كلمة إيطالية وتعني في لهجتنا الدارجة : الحافلة الكبيرة .. والبوسطا أيضا كلمة أجنبية تعني : البريد .. مازلت أذكر مواعيد البولمن في قريتنا التي خطفت روحي بسحرها وتألقها .. لدى ذاكرتي ألف إضبارة مليئة بوجود تفاصيل قرية مسة ” أم الداليا” بسكانها ومبانيها وبساطتها .. قلت لكم مازلت أذكر حكايات عن مراتع الطفولة .. كنت مغرماً بالمراسلة .. وكنت أعرف مواعيد وصول كيس الجوابات كما يحلو للبعض أن يطلق عليه .. أو البوسطا كما كان يعرف آنذاك .. كنت مدوزناً على موعد وصول البولمن الذي كان يقل الركاب من الشرق إلى الغرب وبالعكس .. كان البولمن مكتظاً بالمسافرين .. على تمام الساعة الحادية عشرة من كل يوم يقف البولمن على حافة الطريق قادماً من جهة الشرق .. ينزل الركاب لتناول القهوة والشاي المنعنع .. بلا ازدحام أو تدفق فوضوي .. في مقهى الحاج إدريس القرقري .. كان القهواجي المغفور له ” اكوارطه” يتقن صنع القهوة على كانون الفحم وهو مغمض العينين .. لعل قهوة ” اكوارطة” كانت الأشهر تلك الفترة على طول الطريق الساحلي .. كان هو الآخر يدرك مواعيد توقف البولمن قبالة المقهى .. كان الوقت المخصص لتسليم كيس البوسطة المحمل بالرسائل والطرود والأظرف المحشوة بمجلات قادمة من الخارج كمجلة ” العربي” التي كنت مشتركاً بها لا يتعدى العشر دقائق .. .. يترجل المسافرون لتناول أكواب الشاي وفناجين القهوة .. لم تكن المكياته أو الأكواب الورقية معروفة وقتئذ .. كان منبه البولمن مميزاً .. يطلق صوتاً عالياً معلناً صعود الركاب إلى مقاعدهم كي يواصل رحلته إلى بنغازي .. في اليوم التالي وعلى تمام الساعة الواحدة ظهراً يعود نفس البولمن ليقف في المكان المعتاد ليسلم ويستلم البوسطا ..
أذكر أنني وعندما تحصلت على الشهادة الثانوية العامة سافرت إلى بنغازي على متن البولمن .. ركبت بنصف ثمن التذكرة .. ثلاثون قرشاً فقط .. لأنني متحصل على بطاقة طالب أبرزتها للكمسري .. كنت ملتزما بوصايا والدتي .. وورقة صغيرة دسها والدي في جيبي .. رسم عليها خريطة الخياط المشهور في شارع بالروين ببنغازي .. كانت رحلة طويلة .. لكنها ممتعة .. يتوقف خلالها البولمن في كل منطقة وقرية ومدينة بها مكتب بريد .. وبالطبع بالقرب من مكاتب البريد مطاعم ومقاه .. ورغم أنه لم يكن التدخين ممنوعاً إلاّ أنه ليس من الذوق إشعال السجائر داخل البولمن .. دون وجود لافتة .. أو أن ينهرك السائق أو المساعد بمنع التدخين .. يبدو أن الإلتزام كان فطرياً .. كانت تلك الرحلة تشمل مزيجاً من طبقات المجتمع المختلفة .. من سياسيين وفنانين وعشاق النكتة ..وتجار ومرضى .. وعرسان ..
كانت رحلتي إلى بنغازي من أجل تفصيل بدلة كي أدخل بها للمرحلة الجامعية .. مازلت أذكر أنني دفعت ثمنها من الجنيهات (17) لا غير .. ومازلت أذكر نوع قماشها ” التريقال” ولونها البني .. ومازلت أحتفظ بها إلى هذا اليوم على سبيل الذكرى .. وكأنها فصلت بالأمس ..
أعود إلى البوسطا .. حيث كان ” سي مؤمن” يقوم بفرز الرسائل ومن ثم توصيلها إلى أصحابها على دراجته ” القوموقراسو” كما كان يقوم بتوقيع المرسل إليهم بالاستلام ..
كان كل شيء بسيطاً يسير وفق نظام دقيق .. هل تعرفون السبب ؟ السبب هو ما نفتقده اليوم .. قليل من الأمانة والثقة والحياء والإخلاص .. فلا أحد يتأخر عن موعد انطلاق البولمن .. ولا أحد يجرؤ على التدخين داخل البولمن .. ولا يتوانى موظف البريد عن توصيل أمانات الناس في حينها .. ولا يتأخر البولمن عن موعده .. ولا القهواجي يستطيع غش القهوة .. بالمختصر لا أحد يخون الوطن .. !!
المنشور السابق
المنشور التالي
مقالات ذات علاقة
- تعليقات
- تعليقات فيسبوك