المقالة

الإخوة الأعداء وليلى

فرج عبدالسلام

تمتلئ كُتبُ التاريخ بأخبار صراعات الأخوّة الدمويّة، التي رُبما دشنها لأوّل مرة قابيل ضد هابيل، لتكرّ السبحةُ، كما يُقال، وتصل بالطبيعةِ إلى ربوع بلادنا “اليتيمة” إن صحّ وصفها بذلك، لأن اليُتم في الغالب هو فقدُ أحد الأبوين أو كليهما، إلاّ أننا بحولِ فكرنا الشاذ، لدينا بَدل الحكومة اثنتان. وينطبق الأمر نفسه على البرلمان، ولسخرية القدر لدينا جيشان أحدهما الوطني الذي يصرّ على إقران تسميته بالعربيّ، بينما يبدو أن الجيش الآخر المعادي له لم يرَ أهميّة لذلك. ومع ذلك يبدو أنّ هذه الوفرة في مؤسسات الدولة، أم يتعيّنُ أن أقول “الدولتين” كانت وبالا على ليبيا وأهلها، فصار انطباقُ توصيفِ الإخوة الأعداء مناسبا تماما هنا.

ربما يستحقُّ منا هذا الصراعُ المؤلمُ الوقوفَ عنده، وفحصَ دوافعه ومآلاته. حيث تطرّق التاريخُ الليبي القديم إلى مثل هذا التنافس والصراع، وذكر قصة الأخوين فيلليني. لكن من الواضح أن الناس في ذلك الوقت كانوا أكثر حكمة ورقيّا، وأوفر عقلا، من ليبيي الزمن الراهن في إدارة الصراعات بينهم، حيث لجأوا إلى فكرة سباقٍ يقوم به عدّاءان لحسم الخلافات بين المعسكرين، ومن هنا جاء ذلك القوسُ الشهير بين برقة وطرابلس الذي هدمه القذافي بحجة توحيد البلاد، من خلال اعتراضه على رمز تاريخي بين شرق وغرب ليبيا، بالرغم من أنّ أفعالَهُ اللاحقة دلّت على غير ذلك، وأنّه زرع كمّا هائلا من بذور الشقاق طوال سني حكمه، هو ما نحصده الآن من خلال هذه الملهاة الليبية، وهذا العبث الأهبل.
في ما أظن، فقد تسللت إلينا فكرة صراع الإخوة بشكل واضح ، من أيام سطوة الإمبراطورية العثمانية على مناطق واسعة، من ضمنها ليبيا، التي عُرفت آنذاك بطرابلس. ومن الثابت تاريخيا أن السلطان العثماني “محمد الفاتح” هو من سنّ ذلك القانون الغريب.. “قانون قتل الإخوة” بسبب الهزيمة التي تلقاها على يد القائد الشهير تيمورلنك في معركة أنقرة وما أعقبها من فوضى. كذلك لا يخفى على أحد حفلات الذبح، ومؤامرات القصور التي كان يقيمها الولاة والحكام في ليبيا لإخوتهم من أجل إبعادهم من المنافسة والاستئثار بالسلطة..
في روايته الشهيرة “الإخوة الأعداء” خلّد الكاتب الشهير نيكوس كازانتزاكس، أحداث الفتنة الداخلية في قرية يونانية خلال الحرب الأهلية في أواخر أربعينات القرن الماضي. ولا يملك المرء إلا الشعور بالألم عند قراءة الرواية التي تحوّلت إلى فيلم سينمائي، حيث ترى الأخوة وقد أصبحوا أعداءً بعد أن لفتهم لعنة الفتنةُ والكراهية بردائها ، وتتحدث الرواية عن الحرب بين الشيوعين والدولة فى اليونان وأنصار كل منهما.

ومع اختلاف الزمن والأسباب تبدو الليلة كالبارحة… فالصراعُ نفسُه على أشدّه بين الإخوة الأعداء من الليبيين، حيثُ الكلُّ يدّعي الوصل بليلى. لكن ليلى المسكينة هذه تسقط في النهاية، وتتأذي بين سنابك خيول المتقاتلين على الفوز بحبها، وفي سبيل ذلك تراق دماءٌ شابة، بريئة في معظمها. فالمتصارعون لا يريدون الاحتكام لصوت العقل، لأن الإرث الدموي القريب لحقبة الاستبداد والحكم العسكري قد تغلغل في نفوسنا، كما تغلغل واستحكم ذلك التيّار الذي يدّعي الحديث باسم السماء، وكذلك لأن النخب والقيادات السياسية التي ظهرت فجأة بعد فبراير العظيم، ظلّت مرتهنة لذلك الماضي القبيح الذي منعها من الوصول إلى رؤية بانورامية شاملة لأين تكمن مصالح “ليلى” وهواها. فهل من نهاية لهذا الكابوس الطويل..؟

مقالات ذات علاقة

فريد الأطرش: المطرب والموسيقار

زياد العيساوي

المثقفون في المربع الأول

سالم العوكلي

المفكرة التاريخية: تأملات حول الولاء والهوية فكرا ومنهجا (1)

مفيدة محمد جبران

اترك تعليق